أبو عبيد البكري وفن المعاجم

أبو عبيد البكري هو عبد الله بن عبد العزيز، من بيت إمارة في الأندلس، ومن أجداده أيوب بن عمرو البكري الذي ينسب إلى بكر وائل القبيلة العربية المشهورة، وكان قاضيًا ببلدة لبلة في قرطبة، وكان ذا علم وفضل وعفة ومروءة ورحل إلى المشرق فأدى فريضة الحج، ولقى جماعة من العلماء، وتوفي أيوب في شهر رمضان عام 398هـ/ مايو 1008م. وفي أشبيلية أقام أبو عبيد حتى توفي، وقد نيف على الثمانين عام487هـ/ 1094م. 

وقد كان فقيهًا مالكيًّا تتلمذ في المالكية على يد  أبو عمر يوسف بن عبد الله النَّمري المعروف بابن عبد البر (ت. 463هـ) صاحب الاستيعاب في معرفة الأصحاب والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار والإنباه على قبائل الرواة والتمهيد، لما في الموطأ من المعاني والأسانيد والكافي في فقه أهل المدينة وتجريد التمهيد في الموطأ من المعاني والأسانيد وجامع بيان العلم وفضله.

تتلمذ أبو عبيد البكري على أحمد بن عمر العذري (ت. 478هـ) أحد أعلام الجغرافيا العرب في الأندلس صاحب «دلائل النبوة»، و«نظام المرجان في المسالك والممالك». وتتلمذ على ابن حزم الظاهري (ت. 456هـ) صاحب الفصل في الملل والأهواء والنحل والمحلى شرح المجلى وطوق الحمامة والإحكام في أصول الأحكام ومراتب الإجماع وغيرها، وعاصر ابن حيان وابن بسام ومن إليهم. وقد كان عالمًا لغويًّا وفقيهًا ومؤرخًا وجغرافيًّا ونباتيًّا وشاعرًا مدققًا، كما كان محققًا مدققًا لا يكتب شيئًا إلا بعد أن يستوثق منه تمامًا، ونظرة يسيرة في كتابه معجم ما استعجم تكشف عن هذه الملكة.

والأخبار متواردة عن عناية البكري بالكتب واجتهاده في نسخ أصوله منها بيده، ومراجعة ما ينسخ مراجعة دقيقة، ثم العناية الكاملة بالمحافظة عليها. ويبلغ الإنتاج العلمي للبكري اثني عشر كتابًا في كافة التخصصات، وهذه المؤلفات هي:

  1. كتاب «الإحصاء لطبقات الشعراء»
  2. كتاب «اشتقاق الأسماء».
  3. «التنبيه على أغلاط أبي علي في أماليه»
  4. «شفاء عليل العربية».
  5. شرح أبيات الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلام
  6. «فصل المقال في شرح كتاب الأمثال»
  7. «الآلي في شرح أمالي القالي»
  8. «أعلام نبوة نبينا محمد».
  9. «التدريب والتهذيب في ضروب أحوال الحروب».
  10.  «النبات»

أما مؤلفاته الجغرافية فهي:

   11 ـ معجم ما استعجم من أسماء الأمكنة والبقاع.

   12 ـ المسالك والممالك. 

وكتاب معجم ما استعجم هو أول ما ألف البكري في الجغرافية، وهو أول معجم جغرافي في تاريخ التأليف الجغرافي عند العرب، فالتفكير في وضع معجم أبجدي لأسماء المواضع هو نوع جديد من التأليف الجغرافي عند العرب، نوع سيتطور ويزدهر حتى يصل إلى ذروته في معجم “ياقوت” المعروف. والتفكير فيه يدل على عقلية منظمة منهجية عند صاحبها. فإن إحصاء هذه المواضع وضبطها يتطلب قراءة أصول الحديث والسيرة والشعر والنثر لتقييد ما فيها من الأعلام الجغرافية مع ضبطها.

وقد رتب البكري معجمه على حروف الهجاء حسب ترتيبها عند الأندلسيين في عصره وهو: أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ و ي، وجعل ترتيب الكلمات في كل باب على ترتيب الحرفين الأول والثاني الأصليين من الكلمة، دون نظر إلى ترتيب ما بعدها من الحروف، وإذا كان الحرف الثاني ألفًا زائدة، كألِفِ صاحب وفاضل، أهمله، ولم ينظر إليه، واعتبر الحرف الثاني ما بعد الألف، وفي هذا ما فيه من العسر والتكلف.

