ساهمت التقنيات الحديثة في بناء بواخر هائلة الأحجام، متنوعة الاستخدام، كثيفة الحمولة رائعة الفخامة تمخر عباب المحيطات والبحار. لكن تبقى التقلبات البحرية، والعيوب الصناعية، والأخطاء البشرية، والإعتداءات الحربية على حالها. ولم تكن الباخرة “تيتانك” وحدها “الكارثة البحرية الأكثر شهرة عالمياً”، لكن يشاركها الخسائر، البشرية والمادية الضخمة، أخوات كُـثر.
“تيتانيك” الباخرة غير القابلة للغوص
في عام 1912 أعلنت شركة هوايت ستار للملاحة إنزالها باخرة ركاب غير قابلة للغوص. وقدمت الباخرة العظيمة للعالم عبر حملة أعلانية ضخمة “انتصار الصناعة البحرية في القرن العشرين، أكبر سفينة في العالم”. باخرة ضخمة، عابرة للمحيطات، حمولتها 46.328 طناً وطولها 259.9 متراً. لها أربعة مداخن، وهيكل مزودوج من جدران عازلة. وقد تم تصميمها لتكون “الكلمة الأخيرة” في الراحة والرفاهية، مع صالة للألعاب الرياضية، وحمام سباحة، ومكتبات، ومطاعم راقية، وكابينة فخمة. فبلغت تكاليف إنشائها عشرة ملايين جنيه استرليني. وفي أبريل 1912 غادرت الباخرة “تيتانيك” Titanic فخر البحرية التجارية البريطانية ميناء “ساوث هامبتون” في طريقها لرحلة افتتاحية قاصدة “نيويورك”. وعلي ظهرها 2224 راكبًا، وأفراد طاقمهًا. لم تكن قوراب الإنقاذ لتتسع إلا لعدد 1178 شخصًا. لكن الجميع -ومن بينهم عدد من كبارالشخصيات- كان تواقاً لهذه “الرحلة التاريخية” للباخرة الجبارة.
وبعد أيام التقطت السفينة رسائل لاسلكية تحذرها من أن جبالاً من الجليد توجد جنوب موقعها. لكن القبطان من فرط ثقته قي قوة باخرته استمر في دفعها بأقصي سرعتها (22 عقدة بحرية). وفي يوم 15 أبريل حوالي الساعة 23:40 وفي وسط المحيط الأطلنطي ظهر جبل جليدي ضخم أمام الباخرة مباشرة. وقد أصدر القبطان “إدوارد سميث” أمره -الذي جاء متأخراً- بتغيير المحركات للخلف. لكن الباخرة اصطدمت بجبل الجليد وفتح فيها ثغرة طولها 90 مترًا واندفعت في دوي هائل المياه إلي العنابر. وأرسل القبطان استغاثات لاسلكية (S.O.S) وتركت “تيتانك” لمصيرها، تغوص في الأعماق وفي الساعة 16:40 وصلت الباخرة “كونراد كارباثيا” بموقع الكارثة وانقذت ركاب قوارب الإنقاذ (705 ناجياً). لكن ثلثي ركاب الباخرة (1500 شخص) قد لقوا حتفهم، وكانت خسارة “تينانيك” حافزاً لإصلاحات كبرى في سلامة النقل البحري، وتوقيع أول اتفاقية دولية لسلامة الأرواح في البحار (سولاس 1913)، وإنشاء الدوريات الأمريكية لمراقبة جبال الجليد، بالإضافة إلى ذلك صدرت عدة أنظمة لاسلكية عالمية جديدة في محاولة لمعرفة الأخطاء في الإتصالات اللاسلكية التي كان يمكن أن تنقذ العديد من الركاب. كما ظلت هذه الكارثة الكبري موضوع عدد كبير من التحقيقات، والتغطيات الإعلامية والسينمائية، والمقالات الصحفية، والأغاني الشعبية، والمعارض المتحفية، والنصب التذكارية.
