هو ضياء الدين أبو محمد عبد الله ابن أحمد المالقي النباتي (593-646هـ)، المعروف بـ”ابن البيطار”، والملقب بـ”العشاب”. ولد في مدينة “مالقا” (Malaga) الأندلسية، وتوفي في دمشق. تتلمذ على الأستاذ الكبير أبي العباس أحمد ابن محمد بن فرج النباتي المعروف بـ”ابن الرومية” صاحب الشهرة العظيمة في علم النبات.
كان ابن البيطار كثير الرحلة إلى بلاد اليونان والروم وجميع بلاد العالم الإسلامي.. كان يجتمع مع علماء تلك البلاد ويدارسهم في أنواع النبات، وخواصه وفوائده غير مكتف بقراءة الكتب والمصنفات. وكان في ترحاله يدرس النبات في منابته، بل يدرس التربة والحجر الذي ينمو فيه والأرض التي تنبته، والعوامل المختلفة المتركزة عليه، حتى إذا جمع خبرة طويلة مستندة على الملاحظة الدقيقة، ألف كتابيه المشهورين “المغني في الأدوية المفردة” و”الجامع لمفردات الأدوية والأغذية”. ومن يقرأ هذين الكتابين، يجد ابن البيطار يمتاز بعقلية علمية أصيلة تميل إلى التجربة، وتؤمن بالمشاهدة والملاحظة والاستنباط، وتحري الدقة والأمانة العلمية في النقل. إذ كان لملاحظاته القيمة أثر كبير في تقدم علم الصيدلة أو الفارماكولوجي، ولذلك يقول عنه معاصروه: “إنه الحكيم الأجلّ، العالم النباتي، وعلامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه واختباره”. لقد استطاع أن يخرج من دراسته للنبات والأعشاب بمستحضرات ومركبات وعقاقير طبية تعدّ ذخيرة للصيدلة العالمية. وقد شهد له تلميذه النجيب ابن أبي أصيبعةوحكى في مؤلفه عن رحلاته العلمية، حيث يخبرنا أنه كان كثيرالترحال، فرحل إلى شمال إفريقيا ومراكش والجزائر وتونس ومصر لدراسة النبات، وعندما وصل إلى مصر كان على عرشها الملك الكامل الأيوبي الذي التحق بخدمته معينًا رئيسًا على سائر العشابين، ولما توفي الملك الكامل، استبقاه في خدمته ابنه الملك الصالح نجم الدين الذي كان يقيم في دمشق، وبدأ ابن البيطار في دمشق يدرس النبات في الشام وآسيا الصغرى، بصفته طبيبًا عشابًا.
درس ابن البيطار كتب ديسيقوريدس (ت370م)، وجالينوس، وأبقراط، وأوريبازيوس، وابن سينا، والإدريسي، وأبي العباس النباتي، دراسة مستفيضة حتى أتقنها تمامًا، وشرح النقاط الغامضة فيها، وقد استفاد إلى حد كبير من مؤلفات السابقين، ورغم ذلك كانت مؤلفاتهم موضع تصحيحاته ونقده في كثير من الأحيان.
وهذا ما دعا “رام لاندو” في كتابه “إسهام علماء العرب في الحضارة الأوربية” إلى القول بأن “إسهام ابن البيطار في مجال علم النبات يفوق إنتاج السابقين من ديسيقوريدس إلى القرن العاشر الهجري”.
مؤلفات ابن البيطار وتميزه العلمي
لقد ساهم المناخ العلمي والفكري الملائم وازدهار العلم الطبي الذي عاش ابن البيطار في كنفه، في نبوغه العلمي، وهذا ما يبدو في المؤلفات العديدة التي تركها، ومن أهمها: كتاب ميزان الطب، كتاب شرح أدوية ديسيقوريدس، كتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة، كتاب المغني في الأدوية المفردة، كتاب الجامع في الأدوية المفردة.
