واحدة من أولى الصور التي يستحضرها دماغنا عندما نفكر في الأطباء هي الجهاز الطبي الذي يسمّى السماعة الطبية -صديقة الطبيب- والتي تعتبر من أهم الأجهزة، فبالرغم من بساطتها إلا أنه لا غنى للطبيب عنها، فعند دخولك لمشفى أو عيادة طبيب ما نادرًا ما تشاهد الطبيب من دون وجود سماعة حول رقبته لا تفارقها، حتى أنّها أضحت رمزاً لمهنة الأطباء، والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: من الذي اخترع السماعة الطبية؟ ولماذا؟ وكيف أتته هذه الفكرة؟ وما هي التطورات التي طرأت عليها حتى وصلت الي هذا المستوي؟ ماهي حكاية السماعة الطبية؟
السماعة الطبية أو المسماع أو الاستيثوسكوب هي كلمة إغريقية الأصل، وتعني حرفيا جهاز مراقبة الصدر، وهي جهاز طبي يعمل على سماع الأصوات الداخلية الصادرة عن القلب والرئتين والأمعاء والبطن عن طريق تضخيم هذه الأصوات، وهذا يمكّن الطبيب من تشخيص واكتشاف المشكلة الصحية التي يعاني منها المريض مثل مشاكل في التنفس وتدفق الدم أو ضغط الدم.
دائمًا ما تكون الحاجة والصدفة من أهم السبل للوصول الى اختراعات حيوية تؤثر فى حياة البشر وتكون علامة فارقة فى تاريخ مختلف العلوم، كحال قانون الجاذبية الشهير الذي غير مسار العلم بمجرد سقوط تفاحة، وهو حال مشابه لما حدث مع بطل حكايتنا الطبيب لينيك الذى كان يشتهر بالخجل وهو ما كان يضعه فى موقع محرج دائما عند الكشف على النساء.
قبل اختراع وتطوير السماعة الطبية، كان الأطباء خلال القرن التاسع عشر يستكشفون بشكل منهجي المعاني وراء أصوات القلب والتنفس من خلال جمع البيانات أثناء فحوصات المريض، خلال هذه الفحوصات الجسدية، يستخدم الأطباء تقنية تسّمى الإيقاع والتسمع، حيث يقوم الطبيب بضرب الصدر بأطراف أصابعه ثم يضع أذنه على صدره على الفور للاستماع، لسوء الحظ لم تأتي هذه الأساليب فقط مع قيود مثل عدم القدرة على تضخيم الأصوات ولكنها تتطلب وضعًا دقيقًا للأذن واتصالًا جسديًا محرجًا مع المريض، وهو الأمر الذى سبب المشاكل خاصة لطبيب خجول مثل رينيه عندما كان يفحص حالة لامرأة كانت مريضة بالقلب أدت به فى النهاية إلى اختراع أول سماعة طبية.
فكرة الاختراع
من الروايات الشهيرة أن رينيه لينيك كان مستلقيا على جذع إحدى الأشجار واستمع إلى صوت نقر لطائر على الطرف الآخر من الشجرة وهو ما لفت انتباهه لدور الخشب فى نقل الصوت –فمن المعلوم ان الاجسام الصلبة تنقل الصوت على شكل ذبذبات– وهو ما أوحى له فكرة السماعات الطبية والتي صنعت بالفعل من الخشب فى بداية الأمر.
خلال أشهر الخريف من عام 1816م، كان من المقرر أن يقوم لينك بفحص امرأة شابة كانت تعاني من أعراض أمراض القلب، لسوء الحظ كان لينك يركض في وقت متأخر من ذلك اليوم، لذلك سلك طريقًا مختصرًا عبر فناء في متحف اللوفر ورأى مجموعة من الأطفال يلعبون، كان الأطفال يلعبون بعارضة خشبية ضيقة يرفعها أحد الأطفال إلى أذنهم بينما ينقر آخر بالمسامير عليها لنقل الصوت عبر العارضة، بدأت هنا الفكرة باختراع سماعة طبية. عندما وصل لينك أخيرًا إلى مريضه، بدلاً من استخدام تقنيات الإيقاع والتسمع للاستماع إلى صدرها، طلب قطعة من الورق، قام بلفها في أسطوانة ووضعها على صدر المريض وتفاجأ بمدى قدرته على سماع صوت القلب، كانت أصوات القلب أكثر وضوحًا وتميزًا مما كان قادرًا على سماعه من خلال وضع أذنه على الصدر، عند اندهاشه مما سمعه.
