بيّن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء على صفحته، أن مصر شهدت في سنة ٢٠٠٧، ٧٧,٩ ألف حالة طلاق، ثم ارتفع العدد سنة ٢٠١٩ إلى ٢٢٥,٩ ألف حالة طلاق بمعدل حالة كل دقيقتين و١١ ثانية. وهذه الأرقام لها نظائرها ونسبها -وفق عدد السكان- في دول عربية أخرى. إن لهذا الطلاق الرسمي الناطق، أسبابه المتعددة لكن في كثير من حالاته قد يسبقه استفحال وباء الطلاق/التسريح الصامت، والخرس/الصمم الأسري، والنهاية قبل الرسمية للعلاقات الزوجية. فكيف يمكن تجنب هذا الوباء كي لا يرفد الطلاق الرسمي بحالات أكثر، وينقض عرى الميثاق الغليظ، ويهدم بيتًا كان مشيدًا؟
إن البيت الأسري ليس جدرانًا فحسب، بل هو جسدٌ وروح؛ فجسده قوامة الرجل ومشيه الجاد في الأرض لتأمين مستلزمات عائلته، وأما الروح، رسالة الزوجة، السكن وربة البيت والمودة والرحمة. وتناغهما معًا (أي الجسد والروح) هو ما يجعل الحياة الرغدة تدُبُّ في البيت، وانفصالهما يجعله أعجاز نخل خاوية، وبئرًا معطلة، وظلامًا دامسًا، ونفوسًا ملؤها السكوت، وأجسادًا بلا أرواح. وعلى الرغم من أن عقد الزواج يبدو سريانه، بيد أنه نهر الأسرة قد جف نبعه وجريانه. وربما ظهر الزوجان أمام الآخرين في صورة جيدة فلا يتجادلان أو يختلفان. وقد تشق بعض الصرخات أجواء صمتهما بين فترة وأخرى. ويبقى خلف الأكمة ما خلفها من علامات تسريح صامت سارية. توتر أشبه ببركان خامد، وحياة كحرب باردة، وإماتة المشاعر وتبلدها تجاه الطرف الآخر عمدًا أو من غير قصد كأنها جيران تحت سقف واحد.
إنها حالة من الرتابة الباعثة على الملل والضجر، فتشكو زوجات بأن أزواجهن لا يستمعون إليهن، ويسمعون فقط ما يودون سماعه.. ويشكو الأزواج أنْ ليس لدى زوجاتهم ما يقلنه سوى طلب المزيد من النفقات، وعرض مشاكل البيت عند العودة من العمل.. وتكثر شكاوى أولادهما، على أنهم لا يجدون من يسمع إليهم ويحاول فهمهم ودعمهم، فيهربون لعزلة أكبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والإبحار غير الهادف في بحر الشبكة العنكبوتية. كما يقضي الزوجان وقتًا طويلاً هنا أو هناك، ليتجنبا مواجهة بعضهما البعض. وقد تحدث نتائج وخيمة حين يهرب كل فرد ليبحث عمن يسمعه خارج حصن الأسرة.. فيكثر تدخل القرناء والرفاق، والأمهات والحموات، والأصدقاء والزملاء.. مما يحُول دون حل المشكلات الأسرية التي تتراكم وتتفاقم يومًا بعد يوم، ويتعرض استقرار الأسرة لخطر وبيل. فما هي الأسباب المؤدية إلى ذلك؟
الإنسان مخلوق اجتماعي ناطق، في حاجة ماسة لمن يأنس إليه؛ تخاطبًا واستماعًا وتحاورًا وتواصلاً وتوددًا.. لكن الانشغال الدائم بالعمل أو السفر أو الأصدقاء، والاستسلام لأعباء البيوت واحتياجاتها المادية، يسبب كثيرًا من المشاكل؛ يقوم أحد الزوجين أو كلاهما بالإخلال بالواجبات التي هي حقوق للآخر عليه، ولا يتم تقديم بعض التنازلات من جانب الطرفين وغض الطرف عن بعض الهفوات والتماس الأعذار.. وتتراكم سلبيات لم تجد طريقها للحل، فتغيب الثقة ولغة التفاهم والتقدير والاحترام المتبادل لدور كل منهما.. ويكثر النقد الهدام واللوم والتأنيب على الصغير والكبير.. كما تغيب الشفافية ويسعى كلٌّ منهما لإخفاء الكثير عن شريكه، وتتسع الفجوات، ولا يوجد اهتمامات مشتركة وطموحات مستقبلية، فيتفشي الفتور وتتراجع المودة.
