يشهد العالم تحولاً ديموغرافيًّا متسارعًا مع ازدياد نسبة كبار السن في المجتمعات، مما أدى إلى ظهور مفهوم الاقتصاد الفضي (Silver Economy) الذي يركز على تلبية احتياجات هذه الفئة العمرية المتنامية. وفي السياق الإسلامي، تبرز الأوقاف كأداة مالية واجتماعية مستدامة يمكنها دعم هذا الاقتصاد من خلال توفير تمويل مستمر للخدمات والمشاريع الموجهة لكبار السن. والأوقاف بطبيعتها تعتمد على تخصيص أصول لتوليد عوائد تخدم أهدافًا خيرية، مما يجعلها أداة مثالية لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها كبار السن، مثل الرعاية الصحية، الإسكان، والإدماج الاجتماعي. وتهدف هذه الدراسة إلى استكشاف كيفية توسيع دور الأوقاف الإسلامية في تعزيز الاقتصاد الفضي في مصر، واقتراح حلول عملية لضمان تحقيق أقصى استفادة منها.
أولاً: مفهوم الاقتصاد الفضي وأهميته
الاقتصاد الفضي ليس مجرد مصطلح اقتصادي، بل هو رؤية شاملة تهدف إلى استثمار طاقات فئة كبار السن – أولئك الذين تجاوزوا الستين أو حتى الخمسين من العمر – وتلبية احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
وفي عالم يشهد ارتفاعًا في متوسط العمر المتوقع، أصبحت هذه الفئة تشكل نسبة لا يُستهان بها من السكان. ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، سيشكّل كبار السن حوالي 17% من سكان العالم بحلول عام 2030، أي إن أكثر من مليار إنسان سيحتاجون إلى خدمات ومنتجات تتناسب مع مرحلتهم العمرية. ويشمل الاقتصاد الفضي قطاعات متنوعة مثل الرعاية الصحية، التكنولوجيا المساعدة، الإسكان، والخدمات الترفيهية.
وتكمن أهمية الاقتصاد الفضي في قدرته على تحسين جودة حياة كبار السن، وتعزيز إدماجهم الاجتماعي، وتحفيز النمو الاقتصادي. فكبار السن ليسوا فقط مستهلكين، بل يمكن أن يكونوا منتجين من خلال المشاركة في سوق العمل أو في الأنشطة التطوعية. ومع ذلك، تواجه هذه الفئة تحديات عديدة مثل نقص الخدمات الصحية الملائمة، العزلة الاجتماعية، ومحدودية الموارد المالية، مما يتطلب حلولاً مبتكرة ومستدامة.
وهنا يأتي دور الوقف كآلية تمويلية تقليدية يمكن تكييفها لتلبية هذه الاحتياجات. فالوقف، بطبيعته المستدامة، يوفر مصدر دخل ثابتًا يمكن توجيهه لدعم الخدمات الموجهة لكبار السن، مما يجعله أداة فعالة لتعزيز الاقتصاد الفضي في المجتمعات الإسلامية وغيرها.
ثانيًا: تعاليم الإسلام حول رعاية كبار السن
يحتل كبار السن مكانة مرموقة في الإسلام، حيث يُنظر إليهم كمصدر للحكمة والخبرة. وتقدم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية إطارًا واضحًا للإحسان إليهم، مما يتماشى مع أهداف الاقتصاد الفضي.
1- بر الوالدين: الركيزة الأساسية
يُعد بر الوالدين من أعظم الأعمال في الإسلام، خاصة عندما يصلان إلى سن الكبر. يقول الله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾(الإسراء: 23).
هذه الآية لا تحث فقط على الرعاية المادية مثل توفير الطعام والسكن، بل تشمل أيضاً الرعاية المعنوية من خلال الكلام الطيب والمعاملة الحسنة. ويمكن ترجمة هذا المبدأ في الاقتصاد الفضي إلى إنشاء مراكز رعاية تقدم دعمًا شاملاً يحترم كرامة المسنين.
2- توقير كبار السن
يمتد احترام المسنين إلى ما هو أبعد من إطار الأسرة، كما في الحديث النبوي: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» (رواه الترمذي وأحمد).
