أولاً: مكانة الجيولوجيا وتشعبها في تأسيس الحضارات
من المباحث التقليدية لدى المختصين في دراسة الحضارات، وبعدما يدلون بتعريفها على شتى الأوجه والمفاهيم، فقد يأتي موضوع عوامل نشأتها في المقدمة. وهذا من حيث المبدأ قد يؤسس لقاعدة علمية وحكم عقلي ضروري ألا وهو “كل حادث فلحدوثه سبب” فالحضارة هي شيء حادث: إذن الحضارة لها سبب.
لكن هذا السبب قد يتفاوت من حيث الاعتبار هل هو سبب ضروري ورئيسي، أم ملازم ومترتب، أم هو كمالي وإضافي؟
وهنا يلتقي موضوع الحضارة بالعقيدة والدين والبحث عن السبب في الوجود ومراتبه، حيث توفق من توفق وتاه من تاه، وتهافت من تهافت، تمامًا كما وقع لبعض الفلاسفة وتم وصفهم بهذا المصطلح. بالرغم من أن الفلسفة هي بدورها من نتائج الحضارة أو من عواملها الرئيسية ولربتما تكون هي الإضافية والملازمة وهلم جرًّا.
فالحضارة كما يقول “ول وايْرل ديورانت” في كتاب “قصة الحضارة“: “مشروطة بطائفة من عوامل هي التي تستحث خطاها أو تعوق مسراها”. وسيذكر في مستهل بحثه العوامل الآتية وهي:
“الجيولوجية، والجغرافية، والاقتصادية، والجنسية، والنفسية” ثم بعدها يتطرق لأسباب انحلال الحضارات التي قد توافق رأي ابن خلدون في الموضوع كما سبق وعرضنا لتعريفه.
فأولها: “العوامل الجيولوجية، ذلك أن الحضارة مرحلة تتوسط عصرين من جليد، فتيار الجليد قد يعاود الأرض في أي وقت فيغمرها من جديد، بحيث يطمس منشآت الإنسان بركام من ثلوج وأحجار، ويحصر الحياة في نطاق ضيق من سطح هذه الأرض؛ وشيطان الزلازل الذي نبني حواضرنا في غفوته، ربما تحرك حركة خفيفة بكتفيه فابتلعنا في جوفه غير آبه”.
وثانيها: العوامل الجغرافية، فحرارة الأقطار الاستوائية وما يجتاح تلك الأقطار من طفيليات لا تقع تحت الحصر، لا تهيئ للمدنية أسبابها، فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض، وما تُعرف به من نضوج مبكّر وانحلال مبكر، من شأنه أن يصرف الجهود عن كماليات الحياة التي هي قوام المدنية، ويستنفذها جميعًا في إشباع الجوع وعملية التناسل، بحيث لا تَذَرُ للإنسان شيئًا من الجهد ينفقه في ميدان الفنون وجمال التفكير؛ والمطر كذلك عامل ضروري إذ الماء وسيلة الحياة، بل قد يكون أهـم للحياة من ضوء الشمس، ولما كانت السماء متقلبة الأهواء لغير سبب مفهوم فقد تقضي بالجفاف على أقطار ازدهرت يومًا بالسلطان والعمران، مثل نينوى وبابل؛ أو قد تسرع الخطى نحو القوة والثراء، بمدائن هي- فيما يبدو للعين- بعيدة عن الطريق الرئيسي للنقل والاتصال، مثل المدن في بريطانيا العظمى أو خليج بُيوجت Puget Sound وإذا كانت تربة الإقليم تجود بالطعام أو المعادن، وإذا كانت أنهاره تهيئ له طريقًا هينة للتبادل مع غيره، وإذا كان شاطئه مليئًا بالمواضع التي تصلح مرافئ طبيعية لأسطوله التجاري، ثم إذا كانت الأمة فوق هذا كله تقع على الطريق الرئيسية للتجارة العالمية، كما كانت حال أثينا وقرطاجنة وفلورنسة والبندقية- إذن فالعوامل الجغرافية على الرغم من أنها يستحيل أن تخلق المدنية خلقًا، إلا أنها تستطيع أن تبتسم في وجهها، وتهيئ سبيل ازدهارها”.