الباخرة “لوزيتانيا“
كان العالم لا يزال متأثرا بكارثة “تيتانك” عندما وقعت كارثة بحرية أخري، ففي عام 1914 وعقب إعلان الحرب الكونية الأولي، قررت ألمانيا فرض الحصار البحري على الموانئ البريطانية والفرنسية، وفي أول مايو 1915 كانت الباخرة البريطانية “لوزيتانيا”، حمولة 32 ألف طن، قد غادرت ميناء “نيويورك” في طريقها إلي أوربا وعلي ظهرها 1959 راكباً. وفي الليلة التي أبحرت فيها.. نشرت السفارة الألمانية في واشنطون تحذيراً صحفياً جاء فيه: “أن ركاب الباخرة لوزيتانيا إنما يسافرون علي مسئوليتهم”. وفي السابع من مايو وعلى بعد 16كم من السواحل الأيرلندية، شاهدت غواصة ألمانية الباخرة. وعندما وصلت لمرمي قذائفها أصابتها في مقدمتها. ولم تمض عشر دقائق حتي بدأت الباخرة تغوص، واختفت في نحو ربع ساعة ومعها 1200 من ركابها. وكان بين الغرقي 125 أمريكياً، فأعلنت الولايات المتحدة الحرب علي ألمانيا علي أثر هذه الحادثة. وفي 29 مايو 1914 غرقت سفينة الركاب Empress of Ireland بعد اصطدامها بسفينة الشحن Storestad في نهر “سانت لورانس” بكندا، مما أسفر عن مقتل 1012 شخصاً، ونجاة 465 آخرين.
وعثر علماء آثار استراليون وأتراك على متحف تحت مباه الشواطئ التركية، ويضمّ آثار سفن حربية غارقة قرب الشواطئ التركية من مخلفات الحرب العالمية الأولى، وعثر على مركب قرب خليج “أنزاك” في شبه جزيرة “غاليبولي” كان يستخدم لنقل جثث وجرحى الجيش الاسترالي والنيوزيلندي، كما عثر على مدمرة بريطانية في خليج “سولفا” في الجزيرة قصفتها المدفعية التركية عام 1915، يذكر أن خليج الأنزاك سميّ تيمناً بعملية إنزال القوات الإسترالية والنيوزيلندية “أنزاك” على تلك الشواطئ في 25 أبريل 1915.
السفينة الفرنسية “مونت بلانك“
في هاليفاكس، نوفا سكوتيا/ كندا، وفي السادس من ديسمبر 1917، دمرت المدينة بسبب إنفجار ضخم للسفينة الفرنسية مونت بلانك “Mont-Blanc” المحملة بالكامل بالذخائر، حيث إصطدمت مع سفينة نرويجية في المضيق (جزء من ميناء هاليفاكس)، وتمكن الطاقم المكون من 40 رجلا من النجاة. في غضون دقائق إنفجرت السفينة، وقتل نحو 2000 شخص على شاطئ هاليفاكس، وهبوط الحطام والحرائق أو انهيار المباني، وجرح أكثر من 9000 شخص آخر بسبب الزجاج المتطاير، ولا يزال أكبر انفجار عرضي لأسلحة تقليدية.
في عشرينيات القرن الفائت
في يوم 3 مارس 1921، اصطدمت السفينة Hong Moh (سنغافورية) بالصخور في جزيرة وايت لاموك بالقرب من (شانتو) على الساحل الجنوبي للصين، وتحطمت إلى قطعتين وغرقت مما أسفر عن مقتل ألف شخص كانوا على متنها. كما غرقت الباخرة Wusung متجهة إلى “كامتشاتكا” قبالة جزر الكوريل، وكان ضحيتها 900 عامل ياباني، وذلك يوم 16 أيلول 1927.
حريق “نورمانديا“
كانت الباخرة الفرنسية “نورمانديا” من أفخم بواخر العالم، وقد أنزلت إلى الماء يوم 20 أكتوبر 1932. كبيرة الأبعاد: طولها 313.75 متراً، وعرضها 36.40 متراً، وتتسع لعدد 2200 راكباً، وتبلغ أقصي سرعتها 32 عقدة بحرية. وبينما كانت راسية في ميناء نيويورك أثناء الحرب العالمية الثانية، استغلتها الحكومة الأمريكية لنقل الجنود، فكلفت بنقل أكثر من 10 ألاف رجل مع المؤن والمهمات. كان من بينها 1100 حزمة تحتوي على صداري إنقاذ مصنوعة من الكابوك. وبينما كان يستخدم أحد العمال مصباح اللحام، وجهه إلي إحدي هذه الحزم، وسرعان ما اشتعلت كلها، وساهمت الرياح العاتية في سرعة انتشار الحريق. ولم تمض ساعات حتي صارت “نورمانديا” حطاماً محترقاً.
