النماذج الباقية والأمثال الهادية

إن أعظم غزوة يمكن أن نعود إليها في ظرفنا الراهن، إنما هي غزوة أحد التي جرت أحداثها بين المسلمين ومشركي مكة، يوم السبت الأول من شوال في العام الثالث الهجري، ففيها من النماذج الباقية والأمثال الهادية والبطولات الزاهية ما ينير دروبنا، ويهدي سبلنا، ويعيننا على مشاق البوادي التي نسلكها وصعابها التي نجابهها، وقد كانوا سبعين رجلاً، أكثرهم من الأنصار، وأربعة فقط من المهاجرين، اخترت منهم عشرة فقط، أنقل لكلٍّ منهم مشهد الختام بإيجاز شديد، وأرجئ الشرح والتعليق إلى مقال جديد… وإنا لله وإنا إليه راجعون.

(1) مصعب بن عمير: (حامل الراية)

قاتل مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم أُحُدٍ بضراوة بالغة، يدافع عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم هجوم ابن قمئة وأصحابه، وكان اللواء بيده، فضربوه على يده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى، وصمد في وجوه الكفار حتى قطعت يده اليسرى، ثم برك عليه بصدره وعنقه حتى قتل.

قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وروي مثل ذلك عن خباب رضي الله عنه، وفيه: فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر».

(2) أنس بن النضر: (ريح الجنة)

مَرَّ أنس بن النضر رضي الله عنه ببعض المسلمين يوم أحد، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم قال: “اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-“، ثم تقدَّم فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واهًا لريح الجنة يا سعد، إني أجده دون أحد، ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل، فما عُرِفَ حتى عَرَفته أخته -بعد نهاية المعركة- بِبَنانِه، وبه بضعٌ وثمانون؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم.

(3) ثابت بن الدحداح: (قاتلوا على دينكم)

نادى ثابت بن الدحداح رضي الله عنه قومه، فقال: “يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فرسان خالد، فما زال يقاتلهم، حتى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه.

(4) مالك بن سنان: (ماص الدم الشريف)

وامتص مالك بن سنان رضي الله عنه والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته صلى الله عليه وسلم حتى أنقاه.

فقال: “مجه!!” فقال: والله لا أمجه أبدًا. ثم أدبر يقاتل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا”، فقتل شهيدًا.

(5) سعد بن الربيع: (لا عذر لكم عند الله)

قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: “إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟” قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة: ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت: يا سعد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته.

(6) عمرو بن ثابت: (رغبةٌ في الإسلام)

وجد الصحابةُ عمرو بن ثابت رضي الله عنه الأصيرم في الجرحى، وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يَعرضون عليه الإسلام فَيَأْباه، فقالوا: إنَّ هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك؟ أحدبٌ على قومك، أم رغبةٌ في الإسلام؟ فقال: بل رغبةٌ في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “هو من أهل الجنة”. قال أبو هريرة: ولم يصل لله صلاة قط.

(7) مُخَيْريق اليهودي: (لا سبت لكم)

كان في قتلى أُحُدٍ رجلٌ من يهود بني ثعلبة، قال لقومه: يا معشر يهود؛ والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم. فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد، يصنع فيه ما شاء، ثم غدا فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود.

(8) حنظلة بن أبي عامر: (الغسيل)

وكان حنظلة رضي الله عنه ممن لَبَّى النداء للخروج وهو حديث عُرْس بأهله، فقاتل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط شهيدًا، وفَقَدَ الصحابةُ نعشَه، فتفقَّدوه، فوجدوه في ناحية فوق الأرض يقطر منه الماء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة تغسله، ثم قال: «سلوا أهله ما شأنه؟» فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر. ومن هنا سمي حنظلة: غسيل الملائكة.

(9) عبد الله بن جحش: (المُقْسِم على ربِّه)

دعا عبد الله بن جحش رضي الله عنه قبل غزوة أحد فقال: «اللَّهُمَّ أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ أَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا فَيَقْتُلُونِي، ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِي، وَيَجْدَعُوا أَنْفِي، أَوْ أُذُنِي، أَوْ جَمِيعَهَا، ثُمَّ تَسْأَلُنِي: فِيمَ ذَلِكَ؟ فَأَقُولُ: فِيكَ».

وفي اليوم التالي أخذ يحارب المشركين حتى قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، ومُثِّل بجثته، وكان عُمره بضعًا وأربعين سنة.

(10) حمزة بن عبد المطلب: (سيد الشهداء)

شهد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه غزوة أحد، فقَتَلَ من المشركين قبل أن يُقتل واحدًا وثلاثين نفسًا، إذ كان يُقاتل بسيفين، فقال قائل: «أيّ أسد هو حمزة!»، فبينما هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره، فانكشف الدرعُ عن بطنه، فزرقه وحشي الحبشي بحربة فقتله. ومثَّل به المشركون؛ وجعلت نساؤهنَّ يجدعن أُنُفَ المسلمين وآذانَهم ويبقرون بطونَهم، وبقرت هند بطنه فأخرجت كبده، فجعلت تلوكها، فلم تسغها فلفظتها. وكان عمره أربعًا وخمسين سنة.

فلما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما جرى بحمزة -عمه وأخيه من الرضاعة- اشتد حزنه، وقال: «لن أصاب بمثلك أبدًا، ما وقفت موقفًا قط أغيظ إليَّ من هذا»، ثم قال: «جاءني جبريل فأخبرني أن حمزة بن عبد المطلب مكتوب في أهل السماوات السبع: حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله». وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «وقف رسول الله ﷺ على حمزة وقد مُثِّل به، فلم يرَ منظرًا كان أوجع لقلبه منه، فقال: «رحمك الله، أي عم، فلقد كنت وصولاً للرحم فعولاً للخيرات». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيًا قطُّ أشدَّ من بكائه على حمزة بن عبد المطلب؛ وَضعَه في القبلة، ثم وقف على جنازته، وانتحب حتى نشع من البكاء، والنشع: الشهيق.

فتلك عشرة كاملة ممن قضوا نحبهم، ونختم بالفياض الذي أجل استشهاده خمسة وثلاثين عامًا، وهو..

طلحة بن عبيد الله

فأما طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقد روى النسائي عن جابر قصة تجمُّع المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه نفر من الأنصار. قال جابر: فأدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “من للقوم؟!” فقال طلحة: أنا، ثم ذكر جابر تقدم الأنصار، وقتلهم واحدًا بعد واحد… فلما قتل الأنصار كلهم تقدَّم طلحة. قال جابر: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده، فقطعت أصابعه، فقال: حسن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو قلت: بسم الله؛ لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون”، قال: ثم رَدَّ الله المشركين. ووقع عند الحاكم في الإكليل: أنه جرح يوم أحد تسعًا وثلاثين، أو خمسًا وثلاثين، وشُلَّت إصبعُه؛ -أي السبابة والتي تليها-. وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء، وَقَى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه يومئذ: “من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله. وروى أبو داود الطيالسي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة. وقال فيه أبو بكر أيضًا:

يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت         ***         لك الجنان، وَبَوَّأتَ المها العينا

ولما جاءت إليه أم سعد بن معاذ رضي الله عنه تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله أمي، فقال: مرحبًا بها. ووقف لها. فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ رضي الله عنه. فقالت: أما إذا رأيتك سالمًا، فقد اشتويت المصيبة -أي استقللتها- ثم دعا لأهل من قتل بأحد وقال: يا أم سعد أبشري وبَشِّري أهلَهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعًا، وقد شفعوا في أهلهم جميعًا. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا!! ثم قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا».