كان السيّد (دونالد وينيكات) بالإنجليزية: Donald Winnicott أول طبيب أطفال بريطاني يمارس التحليل النفسي في مجال طب الأطفال بداية القرن العشرين. فقد كان له الفضل في التأكيد على أهمية العلاقات المبكرة بين الأم والطفل، وأيضًا على الخيال واللعب، وفضل اللقاء والمزاوجة بين التعليم وعلم النفس. لم أتمكن أبدًا من متابعة شخص ما، ولا حتى فرويد. لن يكون مفاجئًا العثور على مؤلف هذا الإعلان في مجموعة من المحللين النفسيين الذين أعلنوا عن أنفسهم والذين يمارسون أيضًا نفوذًا قويًّا بينما يترددون أحيانًا في إعلان أنفسهم عضوًا.
بدأ طبيب الأطفال «دونالد وينيكات» (1896-1971) حياته المهنية، في ثلاثينيات القرن العشرين، كمحلل نفساني، وكان متأثرا بالطبيبة والمحلّلة النفسية ميلاني كلاين. فعد أن وجدت هذه الاخيرة نفسها في صراع مفتوح مع آنا فرويد شخصيا، انتهت مناقشاتها الساخنة معها خلال الحرب العالمية الثانية بما سمي في الجمعية البريطانية التحليلية النفسية بالخلافات الكبيرة.
في الأساس، تعتقد آنا فرويد، وهي محلّلة مدربة، بأن التحليل النفسي له دور يلعبه في مجالات علم التربية والتعليم، لكن ليس في مرحلة الرضاعة، حيث تكون نفسية الطفل غير منظمة بشكل جيد، ولغته جدّ محدودة. تجادل السيدة كلاين بالعكس: ليس فقط أن نفسية الطفل تبدو منظمة في وقت أبكر بكثير مما يتخيله الأب وابنته فرويد، ولكن يمكن أن يكون اللعب فعالاً مثل الممارسة اللغوية للجمعيات الحرة في الكشف عن الصراعات فاقد الوعي.
يتبعها «وينيكات» في هذه النقطة، لدرجة أن كلاهما يعتبران من مؤسسي تيار العلاقات بين الرضيع والأشياء، مما يؤكد على العلاقات المبكرة بين الطفل وأمه. لكن، فيما يتعلق بالنقاط الأخرى، سوف تتباعد نظرياتهما أكثر فأكثر، وممّا يفسر السبب في أن «وينيكات» سيعتبر نفسه، بشكل عام، مستقلاً أكثر من كونه «كلاينيًا» (نسبة للطبيبة ميلاني كلاين) مخلصًا.
أمّ جيدة بما فيه الكفاية
فما الذي يفرّق بينهما؟ في المقام الأول، تهتم السيدة كلاين بشكل أساسي بالصراعات الداخلية للطفل، وبالأم باعتبارها تمثيلًا خياليًا. أما «وينيكات»، فيعتقد، من جانبه أن الأم ضرورية كشخص حقيقي متجسّد، وقائم في العالم المادي. كان الأطفال الذين تم تبنّيهم، بعد الحرب العالمية الأولى، عُينوا خلال الحرب العالمية الثانية كمستشارين للسلطات فيما يخص مسألة إجلاء الأطفال من لندن. لقد تواجه هؤلاء بشكل يومي مع الأطفال الذين كانوا ضحايا الحرمان المادي والعاطفي، خاصّة منهم أولئك الذين من المحتمل أن يسيروا في طريق الجنوح.
الواقع أنّ هذه المسألة جلية وبارزة للذي تزوج، مثلا، من عاملة اجتماعية في زواج ثانٍ، حيث يولي الأهمية البالغة ليس فقط لتأثير البيئة، بل أيضا لعلاقة الطفل به. من هنا، فإن تركيبة 1940 الشهيرة التي تشير إلى أن هذا الكائن المسمى «رضيعا» ليس ذي كيان وجودي كامل؛ وهذا ما يعني أنّ الرضيع ليس بكيان مستقلّ بمفرده. هكذا، ظهر أنّ الطفل الصغير لا ينفصل عن أمّه، أولاً وقبل كل شيء من حيث القيمة المطلقة؛ وإنّه ينفكّ عن قوة هذا الارتباط شيئا فشيئا حتى يكتمل شعوره واستقلال الذاتيان. لذا، فتطور الأطفال الصغار يدور حول فكرة الانفصال.
في الأصل، هناك «قلق أمومي أساسي» يخلق وظيفة الإمساك، أي الدعم الجسدي والعاطفي لذات الطفل الذي لا يزال يعتمد على تدخلات الأم، عبر حصص الرعاية والضبط والعناية، من اللمس والحضن إلى تناول الطعام. غير أنّ هذه الرعاية المفرطة، هي التي سوف تمزق ذاتية الطفل جرّاء الإحباط التدريجي الناجم عن كل هذه التدخلات. فمع مزيج القلق والضغط، يتعلم الطفل أن يقبل أنّه لا يستطيع الاندماج مع والدته، وأنّ هذه الأخيرة لا تستطيع أن تلبّي كلّ احتياجاته الآنية؛ بالتالي، فإنّ تفرد هذه الحالة هو ما يحدث هذه المفارقة. غير أنّه قد يتم ضمان هذه العملية بفضل الأم الـ«جيّدة بما فيه الكفاية»، أي تلك الأم التي لا تصل بتدخلاتها حدّ الكمال، حيث عادة ما لا تكون حريصة جدّا حدّ خنقه، ولا هي أيضا مهملة حدّ عدم الاهتمام به. بل إنّها تفعل فقط ما في وسعها باختصار كي تكون قادرة على تلبية توقعات طفلها وطمأنته، وهذا ما يترك له هامشًا متزايدًا لدمج «القدرة على أن يكون وحيدًا».
