الأب مصدر الأمان والسلوان

الأب أهدأ جنة في الأرض لا يصلها ولا يجد عرفها الا من أتاها بقلب سليم وله جذور تمتد إلى أعماق الثرى ونحن الأولاد كأزهار تبتسم وترقص فوقها، الأب أيقونة الجد والسعي يحمل على عنقه أعباء الأسرة وأحلامهم ورمز الأمان والسلوان ومما قيل: أبي أنا في أمان وأرى حذائك أمام الباب، هو أروع صداقة في الحياة أمسكت بأيدينا على دروبها… إن هنا خيطًا رفيعًا يربط بين الأب والولد لا نلامسه ولا نشعر به إلا في نوادر الأحيان والظروف، كالربيع يجيء ولن يذهب إلا وترك في القلوب آثار المحبة والشغف ورسومًا ما زالت تبقى في الذاكرة كجفاء الفراق.

لقد قرأنا في سورة يوسف الموصوفة بأحسن القصص مدى حب النبي يعقوب عليه السلام تجاه ابنه يوسف، هذا حب سامٍ يقطع عناء البعد، يتجاوز كل دياجير الطرق، كم سهرت عيناه خوفًا عليه وكم ذاب جسده حزنًا عليه، يمضي حياته يبكي حتى أعمت عيناه. “اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ” هذه الآية تشير إلى أروع سيناريو الحب الذي شهده العالم، لما عرّف يوسف عليه الصلاة والسلام نفسه إخوته، سألهم عن أبيهم، فقالوا: ذهب بصره من الحزن! فعند ذلك أعطاهم قميصَه وقال لهم: “اذهبوا بقميصي هذا” ففي قميصه ما يحيي روحه ويجعله يبصر من رطوبة المحبة وعرق الحياة، ولله در الشاعر:  

وريح يوسف لا تأتي نسائمها إلا لقلب كان هواه يعقوبا

نرى حقيقة الأبوة في سيرة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إنه كان أبًا شغوفًا حتى لا يفارق الدعاء لهم لسانه الشريف “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ”. الأبوة له عليه الصلاة والسلام شعور لا يفنى ولا يستبدل لأنه حظي بها في آخر عمره نقرأ حصافة هذا الشعور المطلق في الآية الكريمة من سورة الصافات “رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ،إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ“.

الرسول صلى الله عليه وسلم وفاطمة الزهراء علاقة مثلى بين الأب وابنته، كان النبي إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي رحبت به ثم قامت إليه فقبلته. هذه أبوة لا يوجد لها مثيل ولا يطلع عليها أحد في التاريخ، تحمل في نبضها مخايل الإخاء والشغف، تتميز ببعض الصفات التي تجعل النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً للأب المثالي، هي المحبة والرحمة، والعدل والمساواة، والتوجيه والتعليم، والعفة والصبر والاستماع والتفهم والصداقة والترفيه. إنه أب مثالي يعزز الروابط العائلية ويعتبرها مسؤولية عظمى. هذه نماذج ممتازة لعبت دورًا ناجحًا كأب، تشير إلى أنه هو الأمان ثم الأمان ثم الأمان والحب والاحتواء ومصدر السلوان.

الأب زمام الأسرة وصاحب أمورها يتعامل معها حسن معاملة لا يدري سرها إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ويتفانى في تربية أولاده وتعليمهم، هو مودة صامتة لا ينطق بها ولا تظهر، بل إذا أمسكت بيده ونظرت إلى عنقه الصعبة وجدت من آثار أحلامك التي تراها تنعكس فيها أشعة الشمس الحارة وهو يظلك منها.