في مرحلة توطيد أركان الدولة، كان السلاطين العثمانيون يتزوجون ببنات حكام الدول المجاورة أو بنات الأعيان والأشراف، ولكن ما إن حلّت مرحلة الازدهار حتى تغيرت هذه الحالة؛ حيث بدأ السلاطين يكتفون -في غالب الأحيان- بالزواج ببعض جواري القصر فقط، وذلك ليمنعوا التدخّلات السيئة التي يُحتمَل أن يقوم بها الأصهار مستغلين قرابتهم من السلطانة زوجة السلطان. وفي المراحل اللاحقة، بدأ السلطان يعيش مع عائلته داخل القصر في جناحٍ يسمى “حريم السلطان”، الذي أعيدت تنظيم هيكلته من جديد في عهد السلطان محمد الفاتح. وبعد فتح إسطنبول في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي، نُقِل حريم السلطان الذي كان في قصر “العتيق” في حيّ “بيازيد”، إلى قصر توب قابي الذي أقام فيه السلاطين العثمانيون زمنًا طويلاً.
لابد أن نشير بدايةً إلى أن حريم السلطان -الذي نُقشت جدرانه ومداخله بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأدعية المأثورة- وُصفت الحياة فيه من قِبل الغربيين بشكل خيالي مجاف للحقيقة. ولكن على الرغم من كل تلك الأوصاف الزائفة، ظل الحريم محافظًا على حرمته وأصالته فلم تتلطخ فيه قدسية العائلة التي هي مهد الأخلاق الإسلامية والأصالة التركية، لأن السلاطين حرصوا أشد الحرص على أن يضعوا حواجز بينهم وبين سكّان الحريم، ويتعاملوا معهم ضمن قواعد صارمة ومعايير منضبطة.
ومما يجب لفت الانتباه إليه أيضًا، هو أن التاريخ سجل الكثير من مكائد النساء في القصور الأوربية، ولكن لا نرى -في المقابل- إلا القليل من قبيل هذه الأحداث في قصور الدولة العثمانية؛ من مثل ما وقع في أيام السلطانة من الجواري “هُرَّم” زوجة السلطان سليمان القانوني، وأيام السلطانة “نور بانو” و”صفيّة” و”كُوسَم”. ولا شك أن أهم سبب أدى إلى هذه التدخّلات من قِبل النساء العثمانيات، هو جلوس جل السلاطين على سدة الحكم في سن الصِّغَر، وذلك منذ عهد السلطان أحمد الأول وطيلة معظم القرن السابع عشر الميلادي.. أدى هذا الأمر إلى صعوبة السيطرة على الدولة، ومن ثم إلى غياب السلطة في التنظيم، كما أثّر -بطبيعة الحال- على مؤسسة الحريم تأثيرًا سلبيًّا؛ حيث بدأت أمهات السلاطين بالتدخل في شؤون الدولة وفرض نفوذهن على الحكم بشكل لم يكن له مثيل سابق في الدولة العثمانية. استمر هذا الوضع حتى عهد السلطان محمد الرابع الذي تربع على العرش في السابعة من العمر، حيث قامت والدته السلطانة “خديجة تورهان” بمساعدة وتوجيه ابنها السلطان في النصف الأول من حكمه، ثم تركته ليحكم البلاد بنفسه، وراحت هي تنشغل بتربية نساء الحريم وترسيخ فكرة عدم تدخل النساء في شؤون الدولة والسياسة.. وقد استمرت هذه التربية المحمودة حتى نهاية عهد الدولة العثمانية. ولابد أن ننوه هنا، أن تدخُّل بعض أمهات السلاطين في الحكم، كان خوفًا منهن على زوال الدولة العلية، فذلك أدى إلى تدعيم أركان الدولة في وقت الضعف. فمثلاً، توجيهات السلطانة “كوسم” والسلطانة “تورهان” التي أبدينها في الشؤون الإدارية، ربما كان دليلاً على أنهما تمتلكان المعرفة الكافية للتمييز بين الخطأ والصواب فيما يخص الإدارة. يسكن في الحريم أهلُ السلطان مع الخدّام من الجواري.. أما مَن يمتلك السلطة والصلاحيات التامة داخل جناح الحريم فهي والدة السلطان. وأما المشرف على الخدَم والعمال نساء ورجالاً، فهو شخص يسمى “آغا الحريم”.
