فشهر رمضان هو الشهر الذي أنزلت فيه الكتب السماوية، فعن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان”. وقد أنزله الله تعالى جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلْقُرْآنُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ﴾(البقرة: 185).
كما أنزلت أول فوج من آيات القرآن العزيز حملها الروح الأمين إلى قلب الرسول الكريم، وهي قوله تعالى: ﴿ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ﴾(العلق: 1)، في شهر رمضان. كما كان جبريل عليه السلام يدارس القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان، فهو شهر المراجعة لما تم حفظه ما بين العام والعام. فكان يعارض جبريل به (أي يقرأ ويسمع جبريل)، ثم يسمع من جبريل، كما ثبت في الصحيح عن فاطمة كريمته رضي الله عنها. غير أن العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم راجع القرآن الكريم جبريل مع الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين، وهو ما يسمى بالعرضة الأخيرة، وهي العرضة التي تم فيها ترتيب القرآن. وجدير بشهر اصطفاه الله لينزل فيه أفضل كتبه إلى خيرة خلقه أن يكون أهلاً لقراءة القرآن وتلاوته، وحفظه، وتعلم أحكامه.
وفي كل ليلة من ليالي شهر رمضان، يؤدي المسلم صلاة التراويح من بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الوتر، ويمتد وقتها إلى قبيل الفجر. وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة فقال: “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”. وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين إحدى عشرة ركعة، بينما كانوا يصلون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عشرين ركعة. وكان عليه الصلاة والسلام يجتهد في العشر الأواخر من رمضان بما لا يجتهد في غيره، كما روى في حديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان “إذا دخل الثلث الأخير من رمضان شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”، رواه البخاري. وفي رواية ابن أبي عاصم عنها “طوى فراشه، واعتزل النساء، وجعل العشاء سحورًا”.
فضل الاعتكاف
واستكمالاً للحياة الروحية في شهر رمضان، يُسن للصائم في العشر الأواخر من الشهر أن يعتكف، ومن الحِكم التي شُرع الاعتكاف لأجلها الإكثار من العبادة والطاعة والتقرب إلى الله تعالى، والتخفف من مشاغل الحياة ومتاعها وشهواتها، والتأمل في ملكوته. روى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: “هو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها”، أي إن الاعتكاف يحفظ المعتكف من الشرور، ويُكتب له ثواب فاعل الطاعات كلها لأنه حبس نفسه في بيت الله طلبًا لرضاه.
والاعتكاف معناه لزوم الشيء وحبس النفس عليه، خيرًا كان أم شرًّا، قال تعالى: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾(الأنبياء: 52)، أي مقيمون متعبدون لها، والمقصود به هنا لزوم المسجد والإقامة فيه بنية التقرب إلى الله عز وجل. وهو من العبادات القديمة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾(البقرة: 125).
وقد ثبتت مشروعية الاعتكاف بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فيشير إلى مشروعيته في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَٰكِفُونَ فِى ٱلْمَسَٰجِدِ﴾(البقرة: 187)، أي لا تجامعوا زوجاتكم خلال اعتكافكم في بيوت الله تعالى. وأما السنة، فمنها ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده”.
وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا. وقد أجمع العلماء على مشروعية الاعتكاف، وهو ما يتطوع به المسلم تقربًا إلى الله، وطلبًا لثوابه، واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان، وهو الاعتكاف المسنون.
أما مدة الاعتكاف، فإذا كان واجبًا أُدي حسب ما نذره وسماه الناذر، فإن نذر الاعتكاف يومًا أو أكثر وجب الوفاء بما نذر. أما إذا كان مستحبًا، فليس له وقت محدد، فهو يتحقق بالمكث في المسجد مع نية الاعتكاف طال الوقت أم قصر، ويثاب المعتكف ما بقي في المسجد، فإذا خرج منه ثم عاد إليه جدد النية إن قصد الاعتكاف، وللمعتكف أن يقطع اعتكافه المستحب متى شاء قبل قضاء المدة التي نواها.
وللاعتكاف شروط، منها: الإسلام، والتمييز، ووقوعه في المسجد، والنية، والطهارة من الجنابة والحيض والنفاس. وزاد المالكية شرط الصوم، سواء كان الاعتكاف منذورًا أو تطوعًا، وزاد الحنفية أيضًا شرط الصوم في الاعتكاف الواجب، أما التطوع فلا يشترط فيه الصوم. ولا يصح اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها، ولو كان اعتكافها منذورًا، سواء علمت أنه يحتاج إليها للاستمتاع أم لا.
كما أن للاعتكاف مفسدات، منها: الجماع عمدًا ولو بدون إنزال، سواء كان بالليل أو بالنهار، والخروج من المسجد بغير ضرورة، والردة، وذهاب العقل بجنون أو سُكر، والحيض والنفاس لفوات شرط الطهارة.
ويباح للمعتكف الخروج من معتكفه لتوديع أهله، وترجيل شعره، وحلق رأسه، وتقليم أظفاره، وتنظيف البدن من الشعث والدرن، ولبس أحسن الثياب، والتطيب، والخروج للحاجة التي لا بد منها. وله أن يأكل ويشرب في المسجد، وينام فيه مع المحافظة على نظافته وصيانته، وله أن يعقد العقود فيه كعقد النكاح وعقد البيع والشراء ونحو ذلك.
