إن “المؤمن” في كل ما كتبه “فتح الله كولن” وما يكتبه اليوم، وكما يشخص سماته ويرسم ملامحه، ليس بالمؤمن السلبي والانكفائي والاعتزالي الذي يرى العالم يحترق، بينما يظل هو في مكانه يتفرّج على شبوب نيرانه وعلوّ لهبه من بعيد، وأن الأمر كله لا يعنيه بشيء، بل هو اقتحامي بكل معاني هذه الكلمة. يقتحم النيران، ويَشُقُّ ألسنة اللهب حتى لو أدَّى ذلك إلى احتراقه هو نفسه لكي ينقذ ما يمكن إنقاذه من هذا العالم الذي تتآكله من كل مكان ألسنة اللهب، مُتَدَرِّعًا بعظمة روحه، ومستنيرًا من الدخان بإشراف قلبه وعمق إيمانه وثقته بالمعية الإلهية والعناية الربانية.
إنه ممتلئ بالمعرفة والعرفان، والشفقة والإشفاق، والرحمة والحنان… ذو هيئة شمّاء، وهيبة وسناء، أخ للإنسان يمشي على الأرض هونًا… جبهته لصيقة التراب، وعيونه معلقة بالسماء… متواضع لا عن ضعف ومسكنة، هينٌ لا عن خوف، سهل لا عن انسحاق… قلبه من خشية ربه بارتجاف، وعينه بالدمع تطفح، ولسانه بالرحيق يُقطِّر… لا يرى نفسه شيئًا، ويرى كل شيء أفضل منه، وأقرب إلى الله منه… قوي في تواضعه، عميق في فكره، صموت في تفكره… إنه نجمٌ العالمُ به يهتدي، والزمان به يبتدي، قوله فصل، وحكمه ميزان، وللعالَم عقل وجنان، وللروح رِيٌّ واخضرار… طليق من أسار الأزمنة، هارب من قمقم الأمكنة… لا زمان يحده ولا مكان يحجزه، جوَّالُ آفاق، لا يسأم من الأسفار ولا يسقم من طول الاغتراب… صاحب رسالة، ورجل دعوة، وحامل راية، يموت لتظل خفَّاقة… إنه لغير الله لا ينحني، لآلام البشرية يبكي، وعليها ينحب ويحزن، ويئن ويألم، “يحملون قلبًا وخُلقًا نبويًّا عندما يتعاملون مع الناس، يحبّون الجميع، ويحتضنون كل شيء، يتعامَون عن رؤية أخطاء الآخرين، بينما يحاسبون أنفسهم على أتفة الأخطاء… يحبهم الله ويحبونه، ينفعلون دومًا بمشاعر الحب، ويعيشون نشوة هذه المشاعر…” كما وصف “كولن” المؤمنين المرجوين في مقاله الافتتاحي من “حراء”. و”كولن” عندما يرتقي بالمؤمن هذا الارتقاء، ويبعثه هذا الانبعاث إنما يفعل ذلك لكي يرسم للجيل الحاضر والأجيال الآتية من المؤمنين، الأفقَ الأعلى الذي يجب أن يكون مطمح أنظارهم، وموئل أفكارهم ومقصد غاياتهم. فأمثال هذا الجيل بصفاته هذه، وملامحه تلك، هو المرشح لقيادة الروح الإنساني من جديد، وانتشاله من وهدته وتصحيح مساراته.