الخلُق الكريم والاستقامة والفضيلة، هدف من أهداف الرسالات السماوية، وأساس من أسس السعادة. ولقد اهتمت الحضارة الإسلامية اهتمامًا بالغًا بالأخلاق وحث الناس على الالتزام والتحلي بها، ومنها الأخلاق الطبية، التي تُعد مبحثًا عريقًا من مباحث علم الطب التي اقترنت به منذ نشأته، حيث ألجأت الضرورة إلى وضع مواثيق أخلاقية تضبط الممارسة الطبية، وتصوغ العلاقة بين الطبيب والمريض.
ويُعد قسم أبقراط الشهير من أقدم الوثائق التي وصلتنا في هذا الصدد. وعلى الرغم من تأثر الأطباء المسلمين بالطب اليوناني، فإن ذلك لم يمنعهم من ضبط مفاهيمه وممارساته وفق تعاليم الشريعة الإسلامية إلى الدرجة التي معها.. أعطوا للقسم الأبقراطي صبغة إسلامية؛ ضبطوا من خلالها مهنة الطبيب، ووجهوها الوجهة الصحيحة الموجهة نحو المراقبة بمعرفة محتسب الدولة. ومن هنا جاء الاهتمام بدراسة الأخلاق الطبية في الحضارة الإسلامية.
أدب الطبيب
ساهم أطباء وعلماء الحضارة الإسلامية في تأسيس أدب الطبيب بمصنفات حصرية، ومنهم ابن ماسويه، وهو أبو زكريا يحيى (يوحنا)؛ حيث كان طبيبًا ذكيًّا خبيرًا بصناعة الطب، وخدم به الرشيد، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل. وتوفي ماسويه في خلافة الأخير سنة 243هـ-857م. كان ابن ماسويه غزير الإنتاج الطبي، فسجل له ابن أبي أصيبعة أسماء ٤٢ كتابًا في الطب.
ويُعد أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (ت 313هـ-925م) أحد رواد التصنيف في الأخلاق الطبية في الحضارة الإسلامية. وهو خير ممثل لمرحلة الإبداع والابتكار من تاريخ الطب العربي الإسلامي، وذلك بفضل إنجازاته الطبية والصيدلانية والبحثية والتعليمية التي أبدعها وأفادت منها البشرية جمعاء، منها في مجال الأخلاق الطبية كتابه “أخلاق الطبيب” الذي وضعه ليكون دستورًا لتلامذته وللأطباء عمومًا لنجاح عملهم. وأول ما يجب على الطبيب من مبادئ هذا الدستور -كما يقول الرازي- صيانة النفس عن الاشتغال باللهو والطرب والمواظبة على تصفح الكتب. وهنا يتضح تشديد الرازي على دور الاستقامة الخلُقية والعلمية في نجاح عمل الطبيب الذي يقول له الرازي أيضا: “وإياك ومعاقرة الخمر، إذ ربما احتيج إليك في وقت فتُصادف سكران، فتصغر في عينيه، ويقع في علاجك من الخطأ ما لم يمكنك تداركه.
وعلى الطبيب أن يغض طرفه عن النسوة ذات الحسن والجمال، وأن يتجنب لمس شيء من أبدانهن، وإذا أراد علاجهن فعليه أن يقصد الموضع الذي فيه معنى علاجه، ويترك إجالة عينية إلى سائر بدنها”.
ومن أهم آداب مهنة الطب منذ وجدت حتى يومنا هذا، حفظ أسرار المرضى؛ فعلى الطبيب وفْق الرازي أن يكون رفيقًا بالناس، حافظًا لغيبهم كاتمًا لأسرارهم.. فإنه ربما يكون ببعض الناس من المرض ما يكتمه من أخص الناس به. وإذا كان الحق في تلقي الرعاية الصحية بغض النظر عن المستوى الاجتماعي من أهم الحقوق الإنسانية حاليًّا، فإن الرازي جعل لهذه المسألة الاجتماعية الإنسانية مبدأ في الدستور الأخلاقي، وسطره بقوله: “وينبغي للطبيب أن يعالج الفقراء كما يعالج الأغنياء”.
