أهمية الألفة والإيثار في بناء المجتمع

يتراءى لكل ذي عينين يتعايش بين مجموعة من الأفراد، سواء بين العاملين في مصلحة أو هيئة واحدة، أو بين الدارسين في مدرسة أو جامعة معينة، أو بين القاطنين في ذات الحي أو الوحدة السكنية، أو حتى داخل الأسرة الواحدة. يتراءى له قلة ما بينهم من تآلف، إلا من رحمه الله، بل الأدهى والأمر من ذلك أنه قد يجد نيران العداوة والبغضاء قد ملأت قلوب بعضهم والتهمت أية عواطف حميدة يجب أن تكون بينهم. وما ينطبق على الأفراد يجده ينطبق على الجماعات والدول. ولم يكن لذلك أثر على سلوكياتهم تجاه بعضهم البعض فقط، بل انعكس أثره على كثير من مناحي الحياة.

تدلنا آيات القرآن الكريم على أن من مسببات وقوع العداوة والبغضاء بين أبناء أهل الملة الواحدة فيما سبق الإسلام من يهود أو نصارى، هو تركهم بعض ما أمروا به، فجازاهم الله تعالى بإلصاق العداوة والبغضاء بينهم. قال تعالى في تقريره لحال النصارى: «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(المائدة: 14).

ومن المشاهد الحياتية يتراءى لكل ذي بصيرة أن البعد عن شريعة الله عز وجل في أي شأن من شؤون الحياة، صغر أم كبر، هو سبب لوقوع العداوة والبغضاء. فالابتعاد عن شرع الله في اختيار الزوجة الصالحة والزوج الصالح، وفي تربية الأبناء وتهذيبهم والعدل بينهم، وتقسيم الميراث، يؤدي إلى انحراف الأبناء وتطاولهم على الآباء، وهجران الزوج أو الزوجة لبيت الزوجية، وامتلاء ساحات المحاكم بالمتخاصمين على تقسيم التركة.

عدم اتباع شرع الله في إقامة خلافة إسلامية واحدة، تجمع شمل الدول الإسلامية تحت رايتها، سبب في تفرقنا وتشرذمنا وضعف حالنا وتخاذلنا بين الدول، وكان هذا أيضًا سببًا في تداعي الأمم علينا كما تتداعى الأكلة إلى القصعة. فعن ثوبان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: «ومن قلة نحن يومئذ؟» قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن». فقال قائل: «وما الوهن؟» قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».

إذًا، الحل يكمن في العودة إلى الله تعالى وإحياء تعاليم الإسلام في حياتنا لتحقيق التآلف والحب بين المؤمنين. ذلك سيؤدي إلى مجتمع متماسك تسوده الرحمة والتعاون، وتزدهر فيه القيم الإسلامية. فلا فقير يحقد على غني، ولا غني يبخل على فقير، بل يكون الجميع يدًا واحدة تسعى لإقامة العدل والسلام.

وكما كان البعد عن شرع الله سببًا للعداوة والبغضاء بين الناس، فإن التقرب من الله عز وجل سبب لإلقاء الحب في قلوب الناس. قال عليه الصلاة والسلام: «قال الله تعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» (رواه البخاري).

ويثمر حب الله للعبد حب الناس له أيضًا. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل أن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» (متفق عليه). ومعنى «يوضع له القبول في الأرض» أي يلقي الحب في قلوب الناس له ورضاهم عنه، فتميل إليه القلوب وترضى عنه.

وقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا»(مريم: 96). وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أعطى المؤمن الألفة والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين». وكان هرم بن حيان يقول: «ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم».

ومن النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده المؤمنين، نعمة التآلف بين قلوبهم، قال تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ»(آل عمران: 103). هذه النعمة لا تقدر بثمن، فالتآلف بين القلوب يفوق كنوز الأرض جميعًا. قال تعالى: «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ»(الأنفال: 63).

إذًا، لبيان أهمية الحب والألفة، دعانا الإسلام إلى تحقيق الألفة بين الناس، وبالأخص بين المؤمنين. فالتآلف هو أساس مجتمع متماسك يسوده الإيثار والتضحية، ويعلو فيه صوت المحبة والرحمة.

كما تدلنا الآيات الكريمة على أن ندعو المولى عز وجل ألا يجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، قال تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(الحشر: 10).

وقال عليه الصلاة والسلام مبينًا علاقة الحب بالإيمان: «لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا». فإذا استقر الإيمان في القلب أثمر إخاءً وحبًّا لكل المؤمنين. ولذلك قال تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ»(الحجرات: 10). ومعناها: ما المؤمن إلا أخ للمؤمن. فمع أن المؤمنين لهم كثير من الصفات العظيمة والسمات الرائعة، إلا أن الأخوة هي أبرز معالم حياتهم، وهي العلم الخفاق المرفرف في أفق حياتهم، وبدونها يفقدون أهم طابع يميزهم عن غيرهم وأعظم مظهر للإيمان في دنياهم.