ومن الجدير بالذكر أن ابن البيطار قد استفاد من الإسهامات التي قدمها ديسيقوريدس، والذي كان له مؤلفات هامة من بينها كتاب “الحشائش” الذي قام ابن البيطار بترجمته ونقل منه الكثير في كتابه “الجامع للأدوية المفردة”. وعندما قام ابن البيطار بترجمته لم يكتف فقط بترجمته ونقل نصوصه، ولكنه امتاز بعمق المعرفة والدقة في تناوله، حيث جمع المصادر الهامة لمادة البحث، ولم يكتف بمصدر واحد فقط، بل رجع إلى عدة مصادر، وعقد بعض المقارنات بين ديسيقوريدس، وجالينوس، وعلماء العرب السابقين. وقد كان حريصًا على نقل أسماء النباتات بدقة، وأضاف العديد من التعليقات على هوامش الكتاب “الحشائش” للزيادة في الإيضاح وتوصل إلى نتائج جديدة.
وقد استفاد ابن البيطار من أبي حنيفة الدينوري الذي كان نباتيًّا لغويًّا، بينما كان ابن البيطار عشابًا وطبيبًا نباتيًّا، تحدث عن النبات وأوصافه، أصله وساقه وورقه وزهره وثمره، حتى لا يخلط بين نبات نافع وآخر ضار، ثم يقف على ذلك بذكره ما يستخلص منه من عقار مفيد في العلاج، وكيف يؤخذ كدواء ومتى يؤخذ، وكيف يعدّ وكيف يتم تعاطيه ومقدار الجرعة.
كما استفاد ابن البيطار من العالم الطبيب والفيلسوف ابن سينا الذي استقصى نسبة كبيرة من النباتات، والتي كانت معروفة في عصره، فأورد في كتابه “القانون” طائفة كبيرة من النباتات الشجرية والعشبية والزهرية والعطرية والطحلبية، وبين الأجناس المختلفة من النباتات والأنواع المختلفة من الجنس الواحد وذكر المتشابه وغير المتشابه، وعنى بذكر مواطن النبات والتربة التي ينمو فيها إن كانت ملحة أو غير ملحة.
ولكن نجد تميز ابن البيطار عن ابن سينا في كثير من المواضع، فبينما نجد ابن سينا يهتم بدراسة النبات ويتناوله تناولاً عامًّا من حيث أوصافه الدقيقة التي تميزه عن غيره وذكر منابته، نجد ابن البيطار يركز على الخصائص الطبية وفوائده في العلاج ومداواة الأمراض، ويوجه اهتمامه إلى تفصيل المزايا الطبية.
كما تأثر ابن البيطار بالغافقي النباتي المشهور الذي يعد من أعظم الصيدليين العرب أصالة، حيث أخذ منه أجزاء غير قليلة من كتابه في الأدوية المفردة. كما لا يمكن إغفال تأثر ابن البيطار بكثير من العلماء العرب والمسلمين والصيادلة والعشابين، والذين تظهر أسماؤهم في مؤلفاته مثل الزهاوي، وابن جزلة، وأبو بكر الرازي، وابن سمحون، وثابت بن قرة، وماسرجويه، وابن العوام، الذين كتبوا تراثًا ضخمًا… تمكن ابن البيطار من الاستفادة منه وتوظيفه في تأسيس علم الصيدلة وتأصيله عند العرب والمسلمين.
تصنيف الأمراض والأدوية والعلاجات
ومن مظاهر التقدم العلمي الطبي عند العرب والمسلمين تصنيفهم للأمراض، وذلك للتسهيل عليهم في علاجها، فكانوا يعرضون للأمراض وأسبابها وأعراضها وعلاماتها وطرق علاجها. وقد ظهرت لدى أطباء العرب والمسلمين في هذه المرحلة التي عاش فيها ابن البيطار ظاهرة لم يلتفت إليها من قبلُ دارسو تاريخ العلوم، ألا وهي “الجداول الطبية”. وقد ظهرت هذه الطريقة المنهجية عند ابن التلميذ (ت 560هـ) في مخطوطه “المغني في الطب” حيث نرى عرضًا منهجيًّا واضحًا للأمراض، فهو يعرض في أول الجدول للمرض، وفي منتصفه للسبب الذي أدى إلى هذا المرض، وفي الأخير للأعراض المصاحبة له… وهذا واضح في كثير من الأمراض، وخاصة الأمراض الحادثة في الجفن ومداواتها، والأمراض العارضة في ملتحمة العين ومداواتها، وفي أمراض ثقب الحدقة ومداواتها وفي الشبكية والغشاء المستبطن للأضلاع والعضل المحركة للصدر وعلل الحجاب.
