أخذت النزلة الوافدة الشكل الوبائي الذي فعله فيروس كورونا، فتأتي هذه المرة شرسة مؤلمة سريعة المضاعفات، ولم تعد الأعراض المتعارف عليها من رشح وزكام تصيب المريض وتنبهه ليبدأ الراحة ورحلة العلاج، وإنما تهاجم مريضها مباشرة بأعراض حادة تبدأ بارتفاع مفاجئ وشديد في درجة الحرارة، وانهيار كامل في القوى الجسمانية، مع وجود فيروس يستقر بالحلق محدثًا التهابات شديدة في الصدر، وآلامًا مبرحة بالعظام.
فكيف نواجه هذا الفيروس الجديد؟ وكيف نتقي شر آلام ومتاعب فيروسات النزلة الوافدة التي أصبحت تغير من أشكالها وأساليبها كل عام؟ وماذا تقول الأبحاث الطبية العالمية عن العلاجات الجديدة التي خرجت لمواجهة خطر هذا الفيروس؟
يرجع وباء النزلة الوافدة إلى شدة برودة الجو، وتناول الناس الأدوية الكيميائية بصفة مستمرة ضد هذا الفيروس المراوغ، مما أدى إلى تَحوُّره في صورة أخرى وبائية. وهناك اختلاف بين النزلة الوافدة بأنواعها ونزلات البرد، ويجب التفرقة بين أعراضها؛ فالنزلة الوافدة دائمًا تأتي في صورة ارتفاع درجة حرارة الجسم، التي تصل إلى 40 درجة، وتستمر لمدة 48 ساعة تقريبًا، ثم تنخفض خلال الأيام الأربعة التالية، ويصاحبها رعشة شديدة بالعضلات وآلام في العظام، وصداع وكحة جافة ومؤلمة، بالإضافة إلى آلام بالحلق مع الشعور بدوارٍ وإجهاد شديد.. وهذه الأعراض عادة ما تنتهي بعد خمسة أيام إذا لم تحدث مضاعفات.
أما نزلات البرد فتظهر أعراضها ببطء عن أعراض النزلة الوافدة، ويكون ارتفاع درجة الحرارة أقل، والكحة مصحوبة ببلغم، ولا يصاحب ذلك صداع أو آلام في العضلات والعظام أو الضعف الشديد. ويميز نزلات البرد وجود الزكام والعطس، وهما نادرًا ما يصاحبان النزلة الوافدة التي تعتبر مرضًا حادًّا يصيب الجهاز التنفسي بسبب عدة فيروسات دائمة التغير، من أهمها فيروس (أ، ب، ج)، وتعتبر مجموعة الفيروس (أ) أهمها وأخطرها؛ لأن تلك المجموعة -بالذات- هي المسؤولة عن حدوث الوبائيات التي تنتشر في العالم.
ابتكر العلماء وسيلة تشبه الإنذار المبكر لحدوث الغزو قبل ظهور الأعراض، للإسراع نحو الأدوية المقاومة ضده، مع الوسائل المنزلية المتاحة. وهناك إحدى الوسائل التي يجرى اختبارها تتمثل في شريط صغير، عند لمسه باللسان كل صباح أو مساء يتخذ لونًا محددًا، في وجود أو مع بداية غزو فيروس النزلة الوافدة، ومن ثم الاستعداد لمقاومته لتفادي الأعراض التي يسببها.
كما اكتشف العلماء حقائق مهمة، من بينها أنه كلما بدأت المعالجة مبكرًا تكون النتيجة أفضل، فالجسم عندئذ سيتعرض لكمية أقل من الفيروسات قبل تكاثرها. لذا فالطريقة المثالية لفاعلية الأدوية المقاومة للفيروس، تكون باختبارات فورية تنذر بوجود الغزو قبل ظهور أعراضه، وذلك عندما يستكمل العلماء التجارب حول هذا الأسلوب الجديد.
من الاكتشافات الأخرى في عالم الصراع مع هذا العملاق النائم، وجود نوعين رئيسين لفيروساته، لكل منهما العديد من السلالات التي تم تصنيفها تحت أسم (أ، ب)، وهما يختلفان في بعض بروتيناتهما الداخلية، فضلاً عن نوع ثالث يحمل اسم (ج)، وهو لا يشكل خطرًا مثل الاثنين الآخرين. وبالإضافة إلى تباين هذين النوعين الخطيرين وآثار كل منهما، فهما يختلفان من الناحية الكيميائية ومدى انتشارهما؛ ففيروسات (ب) تُعدي البشر فقط، وتسبب أوبئة إقليمية محدودة، بينما تصيب أيضًا، فيروسات النزلة الوافدة من نوع (أ)، الخنازير والخيول وحيوانات الفقمة البحرية والحيتان والطيور.
والفيروسات الخطرة من نوع (أ) ربما تكون مسؤولة عن النزلة الوافدة الإسبانية التي اجتاحت العالم عام 1918م، وتسببت في وفاة 20 مليون إنسان، وبعد الإسبانية ظهرت الآسيوية عام 1957م، ثم الآتية من هونج كونج عام 1968م، وفي عام 1997م بدأت مسيرة فيروس النزلة الوافدة للدجاج الشهيرة.
