قراءة في كتاب “النور الخالد” للمفكر العلامة محمد فتح الله كولن
ألف المفكر الراحل الكبير الأستاذ محمد فتح الله كولن كتابه الرائد “النور الخالد” بقلب المؤمن المحب، وعقل المحقق المدقق، فجاء هذا السفر العظيم على هذا النحو الجليل الجميل، الذي يقود القلوب والعقول إلى حب سيد الخلق أجمعين، والاقتداء بصاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم.
ويكفي أن ننظر إلى تساؤلاته: هل استطعنا أن نفهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلطان القلوب المتربع على عرش الأفئدة حق الفهم، وندركه حق الإدراك؟
ولكن ما بالي أشير إليكم، أو أعنيكم؟ ما بالي أنا؟ هل استطعتُ أن أشرح جوانب عظمته كما يجب، وأكشف معالم شخصيته كما ينبغي؟ أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا أدَّعي أنني وضعت الطوق حول عنقي لكي أكون “قطميرًا” له. هل استطعت أن أشعركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يليق بجوانب هذه العظمة؟ إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبه.. حب سيد السادات حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نُبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته ـ صلى الله عليه وسلم؟
إن الأسرة هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع كله؛ ولذا فقد أولاها نبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الاهتمام والعناية والتوجيهات النبوية ما يكفل الحفاظ على تماسكها وبنائها على أفضل الأسس الاجتماعية والتربوية والنفسية. ولهذا، فقد ربط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين رب الأسرة أو رئيسها في علاقته مع أفراد أسرته وبين رئيس الدولة في علاقته مع مواطنيه، حينما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: “كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته. الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسئول عن رعيته. والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها. والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته. وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته” رواه البخاري ومسلم.
ويُعلق الأستاذ فتح الله كولن على هذا الحديث الشريف بقوله: ترد كلمة “راعٍ” بمعنى الشخص الذي يحرس ويصون ويُراقب ويهتم. لذا، أُطلقت كلمة “الراعي” على الشخص الذي يحفظ الحيوانات الموجودة في عهدته ويصونها من الحيوانات المفترسة ويجد لها أفضل المراعي، وعندما يقوم بمهمته هذه يكون بفطرته السليمة بعيدًا عن كل حرص معيب، ويكون شغله الشاغل الرحمة والشفقة التي يحسها تجاه قطيعه حيث يتألم بألمه ويسعد براحتِه.
وهكذا، فإن العلاقة بين رئيس الدولة وبين المواطنين تشبه ـ في وجه من الوجوه ـ هذه العلاقة. كما أن على ممثليه في الدوائر المختلفة وعلى مختلف المستويات مراعاة أحوال من هم تحت أيديهم ومقاسمتهم آلامهم وأفراحهم وأن يهيئوا لهم مستقبلاً آمنًا وسعيدًا ويجابهوا المشكلات التي تعترضهم.
فالعلاقة نفسها موجودة عند رئيس الأسرة، فهو المسؤول الأول عن نفقتهم وكسوتهم ومسكنهم، ثم عن تعليمهم وتربيتهم وحُسن معاشرتهم وإرشادهم إلى الطرق التي توصلهم للسعادة في الدار الآخرة، والأمر نفسه يرد في علاقة المرأة بزوجها في تدبير شؤون بيتها والمحافظة على مال زوجها وعِرْضِه.
فالإسلام من بين كل النظم والأديان هو النظام الوحيد في الحياة الذي بيَّن مسؤولية كل شخص، حتى أدق تفاصيلها، بدءًا من رئيس الدولة وانتهاءً بالخادم في المنزل، وذلك في عهد لم يرَ أحد الديمقراطية حتى في المنام! وليس ثمة نظام حياتي آخر يستطيع منافسته في هذا الصدد، يبدو هذا جليًّا من توضيح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمسئولية الإمام ووظائفه ومهامه، ثم يُذكِّرُ بمسؤوليات الرجل والمرأة ـ كلٌّ على حدة ـ وفي مواطنها المختلفة، ويُحمِّل كلا منهما مسؤوليته.. مسؤولية الأب نحو ابنه، ومسؤولية الابن نحو أبيه. كمْ بَحَثَ عن حقوق ومسؤوليات العمال والخدم في وقت مبكر جدًّا ـ إن أخذنا التطور العالمي في الحُسبان ـ كما قدَّم حلولًا للمشاكل الاجتماعية قبل حدوث الهَزّات الاجتماعية في تاريخ البشرية.