وقد ازداد النزوع نحو تصنيف الأمراض عن طريق الجداول، حتى إن كتاب ابن البيطار “قانون الزمان في تقويم الأبدان” هو عبارة عن جداول طبية فقط، ويبدو ابن البيطار في هذا الكتاب في صورة “الطبيب” وليس “العشاب”، ذلك اللقب الذي اشتهر به.
ومثلما اهتم الأطباء بتصنيف الأمراض، اهتموا أيضًا بوضع مصنفات للأدوية والعلاجات وعقدوا فصولاً مستقلة في كتاباتهم عن تصنيف الأدوية. فنرى هذا واضحًا في كتاب “الدرة البهية” لابن البيطار، حيث يشير إلى الأدوية والأغذية وأهميتها لبدن الإنسان، ويوضح اختلاف الدواء باختلاف المرضى والمرض.
ابن البيطار بين الأسلوب العلمي والنقد المنهجي
لقد ألف ابن البيطار أوسع كتبه، في موضوع علم النبات وأعمقه، بل أهم كتاب ألفه هو “الجامع في الأدوية المفردة”. وقد أوضح ابن البيطار في كتابه “الجامع في الأدوية المفردة” الأهداف التي اختارها فيه، ومنها يتجلى أسلوبه في البحث، وأمانته العلمية عند النقل، واستناده على التجربة كمعيار لصحة الأحكام.
وقد رتب ابن البيطار مفردات كتابه ترتيبًا أبجديًّا على طريقتهم المتبعة وقت ذاك، مع ذكر أسمائها باللغات المتداولة في موطنها.
ولقد تناول مؤرخو العلوم كتاب ابن البيطار السابق، وعلقوا عليه تعليقات ممتازة تدل على قيمته ومكانة المؤلف في مجال علم الأدوية (الصيدلة)، يقول محمد زهير البابا في كتابه “تاريخ وتشريع وآداب الصيدلة”: “يعتبر كتاب الجامع في الأدوية المفردة لابن البيطار أهم مؤلف في العقاقير ظهر في اللغة العربية حتى زمنه، وصف فيه ما ينوف عن 1400 عقارًا، منها 300 عقار لم يرد ذكرها في المؤلفات الأخرى.
وذلك ليسهل على الطالب بطلبه من غير مشقة ولا عناء ولا تعب. واتسم أسلوبه العلمي بالنزعة النقدية، مع التزام الموضوعية والنزاهة العلمية. وذلك يتضح لنا من خلال مناقشته لآراء السابقين عليه من العلماء والأطباء والعشابين. فلقد نقدهم في عدة أمور، وكان نقده بناء، فهو يرفض الآراء التي يثبت أن ناقلها قد انحرف عن سواء السبيل ومنهج العلماء السليم، أو لأنها لم تبثت أمام مقاييسه العلمية التي يعتمد عليها… وهو لا يكتفي برفضها، بل إنه يتجاوز الرفض إلى توجيه النقد الشديد إلى الناقل أو القائل، لأنه افتلى على الحق”.
وهكذا يتبين لنا أن علة نقده للسابقين لم تقتصر على الطب بمعناه الضيق، وإنما ظهر أيضًا في علم الصيدلة. وهناك العديد من الشواهد التي تدل على النزوع النقدي في هذا النوع من الكتابات والبحوث الخاصة بهذه المرحلة من تاريخ الصيدلة في الأندلس… من ذلك ما نجده عند ابن البيطار الذي قام بنقد كتاب “منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان”، وهو الكتاب الذي جمع فيه ابن جزلة (ت 493هـ) الأدوية والأغذية والأشربة، فقام ابن البيطار ونبه على أخطائه وما غلط فيه من أسماء الأدوية، وذلك في كتابه الذي رتبه على حروف المعجم، وجعله بعنوان “الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام”. وإذا كان ابن البيطار قد استطاع أن يرسي قواعد المنهج النقدي، فإنه أيضًا قد وضع أسس المنهج العلمي، وحددها في أهداف ستة هي: استيعاب القول في الأدوية المفردة والأغذية المستعملة على الدوام والاستمرار؛ والمقصود بذلك جمع مادته العلمية الطبية الخاصة بلغاتها المختلفة.. والأمانة العلمية عند النقل، والتحقق من صحة الأدوية، والاعتماد على الملاحظة والمشاهدة، والاختبار وإجراء التجارب اللازمة للأدوية التي استعان بها في علاجه للأمراض، ووصف الأعشاب والنباتات.. كما أنه قام بتحضير الأدوية واستخدم النسبة والكمية في إعداد الكميات اللازمة للعلاج، وحذر من الإفراط في أخذ العلاج أو الابتعاد عن أخذ الكمية المحددة.