فقد حرص الرازي على غرس القيم الأخلاقية في نفوس طلابه؛ فكان يوصيهم بأن يكون هدفهم هو إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم، وأن يعالجوا الفقراء بمثل الاهتمام والعناية التي يعالجون بها الأمراء والأغنياء، وأن يوهموا المرضى بالشفاء حتى لو كانوا أنفسهم لا يعتقدون بذلك. والحق يقال إن الرازي تعدى الحدود الأخلاقية الأبقراطية، فلقد اقتصرت الآفاق الخلُقية في الطب اليوناني على قسم أبقراط الشهير، والذي كان مضمونه أن يقسم كل طبيب للأرباب والربات بأن يذهب إلى كل البيوت لفائدة مرضاها، دون الذهاب إلى أصحاب الأمراض المستعصية، هؤلاء الذين لا يُرجى شفاؤهم. وكان ذلك استنادًا إلى تعريف أبقراط للطب بالفن الذي ينقذ المرضى من آلامهم ويخفف من وطأة النوبات العنيفة، ويبتعد من معالجة الأشخاص الذين لا أمل في شفائهم. ولكن الرازي فكر في معالجة المرضى الذين لا أمل في شفائهم، حيث رأى أن الواجب يحتم على الطبيب ألا يترك هؤلاء المرضى، وأن عليه أن يسعى دومًا إلى بث روح الأمل في نفس المريض، ويوهمه أبدًا بالصحة ويرجيه بها وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس.
ويعتبر قول الرازي “فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس” دليلًا واضحًا على أولوية النفس في الصلة بينها وبين الجسم. لذا ينصح الرازي بأن يكون طبيب الجسم، طبيبًا للنفس أولاً، فيستطيع أن يقف على ما يجري في نفس المريض من خواطر، ويستشف من خلال ملامحه الظاهرة ما يعينه على تشخيص المرض العضوي. ولأهمية هذا الجانب، صنف الرازي كتابًا خاصًّا أسماه “الطب الروحاني” قصد فيه إصلاح أخلاق النفس. والناظر في موضوعات هذا الكتاب يرى أنها مفيدة جدًّا بالنسبة للطبيب باعتبارها أخلاقًا ينبغي أن يتمسك بها، وهي الفصل الأول: في فضل العقل ومدحه، والثاني: في قمع الهوى وردعه وجملة من رأى أفلاطون الحكيم، والثالث: جملة قدمت قبل ذكر عوارض النفس الرديئة على انفرادها، والرابع: في تعرف الرجل عيوب نفسه، والخامس: في دفع العشق والألفة وجملة من الكلام في اللذة، والسادس: في دفع العجب، والسابع: في دفع الحسد، والثامن: في دفع المفرط الضار من الغضب، والتاسع: في اطراح الكذب، والعاشر: في اطراح البخل، والحادي عشر: في دفع الفضل الضار من الفكر والهم، والثاني عشر: في دفع الاستهتار بالجماع، والسادس عشر: في دفع الولع والعبث، والسابع عشر: في مقدار الاكتساب والاقتناء والإنفاق، والثامن عشر: في المجاهدة والمكادحة على طلب الرتب والمنازل الدنيوية والفرق بين ما يرى الهوى وبين ما يرى العقل، والتاسع عشر: في السيرة الفاضلة، والعشرون: في الخوف من الموت.