من الغريب أن النزلة الوافدة للدجاج، قفز فيروسها من الدجاج إلى البشر مباشرة، وهي ظاهرة لم تحدث من قبل، أي إن الفيروس تعدى حاجز الاختلاف بين الطيور والثدييات ليصل مباشرة إلى الإنسان. ويرى بعض العلماء أن هذه الحالة تحتاج إلى الرقابة والوعي، من أجل اكتشاف مصدر الوباء مبكرًا.. فلم يعد الأمر مقصورًا على نقل العدوى من إنسان إلى آخر، بل ينبغي مراقبة الحيوانات والطيور المهاجرة، فهي قد تحمل مستودعًا على مدار السنة لفيروسات النزلة الوافدة من نوع (أ)، التي تنتقل منها إلى طيورنا الأليفة ثم إلى الإنسان، وقد يساعد الاكتشاف المبكر على تجنب حدوث مشكلة صحية كبيرة للبشر.
استدعت ظاهرة انتقال الوباء من الدجاج إلى الإنسان، ضرورة إعادة النظر فيما يسمى بحاجز الأنواع التي تفترض صعوبة انتقال سلالات النزلة الوافدة من نوع حيواني إلى آخر. فإذا أمكن فهم هذا الحاجز بصورة أفضل، فقد يستطيع العلماء سد الثغرات التي تسمح الآن لسلالة من الطيور والحيوانات، بتحدي واختراق هذا الحاجز وإحداث المرض للبشر.
اكتشف العلماء مؤخرًا، أن غزو فيروسات النزلة الوافدة يعتمد على نوع من الأنزيمات يساعد على تكاثرها وتزايد أخطارها، لذا ابتكروا عقارين يجري اختبارهما الآن، ويعتبران سلاحين في المقاومة والوقاية من العدوى إلى حد كبير، وتخفيف شدتها عند المعالجة فور الشعور بغزو الفيروس. وإذا كانت اللقاحات تحفز المناعة لمواجهة الغزو الفيروسي، فإن هذين العقارين متخصصان في مهاجمة الفيروس بصورة مباشرة، فهما يعيقان أنزيمًا خطيرًا يساهم بدور مهم في تكاثر الفيروس.
كما أن فعاليتهما تشمل النوعين (أ، ب)، علمًا بأن كل نوع منهما تخرج منه سلالات متعددة تظهر كل واحدة بتغيرات في جيناتها، الأمر الذي يجعل من لقاح ضد النزلة الوافدة غير فاعل ضد السلالة الجديدة، والتغير في بروتينات فيروسات النزلة الوافدة، يُصعِّب من مهمة ابتكار لقاح لجميع الأنواع.
الفيروسات الجديدة من النزلة الوافدة التي لم نسمع عنها من قبل، ظهرت كلها مع موجات البرد والصقيع الذي تشهده الآن بلاد العالم شديدة البرودة في الشتاء، كأوروبا وأمريكا والدول الإسكندنافية، وبعض دول الشرق الأوسط التي تقع في حوض البحر الأبيض المتوسط والبلاد القريبة منها، التي تأثرت بالصقيع والرياح الباردة القادمة من الدول سالفة الذكر. وإذا كانت الصيدليات قد قدمت العديد من أصناف الدواء والعقاقير الطبية والكيميائية، فإن طب الأعشاب بدأ يدخل ميدان المعركة ضد فيروسات النزلة الوافدة، مؤكدًا أنه يستطيع أن يواجهها بتوابعها ومتاعبها.
للنباتات الطبية دور فاعل في مواجهة فيروسات النزلة الوافدة، فهناك عدة علاجات في الطب الشعبي لمقاومة مسببات المرض وضعف قدرة الجهاز المناعي؛ منها أن يبادر المريض بتناول المشروبات الطبيعية الساخنة، وبصفة خاصة عصير الليمون الدافئ، ومشروب القرفة والزنجبيل والدار صيني والبردقوش، كما أن استخدام نباتات زيوت طيارة أو عطرية تحتوي على راتنج وأصماغ ومواد قلوية وجليكوسيدات، يساعد كثيرًا في التغلب على نشاط فيروس النزلة الوافدة.
أما الأطفال فلهم وصفات خاصة، فما يستطيع أن يتحمله الكبير قد لا يتحمله الصغير ولا يصلح له، وربما يسبب له متاعب إضافية على متاعب النزلة الوافدة.. فاستخدام عصير الجزر بعد تحليته بالسكر أفضل علاج لسعال الأطفال مثلاً، ويمكن استخدام مزيج مكون من مطبوخ شرائح البصل الممزوجة بعسل النحل، وأيضًا استخدام مغلي الشوفان، والكاموميل، والتليو المضاف إليه عسل النحل بعد تصفيته كعلاج فعال لنزلات البرد والقضاء على سعال الأطفال.
للوقاية، يعتبر مغلي جذور نبات الجنسين وحبة البركة والبابونج والسفرجل المحلي بعسل النحل وغذاء ملكات النحل، من الأعشاب التي تزيد مناعة الجسم لمواجهة أمراض البرد والنزلة الوافدة، وكذلك الإكثار من تناول المشروبات الدافئة سالفة الذكر، التي تزيد من المقاومة الطبيعية لجسم الإنسان ضد الإصابة بالنزلة الوافدة والنزلات الشعبية.
(*) أستاذ ورئيس قسم جراحة العظام والتقويم سابقًا، كلية الطب بجامعة الإسكندرية / مصر.
المراجع
(1) Alluwaimi، A.M. (2023) Identification of pyrogenic components of Influenza virus using reassortants of differing pyrogenicity ph. D. thesis . University of Birmingham، UK.
(2) Kilbourne، E.D. (2023) Influenza. Plenum Medical Book Company. New York.
(3) Thompson، T. (2023 ) Annuals of Influenza of epidemic catarrhal fever in Great BRITIAN from 1515 to 1837. Sydenham Society London.