إدارة المعاناة: من محنة الألم إلى منحة المعنى

قراءة في مسارات المعاناة الإنسانية من النبوة إلى علم النفس

“ما دام في القلب نبضٌ، ففي المعاناة بذورُ نهضة، وفي الألم دعوةُ عروج”.

المعاناة.. سؤال الإنسانية الأزلي

تأتي المعاناة في مسيرة الإنسان لا كضيف عابر، بل كرفيق قديم، يحمل في طياته الأسرار والمآسي، ويترك في الروح ندوبًا لا تُرى، ولكنها تُشكّل. لم تكن المعاناة يومًا نقيض الحياة، بل أحد أوجهها الأصيلة، بل لعلها أكثر ما يُصقل جوهر الإنسان، ويكشف معادن القلوب، ويُربّي النفوس على معارج الكمال.

وقد تواطأت الرسالات، واجتمع الحكماء، وانبرى المفكرون، ليجيبوا عن سؤال جوهري: هل يمكن أن تُدار المعاناة؟ ليس لننفيها، بل لنجعل منها جسرًا يُفضي إلى المعنى، لا هاويةً تبتلع الإيمان والرجاء.

في هذا المقال نرتحل عبر التاريخ والوجدان، نقتبس من سيرة الأنبياء، ونماذج الصحابة والسلف، ثم نلتمس من تجارب العارفين، وصولاً إلى النفسانيين المعاصرين، رؤًى حول إدارة المعاناة بوصفها فنًّا تربويًّا وروحيًّا، لا مجرد آلية تحمّل أو صبر سلبي.

الأنبياء: مدرسة الألم الرباني

لم يكن طريق الأنبياء مفروشًا بالورود، بل كانت المعاناة جزءًا من تكوينهم التربوي وصياغتهم الروحية.

يوسف عليه السلام، فتى الأحلام النقي، أُلقي في الجب صغيرًا، وبيع بثمن بخس، وسُجن مظلومًا، ولكنه خرج من السجن محمّلاً بالحكمة، قائلاً: ﴿إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ﴾[يوسف: 90].

لقد كانت محنته جسرًا لوصوله إلى منصة العطاء والتمكين، ومن أعماق السجن نبتت بذور إنقاذ مصر من المجاعة.

أما أيوب عليه السلام، فقد لبث في بلاءٍ جسدي ونفسي طويل، لكنه لم يفقد صلته بالله، وقال في لحظة قمة الانكسار: ﴿رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ﴾[الأنبياء: 83]. فكان النداء عنوانًا لإدارة الألم بلغة الحب والرجاء.

الصحابة والسلف: المعاناة طريق التربية والصفاء

في حياة بلال بن رباح، كان التعذيب على رمضاء مكة لا ينطفئ، ولكنه استحال إلى “أحدٌ أحد”، تلك الكلمة التي لم تكن مجرد توحيد، بل إعلان مقاومة للألم.

وخباب بن الأرتّ كان يُكوى بالنار حتى لا يُعرف ظهره من بطنه، ولكن قلبه لم يحترق، بل استضاء.
وهكذا كانت معاناة الصحابة لا تقودهم إلى الانكسار، بل إلى الاصطفاء.

أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن، وُضِع في السجن، وابتُلي في بدنه، لكنه كان يقول: “بيننا وبينهم يوم الجنائز”. لقد أدرك أن إدارة المعاناة ليست بصراخ أو جدال، بل بصبر واعتزاز وطمأنينة رسالية.

ابن تيمية: السجن نعيم والانقطاع وصال

حينما أُلقي ابن تيمية في ظلمات السجن، لم يَضِق صدره، بل قال كلمته الشهيرة: “ماذا يفعل أعدائي بي؟ إن جنتي في صدري، إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة”.

لقد حوّل السجن إلى محراب علم وخلوة قرب، وكتب فيه أعظم مؤلفاته. لم تكن المعاناة عنده عائقًا، بل وسيلة لتحقيق الكمال الإنساني.

ابن القيم: من رفقة المحنة إلى بصيرة المعنى

ولما سُجن مع شيخه ابن تيمية، كان ابن القيم شاهدًا حيًّا على جمال المعاناة حين تُدار بالإيمان، فكتب في مدارج السالكين: “إن المصائب تُرسل للعبد من باب اللطف الخفي، حتى تخرج من قلبه شوائب الغفلة، وتُوقظ فيه بصر البصيرة”.

لقد تعلّم من محنة السجن أن الألم ليس شرًّا مطلقًا، بل قد يكون حارسًا من الغفلة، ومعلمًا في درب القرب.

سعيد النورسي: المعاناة في سبيل الرسالة

أما سعيد النورسي، فلم يكن نزيل سجون فحسب، بل سجين فكرة وصاحب معاناة مستمرة. نُفي مرارًا، ووُضِع تحت الرقابة، وسُجن طويلاً، لكنه ظلّ يكتب رسائل النور، يخطّها على أوراق نادرة، أو يعلّمها للناس شفهيًّا.

كان يقول: “المعاناة شرف للنفوس التي تشتاق إلى الصفاء، وليست عقوبة لمن ذاق لذة التجلّي”.
لقد رأى أن كل عذاب جسدي هو فرصة لاختبار صدق الإيمان، وتربية النفس على التوكل، وتحقيق الفناء في الرسالة.

فيكتور فرانكل: المعنى فوق الألم

وفي القرن العشرين، كانت تجربة فيكتور فرانكل الطبيب النمساوي، الذي قُذف في أتون المحرقة النازية، فسُجن في أوشفيتز.

هناك، وسط الموت والجوع والإذلال، لم يسقط في العدم، بل خرج بنظرية “العلاج بالمعنى” (Logotherapy).
كان يرى أن الإنسان يمكنه أن يحتمل كل شيء “إذا وجد معنى لما يمر به”.

وقال: “نحن لا نسأل عن معنى الحياة، بل هي من تسألنا”.
وكتب بعد نجاته: “أولئك الذين عرفوا لماذا يعيشون، استطاعوا أن يحتملوا أيَّ كيف”.

من المعاناة إلى الرسالة

المعاناة ليست قدرًا أعمى، بل قد تكون نداءً علويًّا لإعادة ترتيب الداخل، وتحقيق الترقي الإنساني.

من يوسف إلى النورسي، ومن ابن القيم إلى فرانكل، تتعدد اللغات لكن الرسالة واحدة: “إن الألم، حين يُدار بإيمان، ويُصاحب بالبصيرة، يتحوّل من وجع إلى معنى، ومن محنة إلى رسالة”.

ولعلّ هذا هو السبيل الذي أراده الله لعباده: أن يصوغهم بالنار، لا ليحترقوا، بل ليصيروا نورًا لغيرهم.
فليست إدارة المعاناة مجرد مهارة نفسية، بل هي تكوين رباني، وتزكية باطنية، ورسالة إنسانية.

المراجع:

– القرآن الكريم.

– صحيح البخاري، باب ما يُذكر في السجون.

– ابن تيمية، الرد على المنطقيين.

– ابن القيم، مدارج السالكين.

– الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء.

– سعيد النورسي، رسائل النور.

– Viktor E. Frankl, Man’s Search for Meaning, Beacon Press, 2006.

– عبد الكريم بكار، التفكير الإبداعي.

– فريد الأنصاري، مفاتح النور.