دلع الطفل أو دودو المُمَجَّد
يجب أن يستكشف الطفل ما يقع من فضاء كامل إلى اخر انتقالي، وذلك عبر اللعب قبل أيّ شيء. في عام 1941، في معرض حديث مشهور، يصف وينيكات، على سبيل المثال، كيف يتغلّب الطفل الصغير تدريجياً على مخاوفه في اللعب مع ملعقة، حيث الوضع المعتاد لفترة من التردد يكون الصغير لا يزال يتلمس أمه، ثمّ بعد ذلك، وعبر نظرات تشجيعية من الام، يمارس الطفل بمفرده سلوكا خاصّا به على العالم الخارجي. يعتبر اللعب الفضاء الأنسب الذي يمكن أن يمارس فيه الطفل اللعبة المحببة اليه؛ فهو الوسيط الضروري والبديل المطمئن لوجود الأم، حيث يمثّل نقطة مرجعية عند استكشاف المجهول. إنّه المكان الذي يتم فيه ظهور «الذات الحقيقية»، تلقائيًا والاعتراف بالواقع، شريطة ألا تتعدى على «نفس كاذبة» مصطنعة ووهمية ومعمرة، تهدف إلى مزيد من التوفيق بين الأم ونظرة المجتمع في وقت لاحق. إنّ الفشل في الحصول على الحكم الذاتي يمكن أن يؤدي إلى الذهان.
أجرى «وينيكات» ما يقارب عن 60 ألف استشارة نفسية للأمهات والأطفال طيلة حياته المهنية. ولذلك ظلّ المحلل النفسي الأول والأكثر نفوذاً في طب الأطفال في انجلترا زمانه. ومن المؤكّد أن علماء نفس الآخرين، مثل «جان بياجيه» (Jean Piaget)، كانوا من المهتمين بتطور ونمو الطفل النفسي والمعرفي؛ لكن «وينيكات» كان الطبيب النفسي الذي يهتم بحقّ برفاه الطفل ووعيه وعاطفته.
دونالد وينيكات ودولتو فرانسواز: الخوض في نفس المعركة؟
تبدو النقاط المشتركة بين «فرانسواز دولتو» (Dolto Françoise) و«دونالد وينيكات» عديدة: تجربة ميدانية مماثلة بجانب الأطفال من خلال التوصية باستخدام اللعب، والاهتمام نفسه بالعلاقات المبكرة، ونفس الطلب على التعليم الذي يدعم النمو النفسي على أفضل وجه، نفس التطوع للوصول إلى عامة الناس، والأول على الـ «بي بي سي» والبعض الآخر على «أوروبا 1» ثم في فرنسا بصفة خاصة.
أصرّ كلاهما على أهمية تمكين الطفل من النمو السليم، وهذا ما تم تحقيقه فيما بعد، وذلك بشكل خاص عندما تمّ التسامح مع الإحباط (تحدثت «دولتو» عن “الإخصاء الرمزي” لوصف التخلي التدريجي عن القدرة الكلية على الأطفال). فبخلاف «وينيكات»، تعترف المحلّلة «دولتو» بكون الطفل لا يبرح مستوى الحاجة؛ وردّا على هذا المنظور، اعتبر «وينيكات» الطفل مستمتعا بحاجاته، لكن لا يلزم من ذلك اعتباره “غير موجود”. لقد كان شعار «دولتو» هو أنّ «الطفل شخص»؛ ولم تتوقف مطلقًا عن الدعوة إلى النظر للطفل باعتباره كيانا مستقلاّ ذي حاجات يريد تحقيقها. ولقد أسفر هذا الشعار في فرنسا عن تتويج الطفل، على حساب التبسيط الفاحش، وردّ الاعتبار لكيانه تحت شعار الطفل الملك.
مع ذلك، لم يُظهر التحليل النفسي التساهل بأي ثمن: فقد تثبت أيضًا أنها معيارية تمامًا، على الرغم من خلفية ما بعد الثامنة والستين التي لم تفوز أبدًا بتعاطفها. وممّا لا شك فيه أنّ نشر نظريتي «وينيكات» و«دولتو» كان له ضرر جانبي يصعب تحميلهما معا المسؤولية الكاملة، لكن في كلّ حال، تغيرت النظرة إلى الطفل. لم يعد ينظر إلى الطفل كمجرّد “كائن بسيط”، يتم رفض تخديره قبل إجراء العملية الجراحية بحجة أن بكائه في هذه المرحلة من نضوجه الفيزيولوجي لا يمكن أن يشكل سوى رد فعل. لم يعد الطفل الصغير يحسب على تلك الإضافات الصامتة فوق الطاولة، بالتالي عدم اهتمام أي شخص بما يحس به أو يعاني منه. بل العكس قد حصل، حيث من اللحظة الأولى لولادته، أي من المهد، ومن الحضانة الأولى، أصبح يستحقّ من الجميع احترامه. قبل ذلك، كان هذا الأمر استثناء؛ بينما اليوم، ومن حيث المبدأ، فقد غذا قاعدة.