وليس بالضرورة أن نمضي في تفصيل هذين العاملين كما عرضهما ديورانت، ولكن مع ذلك فلا بد من التوقف والاجتهاد لإضفاء مسحة علمية على الموضوع، مع إدراج رأي آخر قد كان سباقًا لتحديد هذين العاملين بدقة وتفسير واقعي لهما، باعتبارهما أهم المكونات للحضارة من الناحية الطبيعية والمادية كأساس لتحديد مفهوم المدنية القائمة على الصناعة والفلاحة والهندسة والعمران، ثم الفنون والتشكيل الحضري.
فالملاحظ على ديورانت أنه قد مر مرور الكرام على العامل الجيولوجي، وحصره في كتلة كبيرة، أو بعبارة أخرى في ظواهر جيولوجية ضخمة قد تكون هي السبب في قيام الحضارة أو سقوطها.وهذه الظواهر ستنحصر في توسط الحضارة بين عصرين جليديين، مما يؤسس لمبدأ الدورية والحتمية في نشوء الحضارات أو غيابها .وهذا الأمر سيجعل من الحضارة مسألة وقت وترقب زمني، ولكن بحساب طويل وقياس زمني غير مفاجئ، تمامًا كما كان يتوهم داروين ومناصروه حول تحول القرد إلى إنسان تطورًا وتغيرًا فسيولوجيًا وبيولوجيًا، مما قد يدخل هذا التصور في مجال الميثولوجيا والخرافة العلمية .وهذا قد يعني أن هذا العوْد الجليدي، قد يغير معالم البلدان ومواقعها ويؤثر في تضاريسها ومناخها أيضًا، بل في منتجاتها الفلاحية والزراعية وكل ما تعود عليه هذا الجيل أو ذاك، بل حتى العامل السياسي سيكون متحولاً رأسًا على عقب بسبب هذه الدورة، التي قد تعود بالإنسانية نحو الصفر.
وكل هذه الآثار والنتائج ستربط بشكل عضوي بين العامل الجيولوجي والجغرافي ربطًا قويًّا، حتى إننا لا نكاد نفصل مفهوم الجيولوجيا، أي علم الأرض، عن الجغرافيا، المتخصصة في المناخ، والتضاريس وخطوط الطول والعرض.
بل إن شئنا القول بأن الجيولوجيا هي أصل الجغرافيا ومصدرها. بيد أن الأولى تهتم في الغالب بباطن الأرض والثانية همها الأول ظواهرها والتغيرات الحاصلة فيها ومدى تفاعل الإنسان مع تضاريسها وتقلباتها.
ثانيًا: الجيولوجيا وارتباطها بالعلوم المختلفة كمكون حضاري
فكما يقول الباحث “او.إيفانز” في كتابه “الأرض“: “تأثر تطور العلوم الجيولوجية لفترة طويلة بقصة خلق العالم المذكورة في الكتب السماوية، ولقد جاءت بالتوراة، في الفصل الأول من سفر التكوين: “في البدء كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه العمر ظلمة، وقال الله ليكن نورًا فكان نور.وفصل الله بين النور والظلمة” وكان ذلك في اليوم الأول…ولكن القصة لم تذكر شيئًا عن التركيب الداخلي للأرض ومكوناتها المعدنية”.
وفي المقابل والأصح نجد أنه قد وردت في القرآن الكريم آيات عدة عن خلق السموات والأرض: “قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ” (سورة فصلت) “أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ“.(الأنبياء: 30).
فموضوع الجيولوجيا إذن له حضور حضاري وديني وعلمي في نفس الوقت، وهو بهذا يشكل أهم العوامل الرئيسية في نشأة الحضارة. بل إن جيولوجيا الأرض مقتبسة من عناصر الكون السماوية، وتمثل مادة واحدة منفصلة عن الكتلة العامة التي تتألف منها المجرات والمجموعات الشمسية وما يحدث فيها من تغيرات وفصل ووصل كما عبر عنه القرآن الكريم بالفتق بعد الرتق.