وقبل أن يبدأ البكري في ترتيب معجمه شرح جغرافية شبه الجزيرة العربية، وهذه الدراسة أوفى من صفة جزيرة العرب للهمداني (334هـ). فمع أن الهمداني من أبناء شبه الجزيرة العربية وقد جابها من طرف لطرف باحثًا منقبًا، إلا أنه لم يصل لدقة البكري وشموله، إلا فيما يتصل باليمن وجنوبي الجزيرة. مما يشهد للبكري بقدرة فائقة على الجمع والاستيعاب والتنسيق والترتيب وسلامة التصور الجغرافي، كما أن القسم الخاص بمصر من مسالك البكري أوفى ما أُلف في جغرافية مصر قبل تقي الدين المقريزى (ت. 1441م) وهكذا.

وذلك كله يرجع إلى أن البكري كان يتصف بدقة لا يدانيه فيها إلا القليلون، فهو لا يكتفي بما يقع تحت يده من الكتب، بل يبحث عن الأصول، ثم يرجع إلى المراجع التي استند إليها أصحاب هذه الأصول، كما أنه كان  ثبتًا في ضبط الألفاظ وتقييد الروايات والضبط الكامل في الكلام والتحديد، ودقة التصور لما يصف، كأنه كان يرسم لنفسه خرائط ورسومًا يضع عليها أسماء المعالم الجغرافية حتى يعرف بالضبط موضع العَلَم الذي يتحدث عنه. ولم يكن ذلك ميسورًا للبكري إلا بعد دراسة طويلة لكل ما ورد من الإشارات الجغرافية فيما قرأ من الكتب، وهو ينص على مصادره وأصوله بغاية الدقة، وقائمة مراجعه طويلة، ويكفي أن نذكر أنه في الصفحتين الأوليين فقط من «ذكر جزيرة العرب» يرجع إلى هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت. 204هـ) والأصمعي (ت. 216هـ) والخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ) وإبراهيم بن إسحاق الحربي (285هـ) وعشرات غيرهم. وهو لا يكتفي بذكر المرجع بل يأتى بسنده. هذا إلى إيراد أمثلة من الشعر ورد فيها ذكر المواضع، وتتخلل ذلك كله إشارات تاريخية طويلة تتصل بالموضوع.

ومن المؤكد الثابت أننا لا نملك أي مؤلف آخر نستطيع أن نقارنه به سواء من ناحية الشمول أو ناحية الدقة والتحقيق في التفاصيل، فهو يضم أسماء حشد من أسماء أعلام الأماكن والجبال والأنهار وما إلى ذلك مما يرد في كتب التاريخ العربية القديمة والأحاديث النبوية والأشعار خاصة، مرتبة بحسب ترتيب الأبجدية المغربية. وهو يدرسها برسمها الدقيق ويعين مواضعها ويورد عددًا لا حصر له من الأبيات الشعرية التي يرد فيها ذكر هذه المواضع.. فهذا الكتاب لا غنى عنه لكل من يدرسون تاريخ العرب وجغرافية بلادهم وأشعارهم والأحاديث النبوية ذات المعنى التاريخي.

وقد نشر المعجم في أكثر من طبعه، ولكن أشهرهما طبعتان، أولاهما طبعة فرديناند فستنفلد، إذ اعتمد فيها على أربع مخطوطات، عام1876م في جوتنجن في ألمانيا. والثانية قام بها الأستاذ مصطفى السقا (ت. 1969 م) اعتمد فيها على مخطوطات أخرى وقابلها بطبعة فستنفلد فجاءت غاية في الدقة والكمال وصدرت في أربعة أجزاء في القاهرة عام 1945م.

أما كتاب “المسالك والممالك” فمطبوع في عدة طبعات، منها طبعة بتحقيق: أدريان فان ليوفن وأخرى بتحقيق: جمال طلبة، وثالثة بتحقيق دار الغرب الإسلامي وغيرها من الطبعات. وفيه يتحدث عن «جملة القول في جزيرة العرب وشيء من أخبارها» حيث يورد ملخصًا لوصف شبه الجزيرة الذي أورده في «معجم ما استعجم»، ثم ينتقل إلى «ذكر أخبار العرب العاربة والأمم الداثرة ومذاهبهم وديانتهم وسيرهم» ثم «ذكر معبودات العرب وعلة عبادتهم الأصنام» ثم «ذكر بيوت النيران». وفي هذا الفصل يجمع أخبارًا وغرائب نقلها من الكثير من كتب الجغرافيين والإخباريين.