من حقوق النساء
إن الغرب الذي يتيه ويدل الآن بحضارته، وينعى على كثير من الدول الشرقية نكوصها وتخلفها في معاملة المرأة ـ بشكل عام ـ سواء أكانت أمًّا، أو ابنة، أو زوجة، أو أختًا، أو حتى زميلة أو جارة، فإن حضارته تلك لم تشفع له في الانتقال بها إلى درجة تقترب حتى ولو من بعيد، من عشر مِعشار الدرجة الرفيعة التي وضعها فيها الإسلام على يد رسوله الكريم.
وفي خطبته، في حجة الوداع، يوصي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته بالنساء فيقول: “أيها الناس.. استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوانٍ (أي بمثابة الأسرى) لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا. فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت” ذكره ابن هشام مختصرًا.
ولننظر إلى بعض ما قدمه الإسلام ورسوله الكريم للمرأة ـ في أية وظيفة اجتماعية كانت ـ ولنأخذ أولًا نظرته للأم، فماذا قال بشأنها؟
عقوق الأم
لم تعد الأخبار التي تحملها إلينا كل يوم وسائل الإعلام المختلفة، من مسموعة ومقروءة ومرئية، حول عقوق الأولاد لآبائهم وأمهاتهم تثير انتباهنا لكثرتها الكاثرة، حتى إننا قد نفاجأ بمن يلجأ إلى قتل أحدهما أو كليهما، ظنًّا منه أن في هذه الجريمة البشعة حلًّا لمشكلاته الخاصة، التي قد تتلخص في التعجيل بحصوله على الميراث، أو الاستيلاء غير المُسوَّغ على شقة أمه أو أبيه، أو ما شابه ذلك من أمور الدنيا الفانية. ولهذا، يقول خير من قال من البشر – صلى الله عليه وسلم: “إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال”. رواه البخاري ومسلم.
ويعلق فضيلة الأستاذ فتح الله كولن على هذا الحديث الشريف بقوله: إن الابن الذي يعق أمه ويعصيها كأنه يقطع كل حقوق العلاقة بينه وبينها، ويدفعها نحو الوحدة. ومع أن عقوق الأب مُحرَّم أيضًا، إلا أن ذكر الأم هنا ينبع من كون النساء أكثر حاجة للحماية، وكذلك لكونها أرق شعورًا وإحساسًا؛ لذا، فإن عقوقهن يجرح شعورهن بشكل أقوى، ويزيد في حزنهن. ولأن الأب يشترك مع الأم في حقها على الابن، فإن عقوق الأب حرام أيضًا، ولكن لا يمكن قياسه بحرمة عقوق الأم.
والله تعالى حينما يأمرنا بالإحسان إلى الوالدين، يُذكِّرُنا في الآية نفسها بما فعلته الأم وما قاسته من آلام، لكنه ذكر الأب مع الأم بصيغة “والديه”، ولم يُذكِّرنا بمعاناة الأب – بشكل خاص – وذلك في قوله تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن”(لقمان: 14). وقوله تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه إحسانًا حملته أمه كرهًا ووضعته كرهًا”(الأحقاف: 15). وهناك أيضًا الحديث النبوي الشريف الذي أجاب فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – عن تساؤل أحد الصحابة حينما سأله: “من أحق الناس بصحبتي يا رسول الله؟” قال النبي – صلى الله عليه وسلم: “أمك”. قال: ثم من؟ قال: “أمك”. قال: ثم من؟ قال: “أمك”. قال: ثم من؟ قال: “أبوك”.
من حقوق الزوجة
اعتادت آذاننا على سماع المشاحنات الزوجية، سواء فيما حولنا من جيران، أو حتى في جهات العمل، أو في الشارع الذي نسير فيه، أو حتى في وسائل المواصلات التي نستخدمها، ومن لم يحظَ بهذا “الشرف العظيم” (!) من خلال ما تقدم ذكره، فإن الأخبار تسوق إليه كل يوم الكثير والكثير منها، والملفت للنظر أن مثل هذه المشاحنات لا تكثر إلا في أوقات الخير والرحمات، مثل شهر رمضان وأيام الأعياد والمواسم الدينية المختلفة، وعادة ما تكون الأسباب مادية! ولو عرف الرجل حق زوجته عليه، من الناحية الإسلامية، وتعاليم رسوله الأمين – صلى الله عليه وسلم – في هذا الصدد، لم يسمح بذلك، ولم يترك الأمور لتسير في هذه الناحية المنهي عنها.
فليس ثمة مثيل آخر لما أعطاه النبي – صلى الله عليه وسلم – للمرأة من قدر وقيمة، لا قبل بعثته ولا من بعدها، وإذا كنا قد التفتنا في المثل السابق لما قرره – صلى الله عليه وسلم – من حقوق نحو الأم، فلنتجه الآن إلى الزوجة، وهي شريكة الرجل في تدعيم أسس البيت المسلم وإقامة دعائمه على كل ما يُرضي الله تبارك وتعالى، والبعد به عن كل ما يشين أو يهين. ولننظر إلى زوجته الأولى السيدة خديجة – رضي الله عنها وأرضاها – وهي مثل طيب للمرأة التي تُكْمِلُ حياة الرجل العظيم.