ومن خلال المقارنة بين طريقة ابن البيطار والطريقة التي يسير عليها العلماء المحدثون، نجد أنه توجد جوانب مشتركة بين ابن البيطار والعلماء الذين اعتمدوا على المنهج التجريبي الذي يقوم على الملاحظة.. لقد استخدم ابن البيطار “التجربة” وكان يطلق عليها اسم “الاختبار”.. فقد قام بممارستها عند اختباره للأعشاب والنباتات، لكي يستخرج منها العقاقير اللازمة لعلاج الأمراض. وكانت التجربة عنده مرتبطة بالفرض الذي يُعد أبرز صور الإبداع العلمي.
ولقد أدرك ابن البيطار أهمية الفرض ودوره الهام واعتبره عنصرًا هامًَّا من عناصر المنهج التجريبي، حيث إن له دورًا حيويًّا في مجال البحث العلمي ومعرفة تركيب الأدوية والعقاقير، وكيفية استخلاصها من النباتات والأعشاب، والوصول إلى التحقق منها وكيفية صحتها وأهميتها لعلاج الأمراض. بل إن ابن البيطار يبين لنا منافع الأدوية، وأهميتها لعلاج الأمراض، ويحدد القدر المناسب منها ويحذر من الإفراط في استخدامها، لأنه قد يؤدي إلى الضرر بالإنسان، كما يبحث عن البديل منها للدواء الأصلي إذا كان غير متوفر، فليس من الضرر من الاستعانة بغيره إذا لم يتيسرالحصول عليه.
ولم يقتصر ابن البيطار على الاستعانة بالنباتات والأعشاب ذات الأصول النباتية، بل هو قد استعان بذات الأصول الحيوانية، والتي يتخذ منها العقاقير، مثل حديثه عن “ابن عرس”، وأصناف من الطير، وبعض الأرانب البرية، وبعض الحيوانات البحرية.. وهو في كل ذلك يعرض لتشريح بعضها ويعتمد على الوصف والملاحظة الدقيقة، إضافة إلى إجراء التجارب عليها واستخلاص أدوية من بعضها. كما تناول بالوصف والشرح عددًا من الأدوية والعقاقير ذات الأصول المعدنية، والأحجار التي يمكن الاستفادة منها في استخراج مواد فعالة علاجيًّا، فيذكر الآبار وهو الرصاص ومعادن وأحجار أخرى.
ولم تقتصر جهود ابن البيطار على ذكر مئات الأدوية والعقاقير، وإضافة عشرات من الأصناف ذات الأصول النباتية والحيوانية والمعدنية التي لم تكن معروفة من قبل، ويساهم في تأسيس الصيدلة العربية على أسس علمية وتجريبية، بل هو قد ساهم في استقرار المصطلح الطبي العربي الإسلامي، وأثرى معجمه الذي أصبح من بعده مصدرًا ثريًّا لكل أطباء أوربا والغرب.
وهكذا كانت لبحوث ابن البيطار في عالم الأعشاب والنباتات الطبية، وكذلك تجاربه الدوائية، واعتماده على الملاحظات الدقيقة والتجارب العميقة في هذا العلم التجريبي، أثره الذي لا ينكر في تقدم هذا العلم وتطوره على يد العرب والمسلمين، خاصة وأن المسلمين تمكنوا من صياغة المصطلحات الطبية المناسبة وقاموا بتعريب كثير منها وتطوير مشتقاتها اللغوية، مما ساعد على تكوين المعجم الطبي العربي الذي أصبح مصدرًا علميًا دقيقًا لأطباء العالم، ساعدهم على تطوير علم الصيدلة فيما بعد.
(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.