منذ نحو عقد من الزمن أعدت وزارة “التخطيط” السعودية دراسة نشرتها صحيفة “الرياض”، وفيها: “يوجد في المجتمع السعودي أكثر من مليون ونصف مليون فتاة، ومثله وأكثر من الشباب متأخرون عن الزواج. وقد بلغت نسبة “العنوسة” في قطر 15٪ ممن في سن الزواج (20ـ 30 عامًا)، وفي الكويت 18٪، وفي الإمارات والبحرين 20٪. كما يوجد في مصر حوالي 3.5 مليون فتاة دون زواج، وضعفهم (7 مليون) من الذكور”. وقد يختلف هذا الأمر من بلد لآخر حسب الثقافات. فهناك من تكون في العشرين من عمرها وتعتبر متأخرة عن الزواج (خاصة في القرى والأرياف). أمّا بالمدن فيكون بعد سن الثلاثين لأنّ الفتاة تسعى لإكمال تعليمها، وربما تشرع في عملها.

ولما يُـقدم شباب في مقتبل العمر والحياة العملية على الزواج ويقترحون على أولياء أمور الفتيات: “أنهم بسبيل إعداد بيت مناسب للزوجية، وتقديم مهر لا بأس به”، فلا يروق لهم، فيغيرونه: سنضاعف المهر، وعليكم إعداد منزل الزوجية، فيرفضون، “فلنتشارك سويًّا في تكاليف الزواج ونفقاته”، ويأتي الرفض مُجددًا، فماذا تريدون؟: “إن ابنتنا غنية، ومتعلمة، وذات جمال، نريد لها مهرًا كبيرًا، وذهبًا وفيرًا، وعُـرسًا ضخمًا، وبيتًا فخمًا”، فيكون احتمالات رد الشباب: إما العزوف عن الزواج لكثرة نفقاته، وضيق ذات يدهم، ويلوذون بقوله تعالى: “وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ..” (النور: 33). أو الموافقة لتوافر المال، أو الموافقة على مضض ـ اقتراضًا ودَينًاـ إكمالاً للدِين ورغبة في الفتاة. أو الموافقة على هذه “الصفقة التجارية”، وفي النية تعويض “الخسائر المادية” لاحقًا، أو فضًا للعقد.. طلاقًا مُبكرًا، أو عدم الموافقة والزواج من خارج بلده بأقل بكثير من مهر بنت البلد.

وبجانب هذا “الغلاء في المهور” والإسراف في متطلبات المهر وتأثيث بيت الزوجية يوجد تفشي لموضوع عضل” أولياء المرأة. وعدم تزويجها حتى للكفء لها، ورضاها به، وذلك منهي عنه شرعًا: “فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ..” (البقرة: 232). وقد يعزف الشباب عن الزواج التطلعات الزائدة لكليهما، والأماني المثالية (بفتاة/ فارس الأحلام). وكذا بسبب تفشي البطالة، أو لرغبتهم في “شعور بحرية، وهروبًا من الالتزام بالمسؤولية، والقلق من المستقبل”. وفي كثير من البلدان يوجد عادة “عدم تزويج البنت الصغرى قبل الكبرى”، وإذا ما تزوجت الكبرى فلتَبقَيا دون زواج. ومما ساهم في تفشي الظاهرة: خروج المرأة للعمل وشعورها “باستقلال اقتصادي نسبي، وعدم تبعية للرجل كذلك توجه مجتمعات نحو “الفردانيّة”، وتقلص دور “العائلة الكبيرة الممتدة” التي كانت تشرف على تنظيم الزواج وتوفر أسباب إنجازه ونجاحه.

الإسلام، والزواج.. تيسير السُبل

الزواج سنة كونية شرعها الله تعالى، ضرورة لا غنى عنها إشباعًا لحاجات نفسية، وعاطفية، وجنسية، واجتماعية، ووطنية. وتحقيقًا لمشاعر الأبوة، والأمومة، وتحمل المسؤولية، وتكثيرًا للنسل والذرية لإعمار الأرض، كما أن الرهبانية ليست من الإسلام. فعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء” (رواه الجماعة).