والبكري يعتمد في بعض فصول كتابه على كتابي بطليموس (90-168م) الجغرافية والمجسطى، ويحقق كلام إيراتوستين (276ق.م.-194ق.م.) عن محيط الأرض وقطرها، ويُجْمِل بعد ذلك أقوال الجغرافيين والرياضيين عن أطوال محيط الأرض قائلاً: «فهى كَوْرُ كَوْرَةِ الأرض المحيطة بالبر والبحر، فقطرها على هذا 6424 ميلاً تقريبًا بتقريب» وهو تقدير صحيح لقطر كرة الأرض، وهنا يتبين لنا أن فكرة خروج السفن من غربي أوروبا لتصل إلى شرق الصين كانت عند البكري بديهية من البديهيات.

ويتناول المسالك والممالك للبكري جغرافية الدنيا كلها على طريقته، ومنهجه فيها يختلف بعض الشئ عن مناهج الآخرين؛ والأجزاء الخاصة ببلاد العرب ومصر والمغرب تنفرد بميزة كبرى، وهي أنه يقف عند كل موضع وقعت فيه حادثة تاريخية ويتحدث عنها بتفصيل. فإذا علمنا أن الجزء المطبوع الخاص بالمغرب وحده يعدل نصف حجم «صورة الأرض» لابن حوقل (ت. 367هـ)، وهو أوسع كتب المسالك والممالك التي بين أيدينا وأكثرها تفصيلاً، تبين لنا أن كتاب البكري هو أوسع ما ألف العرب في هذا الباب وأشمله على الإطلاق.

ولا يكاد يغادر البكري مدينة أو قرية أو جبلاً أو بحيرة أو نهرًا إلا ذكره بتفصيل يدل على جهد كبير في البحث والاستقصاء، مع ما لا بد منه من الإشارات إلى الموارد والمحصولات والمعادن والصناعات وأصناف الناس وما تيسر له من المعلومات عن طباعهم. فهو في الواقع ليس مجرد كتاب مسالك وممالك، وإنما هو جغرافية وصفية بشرية اقتصادية من الطراز الأول. ومثال ذلك قوله: «برقة: واسمها بالرومية الإغريقية بنطابلس، وعلى ستة أميال من برقة الجبل، وبرقة دائمة الرخاء، كثيرة الخير، تصلح بها السائمة، وتنمو على مراعيها، وأكثر ذبائح أهل مصر منها، ويحمل إلى مصر منها الصوف والعسل والقطران، وهو يعمل بها بقرية من قراها يقال لها مقة فوق جبل وعر، لا يرقى إليها فارس على حال، وهي كثيرة الثمار من الجوز والأترج والسفرجل وأصناف الفواكه، وبمدينة برقة قبر رويفع بن ثابت الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وللبكري عناية بالتاريخ، فهو لا يفرغ من ذكر موضع  إلا بذكر طرف من تاريخه، وهو يتعمد أن تكون هذه الأطراف التاريخية متصلة بفتح المسلمين للبلد، أو ذات علاقة بمعالم عمارته كَسورِه ومساجده وأبوابه وأسواقه وما إلى ذلك، فأما ما يتصل بالفتح فمصدره فيه ابن الحكم أو الليث بن سعد أو مسلمة بن عبد الملك وابن لهيعة والبلاذري والوراق.

ومهما يكن من الأمر فإن مسالك البكري تعتبر قمة من قمم التأليف الجغرافي في هذا النوع عند المسلمين، إذ وصل بهذا الفن إلى درجة من الشمول والاتساع والدقة لم يصل إليها أحد قبله في الشرق أو الغرب.

قال ابن الأبار (658هـ) في الحُلة السيراء في شعر الأمراء: وكان أبو عبيد البكري من مفاخر الأندلس وهو أحد الرؤساء الأعلام وتواليفه قلائد في أجياد الأيام.

المراجع:

البكري، عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي، المتوفى سنة 487 هـ  “معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواقع”، حققه مصطفى السقا، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1417هـ/1996م.

البكري، عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي، المتوفى سنة 487هـ، المسالك والممالك، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992م.

حسين مؤنس، تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، مطبعة مدبولي، القاهرة، 1986.

أ. د. عبد العظيم أحمد عبد العظيم، الفكر الجغرافي، مكتبة الإسراء، الإسكندرية، 2024.

أ. د. عبد العظيم أحمد عبد العظيم، الكشوف الجغرافية، دار الكنوز، الإسكندرية، 2012.

عبد الله يوسف الغنيم، مصادر البكري ومنهجه الجغرافي، ذات السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع، الكويت، 1974م.