الإكثار من النوافل
ويُستحب للمعتكف أن يكثر من نوافل العبادات، ويشغل نفسه بالصلاة، وتلاوة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء، ونحو ذلك من الطاعات التي تقربه إلى الله وتصل روحه بخالقه جل ذكره. ومن الأمور التي تدخل في هذا الباب دراسة العلم، واستذكار كتب التفسير والحديث، وقراءة سير الأنبياء والصالحين، وغيرها من كتب الفقه والدين، كما يُستحب له أن يتخذ خباءً في صحن المسجد اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فضل ليلة القدر
وفي العشر الأواخر من رمضان، تتخللها ليلة القدر، وليلة القدر أفضل ليالي السنة، لقوله تعالى في سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
وعن أبي نعيم: “أربع ليالٍ كأيامهن، وأيامهن كلياليهن، يبر الله فيهن النسم (الأرواح)، ويعطي فيهن الخير الجزيل: ليلة القدر وصباحها، وليلة النصف من شعبان وصباحها، وليلة عرفة وصباحها، وليلة الجمعة وصباحها”.
ويستحب طلبها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين”.
وليلة القدر أفضل من ألف شهر بسبب ما أنزل فيها من القرآن الكريم، وبسبب أن العبادة فيها أكثر ثوابًا وأعظم قبولاً من العبادة في أشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر، والعمل القليل قد يفضل العمل الكثير باعتبار الزمان والمكان وإخلاص النية وحسن الأداء، ولله تعالى أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص بفضائل متميزة، أي إن العمل فيها من الصلاة والتلاوة والذكر خير من العمل في ألف شهر.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه”.
وروى أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت: “يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟” قال: “قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.
ومن مزايا هذه الليلة المباركة أن الملائكة، وعلى رأسهم جبريل، ينزلون فيها أفواجًا إلى الأرض بأمره تعالى وإذنه، وهم جميعًا إنما ينزلون من أجل كل أمر من الأمور التي يريد الله تعالى إبلاغها إلى عباده، ومن أجل نشر البركات التي تحفهم. فنزولهم في تلك الليلة يدل على شرفها وعلى رحمة الله تعالى بعباده.
وعن الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل قائم وقاعد يذكر الله تعالى”.
وقوله تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، بيان لمزية أخرى من مزايا هذه الليلة، أي إن هذه الليلة يظلها ويشملها السلام المستمر والأمان الدائم لكل مؤمن يحييها في طاعة الله تعالى إلى أن يطلع الفجر، أو أنها سالمة من كل أذى وسوء لكل مؤمن ومؤمنة حتى طلوع الفجر. ولو لم يكن في رمضان إلا ليلة القدر، لكفاه شرفًا وكرامةً وفضلاً وفخرًا.
وفي رمضان يتحلى المسلم بآداب الصيام، من حسن الخلق وجميل الصفات وسعة البذل والعطاء، بل والجهاد بشقيه الأصغر والأكبر في سبيل الله، ويتزود المسلم فيه بزاد التقوى، فإذا انقضت أيام الصيام تركت أثرها، وأصبحت مددًا لا ينقطع أثرها طيلة العام. لذلك، كان شهر رمضان طاقةً ومخزونًا لكل أيام السنة لمواجهة مرحلة ما بعد رمضان، وهذا هو الاختبار الحقيقي لمقدار ما خرج به المسلم من هذا الشهر المبارك، وليس كما يتصور البعض أن رمضان موسم للطاعة وبعده لا طاعة، فتقوى الله ليست قاصرة على مواسم بعينها.
وإن كانت أيام رمضان أيام عبادة وطاعة وتقرب إلى الله، والانصراف عن مشاغل الدنيا وهمومها، والتفرغ لكل عمل يحصد ثوابه في الآخرة في جنة الرضوان، إلا أن هذا لا يمنع أن تكون أيام رمضان جهادًا في سبيل الله ونصرًا حربيًّا وعسكريًّا إذا تطلب الأمر ذلك. وليس كما يظن الكسالى الخاملون أن الصيام يضعف البدن ويخمد القوى، فهم بذلك الفهم في كسلٍ دائم، ينامون أكثر الوقت، وينقطعون عن العمل الجاد دون مبرر. هؤلاء واهمون، لأن الصيام مصدر قوة روحية تدفع إلى العمل، واعتقاد المؤمن بأنه يؤدي عبادة فرضها الخالق عليه يمده بالروح الفتي والعزم القوي.
ولقد كانت شهور رمضان أيام نصر حربي وفوز نضالي، ففي مواسم هذا الشهر الكريم تحققت انتصارات إسلامية رائعة:
- في السنة الثالثة من الهجرة، وفي شهر رمضان، كانت غزوة بدر.
- في السنة الثامنة من الهجرة، وفي شهر رمضان، كانت غزوة الفتح الأعظم.
- في رمضان من العام الخامس عشر الهجري، كانت معركة القادسية، وفيها قُضي على المجوسية بفارس.
- في رمضان من العام الثاني والتسعين، كان فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد.
- في رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة، تم بناء الجامع الأزهر بمصر.
- في رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة، تم طرد الصليبيين من سوريا على يد صلاح الدين الأيوبي.
- في رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، انتصر المسلمون على التتار في موقعة عين جالوت.
- في رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف، تم عبور القوات المصرية لقناة السويس وطردت القوات الإسرائيلية.
المراجع:
(1) البركة في القرآن الكريم، محمد أحمد طه علي، ص 158.
(2) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج4، ص 529.
(3) العبادة في الإسلام، يوسف القرضاوي، ص 287.
(4) مجلة الهداية، وزارة العدل والشؤون الإسلامية بدولة البحرين، العدد 271، السنة الثالثة والعشرون.
(5) من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، طه عبد الله العفيفي، ج1، ص 301.