غربيون أنصفوا الحضارة الإسلامية

زيغريد هونكه أنموذجًا

لا يخفى على أحد، أن الحضارة الإسلامية كانت صاحبة الفضل في قيام الحضارة الأوروبية الحديثة، حيث إن الحضارة الإسلامية أسهمت بشكل كبير وبكل النواحي لإحياء العلوم المختلفة، سواء في الطب أو الكيمياء والفيزياء والرياضيات.. إلخ، وطالما أبصر نفر من المفكرين والفلاسفة الغربيين فضل الحضارة الإسلامية على الغرب، فمنهم من ألَّف الكتب، ومنهم من قام بعمل الدراسات والأبحاث التي أنصفت الحضارة الإسلامية، وهي التي لا يمكن أبدًا لأي عاقل إنكارها، ومن أهم من أنصف الحضارة الإسلامية، كانت المستشرقة الدكتورة الألمانية ذائعة الصيت زيغريد هونكه (1913 – 1999م).

والدكتورة زيغريد هونكه ولدت بمدينة كيل في شمال ألمانيا، وهي ابنة الناشر الألماني هاينريش هونكه (1879 – 1953م) وهو المالك الثري لدار نشر “والت رجي موهلاو”، وأمها السيدة هيلديجارد لي لاو (1879 – 1944م) المولودة في مدينة شونبيرج، وكان لدى هونكه شقيقتان إحداهما الدكتورة فالتراود هونكه (1915 – 2004م) عالمة العصور الوسطى، وقد تولت فالتراود تسيير أمور دار نشر والدها بعد وفاته، والمعلوم أن هونكه أحبّت العرب كثيرًا، بل وصرفت مجمل وقتها للدفاع عن القضايا العربية.

في البحث العلمي

حول إسهامات المسلمين والحضارة الإسلامية بمجال العلوم، وفي ردها على أولئك المتعصبين ممن أنكروا أي نبوغ أو إبداع وابتكار للعقل المسلم، تقول زيغريد هونكه (لقد طور العرب بتجاربهم وأبحاثهم ما أخذوه من مادة خام من الإغريق، وشكلوه تشكيلاً جديدًا، فالعرب في واقع الأمر هم الذين ابتدعوا طريق البحث العلمي الحق، القائم على التجربة، إن العرب لم ينقذوا الحضارة الإغريقية من الزوال ونظموها ورتبوها ثم أهدوها إلى الغرب فقط، بل إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع، وبجانب عدد لا يحصى من الاكتشافات والاختراعات الفردية في مختلف فروع العلوم، والتي سرق أغلبها ونسب لآخرين، قدم العرب أثمن هدية وهي طريقة البحث العلمي الصحيح، التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة أسرار الطبيعة وتسلطه عليها اليوم، ولعل أبرز رجال الغرب الأوائل الذين بهرتهم حضارة العرب ولم يخجلوا من الارتباط بهم، هو القيصر الصقلي فريدريك الثاني أحد القياصرة الأعلام في التاريخ).

وزادت هونكة حديثها لتقول (والواقع أن روجر باكون أوباكوفون فارولام أو ليوناردو دافنشي أو جاليليو، ليسوا هم الذين أسسوا البحث العلمي، إنما السابقون في هذا المضمار، كانوا من العرب والذي حققه ابن الهيثم – الخازن كما هو معروف عند الأوروبيين، لم يكن إلا علم الطبيعة الحديث والتجربة الدقيقة).

وقد اختصت هونكه العالم العربي الحسن ابن الهيثم (965 – 1040م) في حديث مطول لتقول (كان الحسن ابن الهيثم، أحد أكثر معلمي العرب في بلاد الغرب أثرًا وتأثيرًا، لقد كان تأثير هذا العربي النابغة على بلاد الغرب عظيم الشأن، فسيطرت نظرياته في علمي الفيزياء والبصريات على العلوم الأوروبية حتى أيامنا هذه، فعلى سبيل المثال أساس كتاب المناظر لابن الهيثم، نشأ كل ما يتعلق بالبصريات، ابتداء من الإنجليزي روجر بيكون حتى الألماني فيتلوا، وأما ليوناردو دافنشي الإيطالي مخترع آلة التصوير الثقب أو الآلة المعتمة، ومخترع المضخة والمخرط وأول طائرة -ادعاء- فقد كان متأثرًا تأثيرًا مباشرًا بالعرب، وأوحت إليه آثار ابن الهيثم أفكارا كثيرة).