إنها امرأة عريقة النسب، ممدودة الثروة، وقد عُرفت بالحزم والعقل؛ ومثلها مطمع لسادة قريش، لولا أن السيدة كانت تُحقر في كثير من الرجال أنهم طلاب مال لا طلاب نفوس، وأن أبصارهم ترنو إليها بُغية الإفادة من ثرائها، وإن كان الزواج عنوان هذا الطمع! لكنها عندما عرفت محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وجدت ضربًا آخر من الرجال، وجدت رجلاً لا تستهويه ولا تدنيه حاجة. ولعلها حينما حاسبت غيره في تجارتها، وجدت الشح والاحتيال، أما مع محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد رأت رجلاً تقِفُه كرامته الفارعَة موقف النُّبل والتجاوز، فما تطلع إلى مالها ولا إلى جمالها. لقد أدى ما عليه ثم انصرف راضيًا مرضيًّا.
وهذا هو النموذج المثالي الطيب للرجل العفيف، والزوج الصالح، لو اقتفى أثرَه وتأسَّى به أزواج اليوم، لكان في هذا حل لكثير من المشكلات الزوجية المعاصرة! فمن مبادئ الإسلام الثابتة: استقلال الذمة المالية للمرأة، فلها أن تتصرف في مالها كيفما تشاء، وليس لزوجها أن يحصل على شيء من مالها إلا برضاها، عن طيب خاطر.
إن غُصْنه تشبث بالحياة، فاستطاع البقاء والنماء برغم فقدانه أبويه، وها هو ذا يرى أغصانه المنبثقة عنه تذوي، مع رغبته العميقة ورغبة شريكة حياته – رضي الله عنها – في أن يرياها مزهرة مثمرة، وكأن الله أراد أن يجعل الرقة الحزينة جزءًا من كيانه! فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الآلام، فهو أسرع إلى مواساة المحزونين، ومداواة المجروحين.
معاملته لأزواجه وعدله بينهن
أما عن عدله بين أزواجه فحدِّث ولا حرج، فلو زار في إحدى الليالي إحدى زوجاته للسؤال عنها، فإنه كان يطوف على زوجاته الأخريات أيضًا للسؤال عنهن. إذ لم يكن يظهر أي فرق من ناحية معاملته لهن. وكانت كل واحدة منهن ترى أنها أقرب إلى قلب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم. وكان هذا ينبع من مروءته التي لا مثيل لها. غير أنه لما كان الإنسان عاجزًا عن التحكم في قلبه، فإن تكليفه بما لا يُطاق لم يكن واردًا. لذلك كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول مستغفرًا الله: “اللهمَّ هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمْني فيما تملك ولا أملك”. النسائي وأبو داود والترمذي.
ويُعلق فضيلة الأستاذ كولن على ذلك فيقول: ما أروع هذا اللطف وهذه الرقة وهذا الظرف! وأنا أسألكم: هل راعيتم هذه الدقة في المعاملة بين بنتين من بناتكم أو بين ولدين من أولادكم؟ اسمحوا لي أن أقول “لا” نيابة عنكم.. أجل “ألف مرة لا”، ليس هذا فقط، بل إننا إن استطعنا ضبط عواطفنا وعدم إظهارها عددْنا هذا من مفاخرنا وعلامة على قوة إرادتنا، بل ربما تحدثنا فخورين بذلك، بينما يستغفر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربه لاحتمال أن يخطر بباله ميل أكثر نحو إحداهن.
تقديره لنسائه واستشارته لهن
كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجلس إلى أزواجه ويتحدث معهن، وأحيانًا يتذاكر معهن بعض المسائل. ولم يكن في الحقيقة في حاجة إلى آرائهن لأنه كان مؤيدًا بالوحي، ولكنه كان يريد أن يُعَلِّم أمته أمرًا، وهو رفع شأن المرأة ومكانتها؛ وذلك خلافًا لما كانت عليه في الجاهلية، ومن ثمَّ بدا هذا عمليًا في بيته.
وقد ذكر فضيلة الأستاذ كولن ما حدث في “صلح الحديبية”، حينما استشعر المسلمون قسوة شروطه، لدرجة أن بعضهم فقد القدرة على النهوض من مكانه، وفي تلك الأثناء أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نوى العمرة القيام بذبح ذبيحته والتحلل من الإحرام. غير أنه وجد تباطؤًا من بعض الصحابة في القيام بما أشار به ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمل أن يحدث تغيير لهذا الأمر.. ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كرر الأمر ثانية غير أن الصحابة ظلوا على الأمل نفسه، فقد خرجوا من المدينة على أمل الطواف حول الكعبة.