إن من أهم المسائل التي يدور النقاش حولها في هذه الأيام عن الحريم والتي تم تفسيرها خطأً، هي مسألة الجواري.. من المعلوم أن الجواري هن من أسرى الحروب، ومن المعلوم أيضًا أن الإسلام أمر بحُسن معاملة الأسرى والرفق بهم، وعدم إيذائهم أو التعرُّض لما يجرح كرامتهم.. فعلى هذا الأساس سارت الدولة العثمانية وتعاملت مع الأسرى برفق، وسعت إلى تربية النساء منهم تربية إسلامية، وبذلت الجهود لهدايتهن إلى الإسلام، ثم من بعد استئناسهن بالإسلام قامت بإطلاقهن أحرارًا.. نعم، هذا ما كان يوصي به العلماء في مؤسسة الحريم، وهذا ما كان يفعَّل على أرض الواقع. ولا شك أن هذه القيم الإسلامية التي نفّذتها الدولة العثمانية، أقامت لها حضارة راقية لا نظير لها في مسرح التاريخ.. وليس بغريب أن تُخرِّج هذه الحضارة من جواري الحريم؛ “السلطانة الوالدة” أي والدة السلطان التي تعني “First Lady” (السيدة الأولى) في أيامنا هذه.
الحريم مدرسة قيم وأخلاق
إن الوظيفة الأساسية التي يتقلّدها الحريم، كانت تتجلى في كونها مؤسسة تعليم تطبيقي تسعى إلى تربية الجواري اللواتي سيَقُمن بخدمة القصر. كانت الجواري يتعرّفن في الحريم على الأخلاق الإسلامية السامية، ويتعلّمن القراءة والكتابة، ثم يتلقّين العلوم الدينية والاجتماعية من جانب، ومن جانب آخر يتعلّمن كيفية التعامل مع أهل القصر والأدب في الحديث والمعاملة.. ووفقًا للقابليات والمواهب، كنّ يتعلّمن كذلك فن الموسيقى أو مهنة الخياطة أو مهنة التطريز وغيرها من المهن.. ومن ثم كان يتم توظيفهن في القصر وفقًا لاختصاصهن.. وأما المتفوّقات منهن، كنّ يرتقين إلى مرتبة “نائب المشرف”، ومن ثم يتم تعيينهن إما إلى دائرة السلطان أو دائرة والدة السلطان، وإما إلى دائرة زوجة السلطان أو دائرة فرد من أهله.. وأما الماهرات الذكيات منهن، كان يتم ترقيتهن درجة درجة من خلال تقييم أدائهن، وفي نهاية الأمر يُلقََّبْن بـ”المعلّمة” ليقمن بخدمة السلطان مباشرة. ولعل هذا النظام دليل على أن ترقية الجواري كانت تتحقق وفقًا للكفاءات، وليس وفقًا للشكل والجمال كما يزعم الكثير من الناس. بل الجارية المتفوّقة في التعليم، الكاتبة القارئة جيدًا، صاحبة الكلام الطيب والمؤدب، هي مَن كانت تستحق الترقية. ولابد أن نلفت الانتباه هنا إلى أن نظام الحريم هذا، كان شبيهًا جدًّا بنظام “الأندرون” الذي ينشئ رجالاً أكفّاء موثوقين قادرين على تقلُّد المناصب الإدارية المهمة في أجهزة الدولة العثمانية.
كانت بعض الجواري تُحرَّر ويتم تسريحها من الحريم؛ حيث يُعَدُّ جَهازها ويقدَّم لها وثيقة التسريح لتتزوَّج برجل “أندروني” تَربّى وتعلّم ونشأ -مثلها- في القصر السلطاني. كان السلطان بنفسه يهتم بزواج الأندرونيين مع جواري الحريم، حيث كانت هذه المبادرة من السلطان، تعزز ثقة الأندرني به وتزيد من صدقه ووفائه تجاه دولته. ولا شك أن هذا الأمر يبين لنا مدى قوة المركزية وعمق جذورها لدى الدولة العثمانية. كان يطلق على الجواري المسرَّحات من القصر اسم “أهل القصور”. هذا وقد كان القصر السلطاني يخصص الرواتب وكل التسهيلات، للواتي لم تتيسّر أمور حياتهن خارج القصر، أو للواتي ترمَّلْن.. أما اللواتي لم يرغبن في مغادرة القصر، كن ينلن الحماية الكاملة والحياة الكريمة في الحريم طيلة حياتهن.
الحريم جامعة حصينة
تم تربية المئات من الجواري في الحريم خلال فترة الازدهار، بيد أن نسبة 90% منهن كن يعملن كخادمات.. أما المتفوّقات من بين هذه الجواري فكانت تعمل في خدمة الحريم وأهل السلطان فقط مقابل راتب مخصص لهن، كما لم يكن لهن أية صلة مع السلطان أبدًا، إنما كان السلطان يهتم فقط ببعض الجواري المتعلِّمات الذكيات المتفوّقات اللواتي تم اختيارهن من قبل والدة السلطان أو المشرف، ولم يكن يعلم شيئًا عن غيرهن ولم يكن يرى من الأخريات واحدة.