وأضافت هونكه (عندما قام كبلر في ألمانيا خلال القرن السادس عشر، ببحث القوانين التي تمكن جاليليو بالاستناد إليها من رؤية نجوم مجهولة من خلال منظار كبير، كان ظل ابن الهيثم يجثم خلفه، وما تزال حتى أيامنا هذه المسألة الفيزيائية الرياضية الصعبة التي حلها ابن الهيثم بواسطة معادلة من الدرجة الرابعة، مبرهنًا بهذا على تضلعه البالغ في علم الجبر، حري بنا القول بأن المسألة القائمة على حسب موقع نقطة التقاء الصورة التي تعكسها المرآة المحرقة بالدوائر على مسافة منها، ما تزال تسمى بـ “المسألة الهيثمية” نسبة إلى ابن الهيثم نفسه).

في الطب والصيدلة

في فصل من فصول كتابها الشهير (شمس العرب تسطع على الغرب) الصادر عام 1969م والمعاد طباعته عام 1993م، تقول هونكه (اشتهر للرازي بين الناس كتاب “طب الفقراء” وهو كناية عن قاموس طبي شعبي، فيه وصف كل الأمراض وظواهرها وطرق علاجها ووسائلها الموجودة في كل مكان وكل بيت، ونالت رسالته “عن الجدري والحصبة” شهرة دائمة، لما جاء فيها من نظرة حكيمة إلى أمور الطبيعة، بريئة من المعتقدات السابقة الخاطئة أو من النظريات المعقدة، وقد جال فيها الرازي جولات عظامًا لم يعرف العالم من قبل منذ قرون عديدة، وحول الكتاب صورة تفصيلية وأمينة عن المرض وعن طرق علاجه، فكان هذا الكتاب بحق آية من نوعه نُشر في أوروبا أربعين مرة ما بين (1498– 1866م) ونالت مخطوطات أخرى له شهرة واسعة تتحدث عن أوضاع المفاصل والحصى المترسبة وأوجاع الكلى وأمراض الأطفال.. إلخ).

وزادت هونكه فقالت (وكان الرازي يهتم اهتمامًا كليًّا بعوامل الحرارة والرياح والرطوبة وإنارة البيوت ومدى الحرارة فيها، ونقاوة هواءها وطهارة ماءها، وعن إمكانات الاغتسال التي رأت فيها أوروبا في القرون الوسطى اثمًا وأي اثم وعارًا وأي عار، كما حرمته من قبل القيام بالحركات الجسدية وممارسة الرياضة، وكان يحرص دومًا على إنزال المرض في أنسب الأمكنة موقعًا وهواء وصحة ونظافة، يشدد على النظافة دومًا، وتغيير هواء الغرف بشكل متواصل).

في النظافة والطهارة

عند مقارنتها بين الحضارة الإسلامية في ذلك الوقت وبين أوروبا والغرب تقول دكتورة زيغريد هونكه في هذا السياق (إن الفقيه الأندلسي الطرطوشي، رأى أشياء صادمة أثناء جولاته في الدول الغربية، إن الطرطوشي وهو مسلم يجب عليه أن يتوضأ خمس مرات في اليوم للصلاة)، وعلى لسان الطرطوشي تقول هونكة (لن ترى أناسًا أقذر منهم، إنهم لا ينظفون أنفسهم ولا يستحمون إلا مرة أو مرتين في السنة وبماء بارد، أما ملابسهم فلا يغسلونها أبدًا بعد ارتداءها حتى تتمزق، وتضيف (مثل هذا لا يمكن أن يفهمه أو يتسامح معه العربي الأنيق، فالنظافة وطهارة الجسد عند العربي، ليست مجرد واجب ديني، بل هي أيضًا حاجة في ظل ظروف الطقس الحار).

وذكرت هونكة أن بغداد بالقرن العاشر كانت مليئة بالحمامات العامة وعمالها وزوارها، وتضيف (نقول إنه على الرغم من أن الطقس الحار يدفع الناس إلى التنظيف، إلا أن ندرة الأنهار والموارد المائية قد تكون مقبولة، كسبب لعدم التشدد في روتين التنظيف اليومي أو الأسبوعي، أوروبا ليست كلها مناطق باردة، هناك مناطق حارة في أوروبا، وكان العديد من الأنهار تتدفق فيها، ومع ذلك بدأت العديد من المبادئ التي تدعو إلى القذارة في الظهور، وكان الناس القذرون في أوروبا يشعرون بالفخر!).