وفي دستوره الأخلاقي يشدد الرازي ويحذر الطبيب من المجيء والذهاب إلى العليل، حتى إنه وضع أحد مؤلفاته ردًّا على من يقومون بهذا الفعل المَمْقوت من الأطباء، وهو كتاب “بُرء ساعة” الذي جاء تأليفه نتيجة لاشتراك الرازي في أحد مجالس العلم، حيث يذكر أنه كان عند الوزير أبي القاسم بن عبد الله يومًا، فجرى بحضرته ذكر شيء من الطب في مجلس فيه جماعة ممن يدعي علمه، فتكلم كل واحد منهم في ذلك بمقدار ما بلغه علمه حتى قال بعضهم: إن العلل تتكون من مواد قد اجتمعت على مرور الليالي والأيام والسنين والأعوام، وهذا سبيل كونها لا تبرأ في ساعة، بل يكون في مثل ذلك من الأيام والشهور حتى يتم بُرء العليل فشنع بذلك جماعة ممن حضر من المتطببين، كل ذلك يريدون به المجيء والذهاب إلى العليل وأخذ الشيء منه، فقال الوزير: ما تقول يا أبا بكر؟ فقال له: أيها الوزير إن من العلل ما تجتمع في أيام وتبرأ في ساعة. فتعجب الحكماء من ذلك. فسأل الوزير الرازي أن يؤلف في ذلك كتابًا يشتمل على جميع العلل التي تبرأ في ساعة واحدة. فبادر إلى منزله، وألف هذا الكتاب، واجتهد فيه وجعله كما هو شأنه في تأليف الكتب من القرن إلى القدم، وذكر العلل التي يجوز أن تداوى وتبرأ في ساعة واحدة.
وممن ساهم في أسس أدب الطبيب في الحضارة الإسلامية، الرهاوي، وهو إسحاق بن علي (ت240هـ-931م)؛ كان طبيبًا عراقيًّا متميزًا، عالمًا بكلام جالينوس، وله أعمال جيدة في صناعة الطب، وله من الكتب جوامع جمعها من أربعة كتب لجالينوس التي رتبها الاسكندرانيون في أوائل كتبه، وهي كتاب الفرق، وكتاب الصناعة الصغيرة، وكتاب النبض الصغير، وكتاب إلى أغلوقن، وجعل هذه الجوامع على طريقة الفصول. وأشهر كتبه “أدب الطبيب” الذي عُد من أهم الأعمال العربية في مجال الأخلاق الطبية، جاء في مقدمة وعشرين بابًا حَوَت أمهات المسائل المتعلقة بآداب الطبيب وواجباته، والمشكلات التي تثيرها مهنة الطب.
استهدف الرهاوي من وضع هذا الكتاب، إضافة إلى تعليم آداب المهنة، إبراز شرفها، وعظيم ما يستفاد منها في حالتي الصحة والمرض، وما ينبغي على الطبيب من الثقة بعون الله تعالى، خالق الإنسان والأكوان، وأنه هو الباري، والمعين، والشافي. ومما يثير الانتباه في كتاب الرهاوي، أنه بدأ مقدمته بالربط بين صحة العقيدة وكمال مهنة الطب؛ فينبغي على الطبيب الإيمان بثلاث اعتقادات، هي الاعتقاد بالخالق جل وعلا، والمحبة الصادقة التي ينبغي للعبد أن ينظر بها إلى خالقه، والإيمان بالرسل والأنبياء. وهذا تثقيف روحي للطبيب يُبْعد مَن يتحلى به عن الدنايا والخداع، وابتزاز أموال البسطاء من الناس والمرضى. كما أدخل الرهاوي في كتابه، جدولًا لأعمال الطبيب اليومية التي كان هو نفسه يمارسها بحرص ودقة واهتمام. وتتضمن وصاياه، نظافة الثوب، والجسد، وابتداء اليوم بالصلاة، ثم عيادة المرضى.