وسماحة الإسلام لا تعرف تعقيد سبله، ووضع العراقيل في طريقه، مما قد يُعرض الشباب والفتيات لمتاعب العزوبة، ومعاناة العنوسة، أو لزواج مُثـقل بتكاليف مادية باهظة. فلا يحصل الهناء والسعادة، بل الشقاق والتفكك، فالطلاق المبكر. ومن احترام الإسلام للمرأة، ورعايته لها، فرض حقها في الصداق “المهر”، مع حرية التصرف فيه: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ (النساء:4). فالصداق عطاء مفروض عن طيب نفس، أو طمع في استرداد شيء منه، فإن طابت أنفسهن ـ بعد ما تمَلَّكْنَه وشعرْنَ بقوامة الرجال عليهن ـ عن شيء منه، فخذوه سائغًا لا غصة فيه، ولا إثم معه. وذلك توثيقًا للصلات، وإشاعة للمودة والرحمة. ولسمو العلاقة الزوجية ورباطها المقدس، ولم تجعل شريعة الإسلام حدًّا لقلة المهر ولا لكثرته، فالناس متفاوتون فقرًا وغنىً، سعة وضيقًا، عادات وأعرافًا، فتركت التحديد ليعطى كلٌ على قدر طاقته، وحالته، وعادته. ولا يشترط في المهر إلا أن يكون شيئًا ذا قيمة، بغض النظر عن القلة والكثرة.. فيجوز أن يكون خاتمًا من حديد، أو قدحًا من تمر، أو درعًا حربية، أو جواز جعل المنفعة مهرًا على كتاب الله وما شابه ذلك.. إذا تراضي الطرفان.

فلقد تزوج صلى الله عليه وسلم ـوما كان به الفقرـ بعض نسائه على عشرة دراهم، وأثاث بيت، وجرة ماء، ووسادة من أدم حشوها ليف. كما أولم على بعض نسائه بمُدَّيْن من شعير أو من تمر. وروى “سهل بن سعد” أن النبي صلي الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني وهبت نفسي لك، فقامت قيامًا طويلاً، فقام رجل، فقال: يا رسول الله زوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شي تصدقها إياه؟، فقال: ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا، فقال ما أجد شيئًا، فقال: التمس ولو خاتمًا من حديد، فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال له النبي صلي الله عليه وسلم: هل معك من القرآن من شيء؟ قال: نعم سورة كذا، وسورة كذا: لسور يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد زوجتكما بما معك من القرآن” (رواه البخاري ومسلم). كما ورد عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة خطب أم سليم، فقالت: “والله ما مثلك يُرد.. ولكنك كافر وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره.. فكان ذلك مهرها“.

وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن المغالاة في المهور ويقول: “ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زوّج بناته بأكثر من أربعمائة درهم”. فلو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة ودليلاً على الرفعة والمكانة وعلو الشأن، لسبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أهل لذلك كله. ويقف التاريخ باحترام لموقف فقيه أهل المدينة وعالمها الورع الأمام “سعيد بن المسيب” الذي لم تغره مكانة وسلطان الخليفة “الوليد بن عبد الملك” ولم تخفه سطوته ـ وقد فعل به فيما بعد الأفاعيل ـ ولم يرضخ لطلبه بخطبة ابنته من ولي العهد، بينما زوجها ـ وهو قرير العين ـ لأحد تلامذته الفقراء في المال، الأغنياء في الدين والأمانة والفضيلة.. “عبد الله ابن أبي وداعة”، وقد كان الخليفة سيمهرها ثقلها ذهبًا لو شاءت.