كيف نتجنّب السراح الصامت؟
يصعب أن تجد زوجة دون خلافات، ويكون الصلح بعدها من أجمل اللحظات. ووقاية من هذا السراح الصامت، ينبغي المعاشرة بالمعروف والعدل والفضل والتقوى وحسن الخلق.. لأن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم. وقوامة الرجال لا تعني التسلط والقهر وإلغاء كرامة الزوجة، بل مسؤولية فطرية لإدارة مؤسسة الزوجية والحفاظ على ميثاقها الغليظ من أن تنفصم عراه. ويجب أن تكون النفقة على البيت ابتغاء مرضاة الله، وتظللها المودة والرحمة. وحفظ مال الزوجة ورعايته يزيدها حبًّا وتقديرًا لزوجها. وينبغي المشاركة في تحمّل المسؤولية، والمساعدة في أعمال البيت وشؤونه فتدوم المودة وتترسخ. لقد كان النبي في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إليها، وكان يخيط ثوبه ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.
وكفى صراع الأدوار، فلقد تهاوى في بعض الأسر، الجدار الفاصل بين واجبات الزوج والزوجة، ليُحدث تصارعًا مقيتًا مع ترك شؤون الأولاد والبيت للخدم. وآن الأوان لعودة الاعتبار لربة البيت ومسؤولية الأمومة، والاهتمام والتعاون لحسن تربية الأبناء، وبذل كل جهد لتلبية حاجاتهم للأمن النفسي. وإن أقصر طريق لفتح القلوب ليس هو المعدة فقط، وإنما الابتسامة الصادقة بعد يوم من الكدح، فتعبيرات الوجه هي مفتاح الشخصية، وهي مؤثرة أكثر من صوت اللسان، فلا تنسوا ذلك عند التلاقي لتشيع البهجة.
ولندع الصمت المنزلي عبر توفير وقت كاف ليسمع بعضنا بعضًا، ولنتحاور لحل المشكلات، وتبديد الهموم، وتنفيذ التطلعات.. لنتحدث عن مشاعرنا دون تذرع بكبرياء، وعن تطلعاتنا مع حسن إصغاء، لتتحسن مشاكلنا إذا بدأنا التحاور باهتمام وتفهم، فما من أسرة آمنة مستقرة إلا وفيها نسبة صداقة عالية. وعلينا احترام الطرف الآخر، وغض الطرف عما قد يشتمل عليه من عيوب. ومن لا يغفر لصاحبه اليوم خطأه كيف يتوقع منه أن يغفر له أخطاءه بعدئذ؟
على الزوجين إسباغ التقدير شخصيًّا ومعنويًّا.. فلكل منهما أوجه كمال. لقد كان امتداحهما قبل الزواج ميلاً وتأليفًا، أما بعده فمن ضرورات الحياة الأسرية.. يجب ألاّ ينسيا رقة العبارات ليقتدي بهما الأبناء، فالنفس الإنسانية تحب المدح وتكره الذم.. أين النداء بأحب الألقاب لديكم؟ إن اسم المرء ولقبه هما أحب الأسماء إليه، ونصف الطريق إلى القلب حينما نتنادى بهما. ويجب تجنب التجريح، وكل ما يشعر بالإهانة والتحقير، بل الاهتمام بالإيجابيات ومدحها وتعزيزها. واعتماد الرفق واللين في الأقوال والأفعال مع الطرف الآخر لجذب وده ومحبته.. على الطرفين حل الخلافات العالقة بينهما، وفتح قنوات للحوار والمصارحة والوضوح، والتجاوب مع مشاعر الآخر، والتعرف إلى احتياجاته، وحل مشكلاته، وتبديد مخاوفه وهمومه، والاعتراف بالخطأ دون مكابرة أو تعنت.. وعندما تتوفر الأسر الممتدة من أجداد وجدات وأخوة وأخوات وأعمام وعمّات، يتحملون دورًا هامًّا في عملية التواصل والتحاور الأسري.
ولعل أكثر ما يُجمد العلاقات هو الروتين اليومي؛ فمن المفيد إدخال أمور جديدة في الحياة الزوجية لكسر هذا الروتين، من قبيل القيام بنزهات أسبوعية، أو زيارة الأماكن التي كانا يزورانها معًا في أيام الخطوبة وبداية الزواج، لاسترجاع الذكريات الجميلة، ومشاركة كل طرف هوايات واهتمامات الطرف الآخر. على الطرفين ألاّ يهملا اللفتات البسيطة وخصوصًا في المناسبات: كالاتصال الهاتفي للاطمئنان في الحل والسفر، والهدايا والأزهار والهوايات المشتركة والقيام بالرحلات، والتجديد في طريقة حياتهما كلما أصابها الملل، مع صقل الشخصية لتكون جذابة على الدوام.. على الطرفين ألاّ يدعا أمان البيت لأجل مغامرات تافهة؛ فعندما يشعر المرء بعدم الأمان في البيت يتمنى لو قام بمغامرة خارجه، وعندما يقوم بها يتمنى لو عاد إلى بيته ليتدارك ما فعل. وتبقي لسلة المهملات دورها الكبير. يجب على الطرفين أن يقدِّرا مشاعر الضيق والتوتر التي تحدث، وأن يسعيا لعلاج أسبابها بصدق، ويُلقيا تلك الأسباب في سلة المهملات دوريًّا.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.