ويضمِّن الرهاوي كتابه عددًا من المبادئ الأخلاقية التي يجب على الطبيب التحلي بها، ومنها ألا يرغب في الحرام من الأموال. ولا يجوز للطبيب أن يعالج مريضًا لم يتحقق عنده مرضه، لئلاَّ يوقعه في مرض آخر يكون أعظم من الأول فيحتاج أن يُعالج من العلاج. وهذا معناه أن يكون الطبيب عالمًا ومتمرسًا بالتشخيص السليم. ووجه العدل وابتداؤه ينبغي أن يكون من الطبيب أولاً، وذلك بأن يروض نفسه ويأخذها دائمًا باستعمال الأخلاق المحمودة والأفعال المرضية، والاجتهاد في اقتناء صناعته ودرس كتبها، والمعاناة لأعمالها، لا يفرق في ذلك بين الناس كافة، ولا يفرق في ذلك بين صديقه وعدوه، ولا بين موافقه ومخالفه.. ولما كان قوم قد تغطرسوا على هذه الصناعة فادعوها بغير معرفة بها، وجب على الملك خاصة، كما يقول الرهاوي، إزالتهم عما عصوه أولاً، وألا يُمكن أحدهم من الجلوس للطب إلا بعد ما ذكرناه من الامتحان.
وإذا كانت هناك بعض القضايا الأخلاقية التي تعترض عمل الطبيب، ومنها ما لم يزل قائمًا في عصرنا مثل قضية القتل الرحيم، فإننا نجد من علماء الحضارة الإسلامية من ناقشها في عصره، وضمنها أهم كتبه، وهذا ما فعله أبو القاسم خلف بن العباس الزهراني (ت 404هـ-1013م) أكبر جراحي العرب، ومن كبار الجراحين العالمين وأساطين الطب في الأندلس. ولد في الزهراء بقرطبة، ولمع في أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجري. كان طبيبًا فاضلًا خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج. وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بـ “الزهراوي”، وكتاب “التصريف لمن عجز عن التأليف”، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها.. وهو كتاب تام في معناه. ناقش فيه الزهراوي قضية القتل الرحيم الذي أباحته حاليًّا بعض الدول بتشريعات قانونية. فنراه ينبِّه تلاميذه إلى ما يجب اتخاذه في هذا الصدد بقوله: “قد يقع إليكم في هذه الصناعة ضروب من الناس يضجرون من الأسقام، فمنهم من قد ضجر بمرضه فهان عليه الموت لشدة ما يجد من سقمه وطول بليته، وبالمرض من التعذر ما يدل على الموت.. ومنهم من يبذل لكم ماله ويغنيكم به رجاء الصحة ومرضه قتال، فلا ينبغي لكم أن تساعدوا من هذه صفته البتة، وليكن حذركم أشد من رغبتكم وحرصكم، ولا تقدموا على شيء من ذلك إلا بعد علم ويقين يصح عندكم بما يصير إليه العاقبة المحمودة، واستعملوا في جميع علاج مرضاكم تقدمة المعرفة والإنذار بما تؤول إليه السلامة، فإن لكم في ذلك عونًا على اكتساب الثناء والمجد والذكر والحمد، ألهمكم الله يا بَنيّ، الرشد، ولا حرمكم الصواب والتوفيق.
وبعد الزهراوي، يستمر التواصل العلمي بين أجيال العلماء في التصنيف للأخلاق الطبية، ومنها رسالة “دعوة الأطباء” لابن بطلان المختار (ت 458هـ)، والرسالة “الأفضلية في تدبير الصحة” لموسى بن ميمون (ت 604هـ) ورسالة “في بيان الحاجة إلى الطب وآداب الأطباء ووصاياهم” لمحمود بن مسعود الشيرازي (ت 710هـ).. وهذه المصنفات ناقشت مباحث رئيسة في أدب الطبيب، مثل أخلاق الطبيب وآدابه التي يصلح بها نفسه، المؤهلات والاشتراطات العلمية التي ينبغي توافرها فيمن يمارس مهنة الطب، حدود عمل الطبيب، أو المحظورات التي ينبغي للطبيب توقيها، ضوابط العلاقة بين الطبيب والمريض، ما يجوز فيها وما لا يجوز.
خلاصة القول، إن كثيرًا من المبادئ الأخلاقية الطبية التي اعتمدها علماء الحضارة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري، ما زالت فاعلة حتى اليوم في ظل التطور المعاصر للعلوم الطبية.
(*) أكاديمي وباحث مصري.