صمم «اينك» أول سماعة طبية كأسطوانة خشبية مجوفة بطول 25 سم وقطر 2.5 سم، ثم طورها لاحقا لتتكون من 3 أجزاء يمكن فصلهم، هم القمع المغلف، الخرطوم وقطعة الأذنين، ليسمع بها دقات القلب بوضوح وصوت النفس داخل الرئة وبالفعل كان هذا الاختراع مُجد بالنسبة له، فقد سمح له بأن يصبح أول طبيب يميز بشكل موثوق بين خراجات الرئة وانتفاخاتها وتوسع القصبات… الخ، كما كان قادرًا أيضًا على وصف أصوات القلب والنفخات المرتبطة بها، مما جعله قادرا على التفريق بين أمراض القلب المختلفة.
إنجازات وتجاهل
وفي فبراير 1818، قدم «اينك» اختراعه في حديث لأكاديمية الطب، وقدم اختراعه للعالم في عام 1819، وفقا لـ”ساينس ميوزيم. ورغم عظمة هذا الاختراع، جاءت ردة فعل الأطباء وقتها مخيبة للآمال، لدرجة أن مجلة “نيو إنجلاند” الطبية الشهيرة عالميًا، لم تذكر هذا الخبر إلا بعد عامين من تقديمه للعالم، أي في عام 1821″.
وما جعل «اينك» يشعر باليأس الشديد وخيبة الأمل الذي أصيب بها، إلى جانب عدم اهتمام أي جهة باختراعه، هو مهاجمة أحد أساتذة الطب في أواخر عام 1885، لاختراع السماعة الطبية، قائلا إن «هذا الاختراع لا جدوى له، لأن آذاننا تغني عنها»، مضيفا: «إن كانت لديك آذان للاستماع فاسمع بهما ودع عنك السماعة»، كما أن مؤسس جمعية القلب الأمريكية الدكتور كونور (1866 – 1950) كان يحمل معه طوال فترة حياته المهنية وحتى وفاته، قطعة من الحرير يضعها على صدر المريض ويستخدم أذنه مباشرة لسماع دقات القلب بطريقة مباشرة، فشعر «اينك» بإحباط شديد، وفقا لـ”ساينس ميوزيم”.
اكتشف الدكتور «اينك» السماعة قبل وفاته بسنوات قليلة، وكانت وقتها يطلق عليها «الأسطوانة»، نظرا لأنها كانت على الشكل الأسطواني، ورغم أنها لم تنل اهتمام أي من أساتذة الطب أو الصحف أو المجلات العلمية أو أي جهة ما، كانت بالنسبة له اختراع ذو قيمه كبيرة، بل هو إنجاز عظيم وله فوائد عظيمة، وقبل وفاته في عام 1826 قرر أن يورثها لابن أخيه، واصفا إياها أنها “أعظم إرث في حياتي”.
