الأخذ بالأسباب والاعتماد على رب الأرباب

مما ينبغي على الإنسان أن يعلمه: أنَّ الله تعالى هو خالق كل شيء، وما دام أنه خالق كل شيء، فهو القيوم على كل شيء، والمتصرف في كل شيء، ومن ثم فلا نافع ولا ضارَّ على الحقيقة في الكون كله إلَّا هذا الخالق سبحانه؛ قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصَّافَّاتِ: 96]، وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[الزُّمَرِ: 62]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر: 49]، وقال جلَّ شأنه: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾[التَّكْوِيرِ: 29].

ولكن بجانب تلك الحقيقة قضى الله سبحانه وتعالى بعالم الأسباب، ووضع له قوانينه، وأراد من الإنسان أن يعتبرها ويأخذ بها، دون الوقوف عندها أو الاعتقاد في تأثيرها بذاتها.

فيؤمن الإنسان بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو المؤثر الحقيقي في إيجاد الأشياء وعللها، وأن الأسباب وإن حصلت عند مسبباتها، إلا أنها لا تؤثِّر ذاتيًّا في وقوعها، وإنما لا بد من إضافتها إلى الله تعالى خلقًا وتقديرًا، وإيجادًا وتسييرًا. فالسبب غير فاعل بنفسه، بل إنما وقع المسبب عنده لا به، فإذا تسبب المكلف: فالله خالق السبب، والعبد مكتسب له.

فيتعامل المسلم مع الأسباب تأدبًا مع الله تعالى الذي خلقها، تحصيلاً لما ينفعه في دينه ودنياه، ودفعًا لما يضره ويؤذيه، من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطِّلاً للحكمة والشَّرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا، فيحصل عنده من الموازنة والاتساق ما يجعله يأخذ بالأسباب دون الاعتماد عليها.

من خلال ذلك، نستطيع القول بأن قدَر الله تعالى ينفذ من خلال الأسباب التي أودعها سبحانه في كونه ليستقيم بها أمر الوجود ونظام التكليف، فهي من قدر الله تعالى أيضًا لا تخرج عنه ولا تحيد: فعن أَبِي خُزَامَةَ عن أبيه رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقلتُ يَا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا ودواءً نَتَدَاوَى بهِ وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هل ترد مِن قَدرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ “هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ” (أخرجه الترمذي في “السنن” وصحَّحه).

أي: هذه الأسباب جندٌ من جنود الله، وهي من أقداره أيضًا؛ يعني: كما أن الله تعالى قدَّر الداءَ قدَّر زوالَ الداء بالدواء أو بالرقية، وكما أنه تعالى خلق في العدو قصد عدوِّه بالإيذاء خلق في الذي يقصده العدو أن يلتجئ إلى قلعة أو حصن يحتمي به، وأن يدفعه بشيءٍ من الأسباب.. وعلى هذا فقِس جميع الأسباب.

فيأمرك الله تعالى بالطعام والشراب، والكساء، والدواء، ثم يأمرك أن تعتقد بأن الذي أطعمك وسقاك، وكساك وشفاك؛ إنَّما هو الله سبحانه وتعالى.

فالإنسان إذا أراد أن يبتغي تحقيق معايشه وأرزاقه، فعليه أن يأخذ بأسباب الكسب، من امتهان أي مهنة تدر له دخلاً يتقوت به؛ من صناعة أو زراعة أو تجارة.. ونحو ذلك، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾(تبارك: 15).

ومع ذلك: يأمره الله تعالى بقوله: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(العنكبوت: 17)، فيعلم بأن الذي رزقه هو الله سبحانه وتعالى وحده؛ ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلِ اللَّهُ﴾(سبأ: 24).

وكذلك الأمة التي تريد أن تحمي أوطانها ومقدراتها وأبناءها، ضد عدوان المعتدي، كان عليها أن تعد العدة وتأخذ بأسباب الحماية والصون، والوقوف في وجه العدو إذا تطلب ذلك، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾(الأنفال:60)، ومع ذلك ينبغي عليها أن تعلم بأن الحامي لها هو الله سبحانه وتعالى وأنه لا نصر إلَّا من الله؛ قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(الأنفال: 10)، وقال سبحانه قبل ذلك في سورة آل عمران: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

فهي حقيقة واحدة ولكنها ذات وجهين: وجه في الأخذ بالأسباب، ووجه في الاعتماد والتوكل على رب الأرباب.

والتوكل مرتبة عالية من مراتب الإيمان، وهو من أسباب الفوز بحب الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[آل عمران: 122]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[آل عمران: 159]، وقد جعله الله تعالى سببًا من أسباب الرزق وكفاية العبد؛ فقال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق: 3]، ومع ذلك فقد أمر الله سبحانه بالأخذ بالأسباب؛ حتى لا يتحول التوكل إلى تواكل وكسل.

وفي الحديث أن رجلاً سأل النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّل؟ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “اعقِلْها وتَوكَّلْ”، أي: اربط الناقة في المكان الذي تركتها فيه حتى لا تذهب وتضل، ثم توكل على الله سبحانه وتعالى واسْعَ في حاجتك.