إن التخطيط المعماري للحريم تم تصميمه على شكل جامعة حصينة لا تسمح بالدخول العشوائي إليها حتى للسلطان.. ولعل هذا الأمر، يكفي لأن يُضحد كل الادعاءات التي تقول بأن السلطان كان يقوم بصفّ مئات الجواري ويختار منهن من يريد. لقد كان للحريم تخطيط معماري خاص يمنع رؤية ما يجري داخله، ويمنح لسكانه الحرية التامة في ممارسة الحياة اليومية.
استمرارية الذُرِّية بالنسبة لآل عثمان كان أمرًا مهمًّا للغاية.. ومع ذلك كان يُتوفَّى بعض أولياء العهد في سنّ مبكّر بسبب أو بآخر، أو لم تكن تنجب بعض الجواري الأولاد، أو تلد بعضها الآخر للسطان إناثًا فقط.. كل هذه الأمور، كانت من ضمن الأسباب التي دفعت السلاطين العثمانيين إلى الزواج المتعدد. ولابد أن نشير في هذا المقام، إلى أن كل زوجات السلاطين العثمانيين -أحرارًا وجَوارٍ- كانت سواسية أمام السلطان وأمام الشرع والقانون. بمعنى أدق؛ كان كل ما يجري في الحريم عبارة عن حياة شريفة ومنضبطة تحكمها الشريعة الإسلامية.
والجدير بالذكر أن أغلب المعلومات التي دارت حول الحياة اليومية في مؤسسة “الحريم”، تعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي، أي إلى الفترة التي بدأ النفوذ الغربي يتوغل في القصر العثماني ولا سيما في الحريم منه.. وهذا دفع المؤرخين إلى تعميم ما كتبوه عن حياة القصر في القرن التاسع عشر، على مراحل الازدهار أيضًا، وهذا بطبيعة الحال جاء بتقييمات خاطئة خيالية لا تمت إلى الحقيقة بصلة. أما الحقيقة التي لا تتغير، فهي أن كل خطوة تخطى في الحريم، كانت مقيدة بأنظمة منضبطة وقوانين صارمة لا تسمح أبدًا بالإفراط في الترف والبذخ. بل إن حفلات تلك الأيام التي كانت تقام في الحديقة الخاصة في حريم قصر توب قابي، كانت منضبطة بقواعد أخلاقية، وكان المحتفلون ملزمين بتطبيق هذه القواعد الأخلاقية بحذافيرها. وقد استمرت هذه العادة المحمودة بعد انتقال السلاطين العثمانيين إلى قصر “دولمه باهشه” و”تشيراغان” و”يلديز” وقصر “بشكتاش” حتى في الأعراس، والأعياد، والمناسبات الدينية وغيرها من الاحتفالات أيضًا، وظلت مستمرة على هذه الوتيرة حتى نهاية عهد الدولة العثمانية.
يمكن أن نجد كل ما ذُكر آنفًا، في الكتب والذكريات التي دوّنتها بعض السلطانات في أواخر العهد العثماني، ويمكن كذلك أن نجده في كتب الباحثين المنصفين والموضوعيين الذين درسوا الحريم العثماني دراسة دقيقة.. ولعلنا إذا انتبهنا إلى الآيات القرآنية المنقوشة على جدران قاعة الاستراحة للسلطان والتي تتعلق بالحياة الأسرية والتربية والأخلاقية، نتيقّن أن ما كُتب عن الحريم من قِبل الغربيين مناف للحقيقة تمامًا.
إذن، إن الحريم العثماني -بعكس ما وُصف- مدرسة أصيلة تقوم على المبادئ والقيم الإسلامية؛ من أخلاق وتعليم وسلوك وأدب ومعاملة.. هذه المدرسة استطاعت أن تحافظ على هويتها الأصيلة ومنهجها المصبوغ بصبعة الإسلام ستة قرون.. لذا، يجب أن يُتناوَل الحديث حول الحياة في الحريم العثماني باحترام وبدون المساس بحرمته وكرامته، وبالتالي نَقْل الصورة الحقيقية له دون التوغل في الفانتزيات والتحريف. واجب علينا أن نشعر بالمسؤولية تجاه تاريخنا، ونوفي حق أجدادنا الأوفياء الذين ضحّوا بكل غالٍ ونفيس دون تردد من أجل الرسالة العالمية الإنسانية السمحاء.. لابد أن نعرِف أجدادنا بحق، ونعرِّفهم إلى العالم بأجمل الصور والأشكال.
(*) كاتب وباحث تركي. الترجمة عن التركية: ماهر جلقمة.