ويقول الإمام الشوكاني في “نيل الأوطار”: هناك دليل على أفضلية النكاح مع قلة المهر، وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه، لأن المهر إن كان قليل لم يتصعب النكاح من يريده، فيكثر الزواج لمن رغب فيه، ويقدر عليه من الفقراء، وهم كثرة، فيكثر بذلك النسل الذي هو من مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرًا فلا يتمكن منه إلا أربابه، وهم قلة، وسيعزف عنه الفقراء، فلا يتحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم”. وفي عصرنا هذا من أين يأتي شباب في مقتبل العمر بمائة ألف ريال وأكثر كي يمهرها الفتاة؟

لكن رب سائل يسأل: كيف تكون المرأة الحسناء ذات النسب رخيصة المهر، بينما ذلك يُغليها على الناس، وتكثر رغبتهم فيها فيتنافسون عليها؟، ويأتي الرد: “هل يساومون على  سلعة لا تعقل ولا تعي، وليس لها من أمرها شيء، فخير النساء من كانت على جمال وجهها لها أخلاق كجمال وجهها، وكان عقلها جمالاً ثالثًا فاجتمع لها الثلاثة، فإن أصابت الرجل الكفء يسرت، ثم يسرت، إذ تعتبر نفسها إنسانًا يريد إنسانًا، لا متاعًا يريد شاريًا أو يريد مفاخرًا به، وهذه لا يكون رخص القيمة في مهرها إلا دليلاً على ارتفاع القيمة في عقلها ودينها، أما الحمقاء فجمالها يأبى إلا مضاعفة الثمن لحسنها أي لحمقها وهي بذلك المعنى من شرار النساء وليست من خيارهن.

ولقد جمع علماؤنا أسس الحياة الأسرية في أصول خمسة: العدل والفضل والعفو والمعروف والتقوى، فالبكر الرشيد العاقلة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من ملكها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوزها ويخرج منها بضعها إلا برضاها، ومعلوم أن إخراج مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها من لا تختاره بغير رضاها. إن الرجل يـقوم عند المرأة وأهلها بما يكون منه، فمهرها الصحيح ليس ما يدفع قبل الزواج، بل بعده، وما تجده من زوجها من رعاية وخلق وأمانة ومودة، فمهرها معاملتها “إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يهنها، وإن كره منها خلقًا رضي منها آخر”، فما تزال تنال من مهرها هذا يومًا بعد يوم سعيدة هانئة أما ذلك الصداق من الذهب والفضة والرياش فهو نعم مهر غال للعروس لكنه يحمل على الجسد لا على النفس، وهو كالجسد يبلى ويهرم، ونرى هذه العالية ـ أبنتناـ إن لم تجد الخلق في زوجها ستكون عروس اليوم مطلقة الغد.

وإذا تقدم للمرأة بالمهر الوفير من ليس صفته الدين والأمانة.. وقبلت فهل تراها تستغني بهذا المهر والثروة عن فساد الخلق وسوء العشير، وشقاء الأيام الليالي، وفساد الذرية بالضياع والتشتت، والمرأة إن فقدت سعادتها في بيت زوجها لا يعوضها عن ذلك ذهب الدنيا وفضتها وأسفارها وثيابها القشيبة. ليس في مال الدنيا ما يشتري المجانسة بين الزوج وزوجه إن غاب عنهما ذلك، وقليل المهر وكثيره ما هو إلا عنوان عن الرجل لا الرجولة وأخلاقها، فالمال عرض يتغير. يبقى ويزول، ولا يغني عن الدين والأمانة ـ إذا فقدا ـ قدر جناح بعوضة، فالزوجة تجد زوجها حين تجد الرجل نفسه لا ماله: “خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا” (النساء:1)، فهي زوجه حين يتكاملان لا حين يتناقصان، وحين يتلاءمان لا حين يختلفان، وحين يكونان كنفس واحدة لا تنفرط عقدها وأعضاؤها، نفس لا تريد سوى الحياة والتوازن والانسجام وليس الحمي والسهر.. والطلاق.

