لك أن تتخيل وأنت تسير وسط عالم مليء بالغيوم ما قد يصيبك من أذى، لأنك لا تدري أين تذهب ولا كيف تتجه، بل ولا تعرف حتى أين تضع موضع قدمك. أسئلة كثيرة تعتريك، ومخاوف عظيمة تنتابك وأنت تخترق صفوف الظلام على أمل أن ترى النور يومًا.
هذا هو شأن الإنسان الذي آثر أن يبتعد عن منهج الله تعالى؛ فتراه يسير في الأرض حيران، تتخبطه غيوم الجهل وتأخذه متاهات الأوهام، فكلما نجا من واحدة زلت قدمه لأخرى، وهكذا لا يستقيم له بنيان ولا يُرجى له قرار.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وصوَّره في أحسن صورة فقال: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)(التين:4)، وأمدَّ له الكون بما فيه لخدمته، وأعطاه ما لم يعطِ غيره من المخلوقات من فضائل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الإسراء:70). وبجانب هذا كله، وضع له منهجًا يحميه من غوايات البشر ومكائد الشيطان، وجعل له عِبرة فيمن سبقه من بني جنسه يستفيد من تجاربهم، ويستنير بهدايتهم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام:153)، ومع ذلك يؤثر مناهج البشر على منهج الله سبحانه وتعالى، فيزرع في وادٍ غير ذي زرع، في تحدٍّ عقيم وتبلد جسيم!
جدل الأخلاق بين الفلاسفة
كثرت كلمات العلماء قديمًا حول مناهج الأخلاق وعلاقتها بالإنسان، في محاولة منهم للإجابة عن تساؤل مهم زَفَّته لهم طبائعُ عصورهم، وهذا التساؤل هو: هل بإمكان الإنسان أن يعيش بلا أخلاق، ويتعامل مع غيره بواقع المنفعة؟
وقد اجتهدوا في إجابة هذا التساؤل، وطالت أبحاثهم في ذلك؛ فمنهم من رأى أن المنفعة وحدها هي التي تحدد سلوك الإنسان الأخلاقي، فمصلحة الفرد عنده هي النطاق الأخلاقي الذي يتحرك فيه مع غيره، وكلما استطاع انتزاعها دونما إضرار زاد -في نظرهم- ترقِّيه الأخلاقي. لكن هناك من اعتبر استحالة أن يعيش الإنسان بمعزل عن الأخلاق، وقد انتشرت نظرياتهم التي همَّشت نظرية النفعية إلى حد كبير.
لكن وقَع الخلاف بينهم من جديد حول مصدر هذه الأخلاق، ومن أين يكتسبها؟ وبعيدًا عن النظريات الفلسفية الكثيرة، فإن نظرة فاحصة على الكون، هدت بعضهم للإذعان لقوة علوية تحكم الكون وما فيه، وأن مردَّ كل ما يصلح للإنسان -باعتباره وحدة بناء هذا الكون- إلى هذه القوة التي هي عندنا نحن المسلمين “الله”، فالله وحده هو مصدر كل خير للبشرية، وقد وضع للكون نظامًا محكمًا، فيه أسباب بقائه وحياته المستقرة: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك:14).
واقع مرير
المؤسف في الأمر، أنه -وبعد انتهاء التنظير القديم حول ماهية الأخلاق ومصدرها، والإجابة عن تساؤلات الأمس- لا يزال منَّا من يعيش هذه المرحلة المتأخرة، محكِّمًا مصلحته الشخصية فوق المصلحة العامة، متأثرًا إلى حد بعيد بتلك الكلمات التي تُعارض منهج السماء.
فإن كان السفسطائيون يقولون: “إن اللذة هي علامة العدالة، وإنها هي سيادة الأقوى وإذعان الأضعف له، وإن الجميع يبتغون السعادة، فلا ضرورة للخضوع لأي قانون، لأنه يكفي أن يتعهد الإنسان في نفسه أقوى الشهوات حتى تتحقق العدالة والفضيلة والسعادة، إذ على الشخص أن يستخدم ذكاءه وشجاعته لإرضاء شهوته مهما بلغت من قوة”، فإنه قد أصبحت الأخلاق الحديثة تُستمد من القيم المادية النفعية، تحدوها ميكافيلية صريحة، وأضحى التعامل الاجتماعي قائمًا على رابطة المصلحة وحدها، وعلى الأخلاق التجارية.