وعلى هذا فتطور الحضارات وغيابها لا ينبغي أن يؤخذ من الذنَب أو ذيل الخيط وإنما هو يخضع للعوامل الفوقية التي قد تكون هي السبب الرئيسي في وجود العصور الجليدية وغيابها. وذلك بسبب تغير الحرارة الشمسية وقربها أو بعدها عن الأرض. كما أن الشمس نفسها تتأثر بسير المجرات وتجاذبها وصدامها…
وهذا الموضوع قد يجذبنا نحو الحديث عن الطبيعة الهندسية للأرض والتي هي: هل كروية الشكل، أم بيضاوية أم هي مسطحة كما كان يعتقد الكثير فيما قبل؟ اللهم إلا ما كان من نص القرآن الكريم على ذلك كإشارة حينما يقول: “خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ” (سورة الزمر). وهو ما استنتج منه المفكرون المسلمون كابن حزم والغزالي وابن خلدون بأن الأرض كروية الشكل، وذلك بكل صراحة وعبارة واضحة قد نجدها في كتاب “الفصل في الملل والأهواء والنحل” لابن حزم الأندلسي وغيره.
لكن الذي يهمنا أكثر في هذه العجالة هو أن الجيولوجيا قد كانت دائمة الحضور في الوعي الإنساني، سواء أكان بدائيًّا أم حضاريًّا. وذلك لأنه كان مرتبطًا بالأرض وطبقاتها منذ البداية، حيث كان يبني مساكنه وينحت صحونه وأوعيته ومنابره، ويشحذ سهامه وفؤوسه، إلى أن استخرج من باطنها المعادن الضرورية لحياته ولتطوره، من حديد وقصدير وذهب وفضة.
وبهذا فستكون علوم الأرض هي من أهم المنقولات والمقتبسات بين الحضارات المتعاقبة، على اعتبار أنها هي الأساس المادي في الحضارة قد تفوق الفائض الفلاحي نفسه، بالرغم من أن هذا الأخير سيكون عاملاً جوهريًّا في نشوئها وتطورها.
وبهذا الصدد يقول “إيفانز” عن مولد علوم الأرض: “نقل العرب العلوم والآداب عن الإغريق والرومان ثم طوروها وزادوا عليها، وبعد ذلك أخذها عنهم الأوروبيون وساعد على انتشارها صناعة الورق واختراع الطباعة واهتم المفكرون بدراسة العالم المحيط بهم، أرضه وبحاره وسمائه”.
ولم يستطع الباحثون تفسير بعض الأشياء الغريبة الموجودة بالصخور، التي تسمى “الحفريات” وكانت حينئذ تعرف “بالأحجار المشكَّلة“. وعلى أساس ديني، كان يسود اعتقاد بأن الحفريات إنما هي بقايا حقيقية للنباتات والحيوانات، ويعزى وجودها إلى تأثير النجوم، وإنها تمثل نوعًا من التجارب الأولية للطبيعة قبل الانتشار الواسع للكائنات الحية…
ومن هنا فاعتبار العامل الجيولوجي محصورًا فقط في الدورة الجليدية والزلازل الطارئة ليس بالقول الشافي للغليل، بل إن هذا العامل يمثل صلب الموضوع الحضاري، والذي قد يرتبط، كما سبق وقلنا، ارتباطًا عضويًّا بالجغرافيا التي ولدت معه في وقت واحد، لكن الفرق الجوهري بينهما هو أن الجيولوجيا تهتم فيما تهتم به أولاً بباطن الأرض وطبقاتها وصفائحها ومعادنها ومياهها الجوفية ونيرانها البركانية، بينما الجغرافيا تكون أكثر تركيزًا على ظاهرها حيث المناخ والطقس والتضاريس والجبال والمرتفعات والمنخفضات وخطوط الطول والعرض وخط الاستواء. وهذا كان من الأكثر اهتمامًا عند الباحثين في مجال الحضارة وخاصة ابن خلدون بالمقارنة مع ديورانت كما نراه قريبًا.