حينما شاهد النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الأمر لدى الصحابة دخل خيمته واستشار زوجته أم سلمة؛ ليُعلِّم أمَّته درسًا اجتماعيًّا بمشورته هذه مع إحدى زوجاته، وكانت أمُّ سَلَمَة امرأة ذات فِطنة، قالت: “يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك”. وقد كان هذا ما يفكر فيه بالضبط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذا أخذ سكينًا وخرج فنحر بدنة وحلق شعره. فلما رأى الصحابة ذلك قاموا ففعلوا ما فعل. وبهذا انتهت المشكلة! ويُعلق الأستاذ كولن على هذا قائلًا: ومثل أيِّ أمر آخر، فإن الشورى والمشورة طُبِّقت في بادئ الأمر في بيت النبوة؛ إذ كان يستشير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زوجاته، ولم نصل نحن بعدُ إلى مستوى هذا الأمر، ولا نعرف كيف نفتح مغاليق هذا الباب السِّري؛ بل لم نصل بعدُ إلى الطرْق على هذا الباب… وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتصرف بلطف مع النساء، فإنه بأحاديثه كان يشجع مثل هذا التصرف، يقول في أحد أحاديثه: “أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخِيارُكُم لنِسائِهم خيارُكم خُلقًا” الترمذي وأبو داود والدارمي. وهكذا يظهر أن قضية المرأة، وهي تحاول أن تحقق ما تصبو إليه في هذا الزمن من تاريخ الإنسانية، فقد حققت أفضل منه من قبل في العهد النبوي.
شفقته بأبنائه وأحفاده
دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمريم التي بعث بها المقوقس إليه بعد أن أسلمت، وحملت منه، ثم وضعت له ابنًا أسماه إبراهيم، باسم جده أبي الأنبياء، ولم يُعَمَّر طويلًا إذ مات وهو رضيع. قال أنس: لقد رأيته وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله. فدمعت عينا النبي ثم قال: “تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرْضِي ربَّنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون”. صحيح البخاري.
واتفق أن الشمس كسفت في ذلك اليوم، فتحدث الناس أن الشمس كسفت لموت ابن النبي، لم يستغل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الظاهرة الطبيعية أو حتى يغض الطرف عنها، بل قام النبي مُصليًا، ثم أراد هذا النبي الصادق الأمين أن يُعلمنا ـ حتى وهو تحت وطأة هذه الظروف العصيبة، من فقد ابنه ـ درسًا لا تنساه البشرية، فقال: “يا أيها الناس.. إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، لا ينكسفان لموت بشر، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فصلوا حتى تنجلي”. أخرجه الشيخان.
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعامل أولاده وأحفاده بحنان كبير، ولم يكن ينسى وهو يعطي كل هذا الحنان أن يوجِّه أنظارهم إلى الآخرة وإلى معالي الأمور. كان يضمهم إلى صدره ويبتسم لهم ويداعبهم، ولكنه في الوقت ذاته لم يكن يغض طرفه عن أيِّ إهمال لهم حول شؤون الآخرة. وكان في هذا الأمر واضحًا جدًّا وصريحًا جدًّا فيما يتعلق بصيانة العلاقة بينه وبين خالقه. فمن جهة كان يعطي الحرية لهم ويرشدهم إلى طرق العيش بشكل يليق بالإنسان، ومن جهة أخرى كان لا يسمح بانفلات الانضباط أو سلوك طريق اللامبالاة. ويبذل كل جهوده وبكل دقة لمنع إصابتهم بأيِّ تعفن خلقي، ويهيئهم لعوالم علوية وللحياة الأخروية. وفي أثناء هذه التربية كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحَذِّرُ من الوقوع في الإفراط أو التفريط، بل يختار الطريق الوسط ويمثل الصراط المستقيم، وكان هذا بُعْدًا آخر من أبعاد فطنته. يروي مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ الذي خدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشر سنين، فيقول: “ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم”. صحيح مسلم.
أجل، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتصرف بشفقة ورحمة وعن عاطفة حقيقية نابعة من صميم قلبه، بحيث لم يكن بوسع أحد أن يكون مثيلًا له لا في مجال رئاسته للعائلة، ولا في مجال أبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل إنه كان مشحونًا بعاطفة قوية وباهتمام كبير تجاه أفراد بيته وتجاه الناس الآخرين.
رحم الله أستاذنا العلامة محمد فتح الله كولن، جزاء ما قدَّم من عَرْض شيِّق لسيرة الرسول العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفَس جديد وأسلوب عصري فريد، ليصحح بها مسيرة المسلمين، في القرن الواحد والعشرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.