ويا ليت المنادين بالنفعية اقتصرت كلماتهم على ما يحقق ذواتهم ويشبع رغباتهم، لكنهم اتخذوها مذهبًا دعوا إليه وحرصوا على وجوده، وأخذوا يُعْمِلون فيه عقولهم بالتطوير والتقنين. فلقد تطور هذا الاتجاه النفعي في أوروبا وأمريكا، وأخذ صورًا مختلفة (شخصية، عامة، وعلمية)، وهذا الأخير هو “المذهب البراغماتي” الذي يمثله “جون ديوي”.
وما يؤسَف له فعلاً، وقليل من ينتبه إليه وسط حالة من الضبابية والنفعية التي سيطرت على العالم العربي والإسلامي، أن “جون ديوي” ممثل المذهب البراغماتي، يُرجع المُثُل الأخلاقية إلى نتائج الظروف الواقعية للإنسان، فهي عنده إذن ليست مبادئ مطلقة ثابتة يضعها الفلاسفة، كما أنها ليست من وضع المجتمع ولا من وضع السماء.. فأي خطأ يُحتقر، وأي بلاء يُنتظر؟
المسؤولية الأخلاقية والمخرج المنشود
يركز الأستاذ “فتح الله كولن” -رحمه الله- على أهمية المسؤولية الأخلاقية تجاه المجتمع، ساخرًا من العبارات التي تستهزئ بها، كقول البعض: “الربان الماهر هو الذي ينقذ سفينته”، قائلاً: “ليس شيء من هذا يخطر على قلب مؤمن”. ثم يبين أنه لا يليق بشعورنا بالمسؤولية أن نستنكر عدم الشعور بالمسؤولية ثم نمضي، لأن هذا جزء من الانحراف الفكري، وعلينا أن نحمل المسؤولية، ونبث الروح الجديدة في دنيانا، مشبعة بالإيمان وحب الإنسان والحرية، وتجهيز البيئة لترسيخ الجذور المعنوية.
ويوضح الأستاذ “كولن” أنه لا بد من إصلاح هذا الانحراف؛ “لتظهر آثار الشعور بالمسؤولية على علاقة العامل بالعمل، والزارع بالزرع، والمعلم بالطالب، وليتحقق كل ما كنا ننتظره منذ عصور”.
ويختم الأستاذ “كولن” هذا المعنى بقوله: “لا بد من ضبط كل جهد بالمسؤولية؛ فطريقنا حق، وقضيتنا حمل الحق، وغايتنا تحري الحق، لذا وجبت علينا صدقة الإرادة، وهي تحمّل المسؤولية والجهاد المعنوي، بالعلم والأخلاق والحق والفضيلة، فلْنلُم شعث أمتنا، لنعيش معاني “الانبعاث بعد الموت” عن طريق الاتصال بلواء الحمد”.
منهج الله في خلقه
إذا كان الإنسان هو صنعة الله تعالى، فهو وحده -سبحانه- الذي يعلم ما ينفعه وما يضره، لذا فقد وضع الله سبحانه وتعالى له منهجًا اشتمل على أسباب عيش الإنسان في الحياة بلا كدر أو ضيق، وإن أعرض عنه ورفضه لازمته الحسرة والندامة، وحلت به أسباب الشقاوة والتعاسة، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)(طه:124).
وهذا المنهج الإلهي، لا يقتصر على تنظيم الأخلاق فحسب، بل هو بمثابة خطة عبور من الدنيا إلى الآخرة، حيث جنة الله ورضوانه بأمان وسلام. وهذا المنهج -بلا شك- اشتمل على المنهج الأخلاقي الذي ينظم حياة الإنسان بغيره من البشر، بل وبغيره من الكائنات.