وحب المسلم لأخيه المسلم درجات ومراتب، أدناها أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، وإن لم تتوفر هذه الدرجة لم يكتمل الإيمان. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». والمراد بالنفي كمال الإيمان. وأعلى درجاته الإيثار، وعليه قامت ونشأت الدولة الإسلامية وترعرعت.

ونحن في أشد الحاجة إلى هذا الخلق في عصرنا هذا، لنجتاز به عثراتنا ومشاكلنا، ولا بديل عنه لنخرج به من أزماتنا. فهل هناك أصعب وأشد وأشق على النفس من أن تتنازل عن شطر ما تملك، بل كل ما تملك؟ بل وتذهب إلى أكثر من ذلك أن تعرض زوجاتك ليختار أخوك المسلم من يشاء منهن ليتزوجها بعد وفاء عدتها. والتاريخ الإسلامي يحكي لنا أن مثل هذه الأمور حدثت، وأكثر منها، طواعية وعن طيب خاطر ونفس راضية.

فها هم المهاجرون من مكة تاركين أموالهم وديارهم، يخرجون صفر اليدين فرارًا بدينهم، ويستقبلهم الأنصار من أهل المدينة بصدور رحبة، ويتهافتون عليهم تهافت الظمآن على الشراب البارد، ويتنافسون عليهم، كل منهم يريد أن يحظى بواحد منهم في داره، فلا يرضيهم إلا القرعة. ثم يؤاخي الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم مؤاخاة قامت مقام أخوة النسب والدم، وذابت الفروق الإقليمية والنسبية كما انمحت الفوارق الطبقية والمهنية. ويحكي لنا عبد الرحمن بن عوف المهاجر القرشي ما حدث له قائلاً: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري الخزرجي، فقال سعد لي: “إني من أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها”. وقابل عبد الرحمن هذا الإيثار الكريم من سعد بعفاف كريم منه، فقال: “بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق”.

انظر كيف أن حب الأنصار لمن هاجر إليهم من المهاجرين جعلهم يقدمون كل غالٍ ونفيس في سبيل إخوانهم المهاجرين، حتى قال المهاجرون في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: “يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير. لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله”. قال عليه الصلاة والسلام تطييبًا لخاطرهم: «لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم».

والدولة الإسلامية وحدها دون سواها من الدول، إلى يومنا هذا في عرض التاريخ وطوله القديم والحديث، هي الدولة الوحيدة التي قامت على حب كل فرد لسائر أفرادها، وحبهم لبعضهم. فهذا هو حويطب بن عبد العزى يقول لمكرز بن حفص: “ما رأيت قومًا قط أشد حبًا لمن دخل معهم من أصحاب محمد لمحمد ولبعضهم البعض”.

ولأهمية خلق الإيثار هذا، وهو الناتج عن الألفة والمحبة، ولعظمته، فقد سجله القرآن الكريم ليكون عبرة لمن يعتبر، تتلقنه الأجيال المسلمة وتتناقله، وليتزودوا به أمام ما يواجههم من مشاكل وصعوبات. قال تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»(الحشر: 9).

ويعتبر غرس الألفة والمودة بين الإنسان وأخيه الإنسان مقصدًا أساسيًّا من مقاصد التشريع الإسلامي، ومن المبادئ الأساسية التي عمل الإسلام على إقامتها في المجتمعات، لما له من  الأثر الكبير في سلوك الأفراد وتوجه المجتمعات. كما أن الوحدة بين الدول لا يمكن أن تتم بغير عامل التآخي والتآلف والمحبة المتبادلة. والتآخي لا بد أن يكون مسبوقًا بعقيدة صافية يتم اللقاء عليها والإيمان بها. فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصًا إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة تحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية.

والتآلف بين الدول لا بد أن يسبقه ويدعمه التآلف بين أبناء الدولة الواحدة. فالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن أَلِف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».

وإذا كنا نواجه اليوم مشاكل وأزمات لا تقدر بشيء أمام ما واجهه المسلمون الأوائل، فإننا في أشد الحاجة إلى هذا الحب وهذه الألفة. وليس أمامنا من طريق إلا أن نعود إلى ديننا الحنيف، ونقتفي آثار السلف الصالح، ونسير على دربهم، فيَمنّ الله علينا كما منّ عليهم بنعمة التآلف والحب. فينصلح حال الآباء والأبناء، والأسرة والمجتمع، والأفراد والجماعات، والرؤساء والمرؤوسين، والحكام والمحكومين. فلا نجد فقيرًا يحقد على غني، ولا غنيًّا يبخل على فقير، ولا مسلمًا يضن بمناصرته ومؤازرته لأخيه المسلم، وكل مسلم يؤثر أخاه المسلم على نفسه ولو كان به خصاصة.

وتدلنا الآية الكريمة على الوسيلة التي تذيب الخلافات وما تتركه من آثار في نفوسنا. قال تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»(فصلت: 34). أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه. كما قال عمر رضي الله عنه: “ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه”. فإذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم، أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك.

غير أن هذه السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسامح وهو قادر على الإساءة والرد. وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها، حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفًا. ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقًا. وهذه السماحة قاصرة على حالات الإساءة الشخصية، لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها. فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها أو الصبر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.