تطوير الاختراع
ذكر موقع «نيو أدفينت» الأمريكي، أن النماذج الأولى للسماعة الطبية صنعها الدكتور اينك في عام 1816 في باريس من خشب الأرز والأبنوس، كأسطوانة مجوفة بطول 25 سم وقطر 2.5 سم، كانت أحادية الأذن، على غرار المعينات السمعية المعروفة باسم بوق الأذن، واسعة في الجهة التي توضع على جسم المريض ومدببة بعض الشيء في الجهة الثانية ثم طورها لاحقا لتتكون من 3 أجزاء يمكن فصلهم، هم القمع المغلف، الخرطوم وقطعة الأذنين، ليسمع بها دقات القلب بوضوح وصوت النفس داخل الرئة، وبالفعل كان هذا الاختراع مُجد بالنسبة له، ولم يحدث لها أي تطور وظلت بهذا الشكل القديم دون أي تعديل أو ابتكار لتطويرها، حتى جاء عام 1830، وبدأت تعديلات للنماذج بالظهور عبر الطبيب الفرنسي (بيير بيوري)، الذي أضاف جزءا من العاج لقطعة الأذن، وفي الوقت نفسه تقريبا، تم تبديل الخرطوم الخشبي بآخر أكثر ليونة، يصل القمع المغلف بقطعة الأذن، إلا أن الجهاز الخشبي ظل منتشرا لعدة عقود. وفي عام 1890 تم استبدال الأنبوب الخشبي المجوف بمجوف مطاطي، وبحلول عام 1900، كانت كل المخاوف قد اختفت تماما، وأصبحت سماعة الطبيب شيء يعتمد عليه معظم الأطباء في العالم. ومع بداية 1950 أصبحت سماعة الطبيب واحده من الأدوات الحيوية بالنسبة للطبيب وجزء هام من التدريب والدراسة.
وفي عام 1951، جاء العالم الأيرلندي، آرثر ليرد، وطور سماعة الطبيب وجعلها سماعة ثنائية الأذن، لكن ظهر أن الخرطوم المعد من المطاط لم يكن على قدر كاف من المتانة، لذا توقف تصنيعه، وتم استبداله بالمعادن، وتم إنتاجها بشكل تجاري عام 1952، لكن كان هناك بعض القلق من هذه السماعة الثنائية بسبب الخوف من تكرار الصوت مرتين، مما قد يُحدث مشكلة في التشخيص، لكن بعد فترة من الزمن اختفى هذا القلق بشكل كبير، وسوقها الطبيب الأمريكي، جورج كمان، كما كتب «كمان» أطروحة رئيسية في التشخيص عن طريق السمع، وفي هذا الوقت كان لابد أن يدرس كل طبيب كيفية استماع الأصوات من الصدر وتشخيصها، وفقا لموقع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي.
وفي الأربعينات، طورت الشركة الأمريكية «رابابورت سبراغ» للمنتجات الطبية، الجهاز ذا القمع المزدوج، إذ جعل جانبًا واحدًا فقط منهما المغلف، وفي عام 1961 طور طبيب أمراض القلب الأمريكي المشهور “ديفيد ليتمان” الجهاز، و بعد أكثر من30 محاولة كانت نتائجها غير مرضية، نجح في الوصول إلى هدفه وجعله مزودا بقمع قابل للتغيير، وهي الصورة المنتشرة للجهاز في أيامنا، ، وبذلك وضع (ليتمان) الأساس الذي لا يزال يستخدم حتى يومنا هذا في صناعة السماعات الطبية في العالم كله…، وما زالت السماعة الطبية التي تحمل اسم «ليتمان» أشهر وأغلى وأفضل سماعة طبية في العالم، توفي ليتمان عام1981م عن عمر يناهز 74عاما.
وفي عام 1970 تم إنتاج السماعة الإلكترونية لأول مرة، وهي السماعة التي يستخدمها الأطباء على هيئتها الحالية، وهي أنبوب من المطاط متصل بأذنين وبه جهاز رصد يعمل على تكبير ونقل أصوات القلب والرئتين. وللراصد الصدري جانبان عادة، أحدهما جرس قليل العمق ذو إطار مطاطي يلتقط النغمات منخفضة التردد، وعلى الجانب الآخر غشاء يشبه الطبق يعزل الأصوات عالية التردد. وتم إجراء كل هذه التحسينات والتعديلات على سماعة الطبيب لخفض وزنها وتحسين جودة الصوت وتصفية الضوضاء الخارجية للمساعدة في عملية السمع بوضوح للحصول على تشخيص سليم.
وعلى الرغم من أنّ السماعة الطبية خضعت لبعض التغييرات الرئيسية في الجودة الصوتية والتصميم، إلّا أنّ المبدأ الأساسي ظل كما هو منذ بدايته، وأصبحت الآن أداة تشخيصية أساسية ومقبولة على نطاق واسع، كما رفعت الكثير من الحرج بين الطبيب ومريضه.