هذا الحديث يرسّخ فكرة أن احترام المسنين جزء لا يتجزأ من أخلاق المسلم، مما يعزز مكانتهم كأعضاء فاعلين في المجتمع.
3- الإحسان إلى الجيران
يحث الإسلام على الإحسان إلى الجيران، خاصة إذا كانوا من كبار السن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» (رواه مسلم).
ويمكن أن يشمل هذا الإحسان زيارة المسنين، مساعدتهم في الأعمال اليومية، أو تقديم الدعم العاطفي، مما يعزز التكافل الاجتماعي.
4- الرحمة بالضعفاء
يُعَدّ المسنون من الفئات التي تحتاج إلى الرحمة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» (رواه الترمذي).
وهذا المبدأ يشجع على تقديم الدعم المادي والمعنوي للمسنين، خاصة أولئك الذين يعانون من الضعف الجسدي أو الاجتماعي.
5- تقدير خبرات المسنين
يُنظر إلى كبار السن كمصدر للحكمة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» (رواه ابن ماجه).
ويعزز هذا التقدير دورهم كمرشدين ومستشارين، مما يتماشى مع أهداف الاقتصاد الفضي في تسخير إمكاناتهم.
ثالثًا: الدور التاريخي للأوقاف الإسلامية
تاريخيًّا، لعبت الأوقاف دورًا محوريًّا في دعم المجتمعات الإسلامية، حيث ساهمت في تمويل المساجد، المدارس، المستشفيات، ودور الرعاية. وفي العصر الحديث، تطورت أشكال الأوقاف لتشمل استثمارات مالية متنوعة مثل الأسهم والسندات.
وتتميز الأوقاف باستدامتها، إذ تضمن استمرارية الدخل لفترات طويلة، مما يجعلها أداة مثالية لمواجهة التحديات طويلة الأمد مثل شيخوخة السكان. وعلى سبيل المثال، في الدولة العثمانية، كانت الأوقاف تدعم دور الإيواء للمسنين والفقراء، مما يعكس إمكانية تطبيق هذا النموذج في دعم الاقتصاد الفضي اليوم.
كما يمكن للأوقاف أن تلعب دورًا مزدوجًا: اقتصاديًّا من خلال تمويل المشاريع، واجتماعيًّا من خلال تعزيز التكافل والإدماج. وفي سياق الاقتصاد الفضي، يمكن توجيه الأوقاف لدعم المبادرات التي تستهدف كبار السن، مثل مراكز الرعاية، برامج التدريب، أو التكنولوجيا المساعدة، مما يعزز من جودة حياتهم ويساهم في تحقيق تنمية مستدامة.
رابعًا: الاقتصاد الفضي في مصر: التحديات والفرص
في مصر، حيث يعيش كبار السن في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية معقدة، يمثل الاقتصاد الفضي فرصة ذهبية لتحقيق التنمية المستدامة. لنلقِ نظرة على الوضع الحالي:
1- التحديات:
- ضعف البنية التحتية: قلة دور الرعاية المتخصصة أو المستشفيات المجهزة لتلبية احتياجات كبار السن.
- الفقر والمعاشات: يعتمد العديد من كبار السن على معاشات ضئيلة لا تكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم.
- نقص الوعي: الاقتصاد الفضي ما زال مفهومًا جديدً ا في مصر، ويحتاج إلى حملات توعية لإبراز إمكانياته.
- التحديات الثقافية: استمرار النظرة التقليدية التي ترى كبار السن كفئة غير منتجة، مما يحد من استثمار طاقاتهم.
2- الفرص:
- برنامج تكافل وكرامة: هذا البرنامج، الذي أطلقته وزارة التضامن الاجتماعي في عام 2015، يدعم حوالي 5.2 مليون أسرة، بما في ذلك كبار السن فوق 65 عامًا. ومع زيادة الدعم بنسبة 25% في أبريل 2025، يمكن أن يشكل نواة لتطوير الاقتصاد الفضي إذا تم توسيعه ليشمل خدمات غير نقدية، مثل التدريب أو الرعاية الصحية.