كما اختصت هونكه شباب أوروبا ومدى تأثره بالحضارة الإسلامية لتقول (كان شبابنا في أوروبا في العصر الذهبي للإسلام بالقرنين “الثامن والثالث عشر” يقلدون لباس المسلمين العرب ويفتخرون بنطقهم العربي فيما بينهم، ووصل الأمر إلى حد أن شباب أوروبا كانوا يقلدون لباس المسلمين العرب، بل ويفتخرون بنطقهم العربي فيما بينهم، وبلغ الأمر أن وقف قس في ساحة إيطالية يخطب في الناس، ويدين الشباب في بلاده لتقليدهم للعرب في لباسهم وبعض العادات العربية الإسلامية، حتى إن الشاب كان يقول لخطيبته “أحبك” باللغة العربية ليظهر أدبه ورقته، وهذا يذكرني بمقولة ابن خلدون إن المهزوم يقلد المنتصر دائمًا ويرى فيه الكمال، والمهزوم يحاول دائمًا أن يقلد المنتصر في لباسه، وفي نقله وفي سلاحه وفي صنعه وفي استعماله).

في الثقافة والتهذيب

في حديثها عن النهضة الكبيرة التي قام بها العرب في الأندلس، تقول هونكة (في عام 732م أرسل البابا غرغوديوس الثالث رجلاً سوريًّا يدعى بونافاسيوس إلى ألمانيا، فاخضع مقاطعتي النورنجر والهاسن لنفوذ البابا، وبعد ستة أعوام وبينما شارل مارتل مشغول لصراعه مع العرب من جديد، انتهز بونيفاسيوس تلك الفرصة واخضع بافاريا أيضًا للكرسي البابوي، ونشر نظام روما الكنسي في ألمانيا، هذه هي الحقائق الثابتة، أما ماذا كان يمكن أن يحدث للغرب لو لم يقف زحف المسلمين؟ فهذا سؤال لا يستطيع التاريخ أن يجيب عليه، لأنه لم يحدث فعلاً والتاريخ لا يخمن ولا يفترض الافتراضات ليبني عليها نتائج لم يكتب لها الوجود، ورغم هذا فإن المؤرخين لا زالوا يرددون هذا السؤال، ويجيبون عليه إجابة الواثق من صواب رأيه، دون أن يملك دليلاً واحدًا يثبت ما يدعيه، فليس ثمة كتاب تاريخ في الغرب، إلا وذكر شيئًا عن فضل شارل مارتل في الدفاع عن المسيحية، أو المحافظة على المدنية الغربية من الزوال).

وهنا تتساءل هونكه فتقول (أو ليس من العجيب أن نتساءل لماذا تفسر كما يحلو لنا، والعرب قد احتلوا فعلاً جزءًا من أوروبا هو الأندلس، فلم يقضوا على المسيحية التي يزعمون أن شارل مارتل قد حماها، ولم يقضوا على المدنية الغربية التي لم يكن لها وجود!، لقد حولوا الأندلس في مئتي عام حكموها، من بلد جدب فقير مستعبد إلى بلد عظيم مثقف مهذب، يقدس العلم والفن والأدب، قدموا لأوروبا سُبل الحضارة وقادوها في طريق النور، إن التاريخ لا يهتم بماذا كان يمكن أن يحدث لو أن هذا قد حدث، أو لو أن ذاك لم يحدث، إن التاريخ أعمق وأدق من أن يسبح في الخيال، فواجبه الأول هو الاهتمام بالحقائق، فكل موجة علم أو معرفة قدمت لأوروبا في ذلك العصر، كان مصدرها البلدان الإسلامية).

المصادر

(1) أخلاق المسلمين بأقلام المؤرخين الغربيين، موقع (إسلام ويب) 28/12/2014م.

(2) في الفنون الإسلامية، زكي محمد حسن، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة (القاهرة) 2012م.

(3) ماذا قدم المسلمون للعالم، إسهامات المسلمين في الحضارة الإسلامية (ج 2)/ د– راغب السرجاني، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة (القاهرة) 2009م.

(4) شمس العرب تسطع على الغرب، أثر الحضارة العربية في أوروبا، د. زيغريد هونكه، تعريب (فاروق بيضون- كمال دسوقي)/ دار الجليل (بيروت) 1993م.