فالآخر الذي يتفاعل معه الإنسان ويأخذ منه ويعطيه، ليس شرطًا أن يكون بشرًا؛ فالجمادات في النظام الأخلاقي الإسلامي لها حقوق، كما الطير والنباتات والحيوانات. والناظر في سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم، يرى كم اهتم الرسول الكريم بشأن هذه الأشياء؛ فلقد دخلت امرأة النار في هرَّة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ودخل آخر الجنة في كلب وجده يلهث من شدة الحر فسقاه. ولقد أقر الإسلام في نظامه العام، أنه “في كل كبد رطبة أجر”. ومن لا يعلم الصحابي الجليل “عبد الرحمن بن صخر” الذي ارتبطت كنيته بكائن ضعيف هو “الهرة”، حتى صارت عَلمًا عليه (أبو هريرة)؟
ولم يقف الأمر عند الحيوانات فحسب، بل كان من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحروب، ألاَّ يقطع شجرًا، ولا يحرق بيتًا، ولا يهدم خيمة على أحد يتعبد فيها.. في تأصيل بديع لخلق عظيم، وهو خلق الرحمة.
الرحمة في الإسلام
الرحمة، وهي واحدة من عناصر النظام الأخلاقي في الإسلام، اتسع مفهومها حتى شمل الحياة بأسرها؛ ففي الحديث النبوي الشريف: “لن تؤمنوا حتى تَراحموا”، قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم. قال: “إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة” (رواه الطبراني).
وإذا كان هذا هو الشأن في مراعاة الإسلام للأخلاق مع غير الإنسان، فما بالنا بهذا المخلوق المكرم؟ لقد نظم الإسلام علاقة الإنسان بأخيه الإنسان أيًّا كان دينه ومعتقده، فجعل لكلٍّ حقوقًا، وعليه واجبات، تختلف باختلاف صفة هذا الإنسان؛ جارًا كان أو زوجًا، أو أبًا أو أمًّا، أو صديقًا أو غير ذلك.
نظام أصيل
فالأخلاق في الإسلام ليست نافلة، بل هي منهج قويم ونظام أصيل، مرتبط بشدة بالعقيدة. وما أحسن ما عرّف به الأستاذ “فتح الله كولن” الأخلاق حين قال: “الخُلُق يأتي بمعنى رسوخ الدين، والعيش به، وامتثال القرآن دون خلل”. ويستدل على هذا، بجواب أمِّنا عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابت: “فإن خلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن” (رواه مسلم). كما يستشهد بقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4).
ويشرح الأستاذ “فتح الله كولن” -رحمه الله- قائلاً: “الآية الكريمة تذكّر بالذات الإلهية، لأنه هو المتكلم، ويشهد بالخلُق العظيم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم تبين الآية مصدر هذه الأخلاق، وأنها قرآنية تجلت وظهرت على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهي أخلاق لا تقاس بأي نظام آخر إطلاقًا”.
جزاء الالتزام بالأخلاق وعاقبة التفريط فيها
يترتب على الالتزام بالأخلاق ما أعده الله للمؤمنين في الجنة، وعلى تركها والتفريط فيها ما أعاذ الله منه عباده من النار؛ فالعبادات -على جلال قدرها- لا تشفع لمنتهكي الأخلاق الذين يعيثون في الأرض فسادًا.
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، فلانة تصوم النهار وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها؟ قال: “هي في النار”. قالوا: يا رسول الله، فلانة تصلي المكتوبات، وتَصَّدَّقُ بالأَثْوار من الأَقِطِ، ولا تؤذي جيرانها؟ قال: “هي في الجنة” (رواه الإمام أحمد).
جعلنا الله من المتمسكين بمنهجه، السائرين على درب نبيه، الملتزمين بأخلاق الإسلام قولاً وعملاً.
(*) كاتب وصحفي مصري.
المراجع
(1) ونحن نقيم صرح الروح، محمد فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ٢٠٠٨م.
(٢) التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، محمد فتح الله كولن، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، ٢٠٠٦م.