- التكنولوجيا المالية: يمكن تطوير تطبيقات رقمية تتيح لكبار السن الوصول إلى خدمات مالية وصحية بسهولة، مع مراعاة توافقها مع أحكام الشريعة الإسلامية.
- السياحة الفضية: تمتلك مصر مقومات سياحية ومناخًا معتدلاً يؤهلها لتطوير برامج سياحة علاجية “حلال” موجهة لكبار السن، على غرار النماذج الناجحة في ماليزيا.
- تمكين كبار السن: يمكن أن تسهم البرامج التدريبية لتعليم المهارات الرقمية أو الحرفية في تحويل كبار السن إلى قوة اقتصادية منتجة، مما يعزز كرامتهم ويقلل من اعتمادهم على المساعدات.
خامسًا: كيفية توسيع دور الأوقاف في الاقتصاد الفضي في مصر
في مصر، حيث يتجاوز عدد السكان 100 مليون نسمة، يمثل كبار السن حوالي 7% من الإجمالي (أي ما يقارب 7 ملايين نسمة وفقًا لإحصاءات 2023)، وهي نسبة مرشحة للزيادة مع تحسن الرعاية الصحية. غير أن هذه الفئة تواجه تحديات جمة، بدءًا من الفقر وضعف المعاشات، وصولاً إلى نقص خدمات الرعاية الصحية المتخصصة. وهنا يبرز دور الوقف الإسلامي، بمبادئه الراسخة في التكافل والعدل، ليقدم حلولاً مبتكرة تجمع بين المنفعة الاجتماعية والاستدامة الاقتصادية.
ويمكن التوسع في دور الأوقاف في الاقتصاد الفضي من خلال استغلال إمكاناتها كأداة تمويلية واجتماعية مستدامة عبر النقاط التالية:
1- تمويل خدمات كبار السن:
يمكن إنشاء أوقاف مخصصة لدعم مراكز الرعاية الصحية، ودور المسنين، أو برامج التأهيل والتدريب لكبار السن، بما يساهم في تحسين جودة حياتهم. فعلى سبيل المثال، يمكن تخصيص عوائد الوقف لتوفير خدمات طبية مجانية أو مدعومة، أو برامج ترفيهية وتعليمية مستمرة للمتقاعدين.
2- دعم الابتكار في الاقتصاد الفضي:
يمكن استخدام الأوقاف لتمويل الشركات الناشئة أو المشاريع التي تطور حلولاً تكنولوجية موجهة لكبار السن، مثل الأجهزة الطبية الذكية أو تطبيقات الرعاية المنزلية. كما يمكن إنشاء صناديق وقفية استثمارية تركز على دعم الشركات التي تقدم منتجات وخدمات مخصصة لهذه الفئة، مما يعزز النمو الاقتصادي في هذا القطاع.
3- تعزيز الإدماج الاجتماعي:
يمكن للأوقاف أن تدعم برامج تهدف إلى دمج كبار السن في المجتمع، مثل مراكز تعليمية أو ثقافية تشجعهم على المشاركة النشطة، مما يقلل من العزلة الاجتماعية ويعزز إنتاجيتهم. كما يمكن تمويل برامج تدريب مهني لكبار السن الراغبين في العمل بعد التقاعد، بما يساهم في تنشيط الاقتصاد المحلي.
4- الاستدامة المالية:
يوفر الوقف مصدرًا ماليًّا مستدامًا لا ينضب، بما يضمن استمرارية الخدمات المقدمة لكبار السن حتى في ظل التحديات الاقتصادية. كما يمكن تنويع استثمارات الأوقاف (مثل العقارات، الأسهم، أو السندات) لضمان عوائد مالية مستقرة تدعم مشاريع الاقتصاد الفضي.
5- تعزيز الشراكات بين القطاعات:
يمكن للأوقاف أن تكون جسرًا للتعاون بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، حيث تساهم في تمويل المشاريع المشتركة التي تخدم كبار السن. فعلى سبيل المثال، يمكن إنشاء أوقاف مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص لتطوير بنية تحتية صديقة لكبار السن، مثل وسائل النقل العام المكيّفة أو المساكن الملائمة.