ما سُبل العلاج؟

إن بناتنا وفتياتنا قرة أعيننا، فلا يغرّنا سعي أهواء أناس لتزويجهن ممن يملكون المال فقط. فيجعلون من باطل الغني، وسوء خلقه “دينًا” يُتعامل به، ويُرغب فيه. بينما خلق الفقير، وأمانته، وعلمه، “بضاعة كاسدة” لا تروج عند أحد، ومع ذلك: “كم من ضعيف متضاعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره..” (صحيح الحاكم). ومن المناسب أن يقوم ولي أمر الفتاة بعرض الزواج من ابنته على الرجال الصالحين، كما كان شأن السلف الصالح.

ولا ينبغي أن المهر ـ الذي هو سبب للزواج ـ سببًا في منعه، ويجب تقدير المهور المناسبة وفق الكفاءة، والمهنة، والقدرة على النفقة، وليس من (يدفع أكثر يتزوج). ولنبْنِ عش الأسرة الأول بما هو متاح، بعيدًا عن الإسراف والمفاخرة، ومع كر الأيام يتطور ويتحسن. فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة”(رواه أحمد)، وقال:” يُـمن المرأة خفة مهرها، ويسر نكاحها، وحسن خلقها، وشؤمها غلاء مهرها وعسر نكاحها وسوء خلقها”. فحين تدخل الزوجة بيت زوجها تجـدّ فيه وتجاهد فتُرضي فيه ربها وتبلي فيه بلائها وترعى نسلها. فهل يقوم مال الدنيا بما تجدّ وتجاهد وترضِـي وتبلي وترعى؟، وأين هذا المهر قليله وكثيره وهو كله يقف دون حقها؟ والواجب على الفتاة عند خطبتها: التعقل، والمشورة، والاستخارة، والموازنة بين المصالح والمفاسد والتركيز على توفر صفة التدين السليم، والخلق القويم فيمن تقدم لها. وعلى من تأخر سن زواجهم لظروف خارجة عن إرادتهم تجاهل نظرة المجتمع. ومحاولة اكتشاف العالم من جديد وتغير اسلوب الحياة بطريقة تقضي على أوقات الفراغ، وتكسب الثقة بالنفس ويكون لديهم قناعة أن كل شيء بحكمة وقدر مقدور.

ويجب أن تضاعف الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والإعلام جهودهم فيما يتصل بقواعد تنشئة الشباب والفتيات على الفضيلة، والعفاف، والغنى النفسي، وتحمل المسؤولية. وبذل الجد والاجتهاد لتحقيق الطموحات خطوة خطوة، واليقين بأن الرزق من عند الله تعالي، وهو يزداد بالزواج. كما لا يقيسون “فتى أو فتاة أحلامهم” قياسًا على ما يعرض على شاشة التلفاز من مسلسلات وأفلام. فمن الصعوبة بمكان أن تجد شخصًا كريمًا، ووسيمًا، وتقيًّا، وحالته ميسورة، وحسن الخلق، ورومانسيًّا مُتفهمًا إلخ. وينبغي عدم إعراض الشباب والشابات عن الزواج بسبب فشل خطوبة سابقة. ولا يتأثر العزاب بما يروجه الإعلام عن متاعب تكوين الأسرة، وتربية الأولاد، و”الحرية الشخصية، وحرية الحب“.

وعلى حكومات الدول، والقطاع الخاص والأهلي حل مشاكل البطالة، وإيجاد فرص عمل مناسبة، وتشجع الزواج بتأمين السكن المناسب. مع إقامة (صناديق الزواج) و(حفلات الأعراس الجماعية) و(صالات الأفراح) التي توفر الكثير من النفقات.

في الختام: بات تأخر سن الزواج للشباب والفتيات يشكل “ظاهرة” مجتمعية لها مظاهرها السلبية (نفسيًّا، واجتماعيًّا، ووطنيًّا)، وأسبابها، وطرق علاجها.