الباخرة “كيانج يا“
في بحر الصين.. وفي الرابع من كانون الأول 1948 انفجرت الباخرة “كيانج يا” Kiang ya علي بعد خمسين ميلاً جنوب شنغهاي. واشتبه أن سبب الكارثة لغم خلفته البحرية الإمبراطورية اليابانية في الحرب العالمية الثانية. ويعتقد أن عدد الضحايا ما بين 2750 – 3920، مع 700-1000 جرى إلتقاطهم ونجوا من قبل السفن الأخرى. وفي جزيرة “تشوك” في المحيط الهادي كانت اليابان تخزن معظم قطع أسطولها في الحرب العالمية الثانية، لكن قوات التحالف قصفت وأغرقت ما يقرب من 200 ألف طن من ذلك الأسطول، فتحول قاع الجزيرة إلي مقابر حربية.
العبارة “تويا مارو”، والباخرة “أندريا دوريا“
غرقت عبارة الركاب اليابانية “تويا مارو”Toya Maru في إعصار ماري في مضيق تسوجارو بين الجزر اليابانية من هوكايدو وهونشو في 26 سبتمبر 1954. ويقال أن 1153 شخصاً كانوا على متنها قد فقدوا. ولكن لا يزال العدد الدقيق من القتلى غير معروف لأن بعض الضحايا تمكن من الصعود دون تذاكر وألغى آخرون سفرهم قبل الإبحار. وفي رحلة سياحية.. يوم 25 يولية 1956.. تمخر الباخرة الفخمة “أندريا دوريا” (ترفع علم إيطاليا) عباب البحر أمام سواحل “نيو أنجلاند” وعلي ظهرها 1706 راكباً. وكان البحر هادئاً لكن الليل كثيف الضباب. وكان علي القبطان “كالاماي” الإبطاء من سرعة باخرته (40 عقدة بحرية) لكنه لم يفعل، لثقته في أجهزته الألكترونية والرادارية. وبينما كان الضباب يتكاثف بسرعة.. كانت سفينة البضائع السويدية “ستوكهولم” قد أقعلت قبل ذلك بقليل متجهة نحو “كوبنهاجن، وجوتبرج”. ووصلت لنفس موقع “أندريا” دون ابطاء لسرعتها أيضاً. فاصطدمت “ستوكهولم” بمقدمة الباخرة الإيطالية، وسارعت سفن للإنقاذ فنجا 1665 من الركاب.
“ما أشبه الليلة بالبارحة“
في 22 تشرين الأول 1707، حدثت كارثة “سيلي” التابعة لآسطول البحرية الملكية. وكانت في طريقها من “جبل طارق” إلى “بورتسموث” حيث أبحرت أربع سفن(HMS Association, HMS Eagle, Romney HMS, HMS Firebrand) ، من خلال الشعاب الخطرة غرب جزر سيلي وقد غرقت السفن. وبقي العدد الدقيق للطاقم المفقود غير معروف. وتتباين البيانات ما بين 1400- 2000 ضحية. وتقرر لاحقًا أن عدم قدرة الملاحين حساب خط الطول الخاص بهم بدقة كان السبب الرئيس للكارثة. وجراء عاصفة كبيرة.. غرقت الباخرة HMS Victory ذات المائة بندقية في القناة الإنجليزية أثناء عودتها إلى إنجلترا ليلة 4 أكتوبر 1744. ومعها فقد الأدميرال السير “جون بالشن” وطاقمها المُكون من 1150 رجلاً.
بينما كانت السفينة البريطانية Royal George راسية في “بورتسموث” ويجري سحبها لإجراء إصلاحات لها في 29 أغسطس 1782 مع طاقم كامل وعددا كبيرا من الزوار كانوا على متنها. السفينة إنحرفت بعيداً وتسرب الماء من فتحاتها، وغرقت. وفقد 800 ممن كانوا علي ظهرها، منهم اللواء “ريتشارد كيم بنفيلت”. وكذلك 300 إمرأة، 60 طفلاُ من زوار السفينة. وحينما أبحرت الباخرتان بلينهايم “Blenheim”، وجافا “Java” في قافلة إلى الهند عام 1807. فقدت السفن في عاصفة فلال رودريغز. وكانت السفينة بلينهايم في حالة سيئة بينما غرقت جافا أثناء محاولتها إنقاذ طاقم بلينهايم. وفقد 280 من رجال جافا و 590 من بلينهايم. أما في جزر الهند الشرقية الهولندية حاولت السفينة الصينية “نفاية” في 6 فبراير 1822 اختصار مسافة الإبحار من خلال مضيق “غاسبار” بين “بيليتونج”، و”جزر بانجكا” التي ترتكز على شعاب مرجانية. وغرقت السفينة في حوالي 100 قدم من الماء، مما أسفر عن مقتل حوالي 1600 شخص.
وكانت السفينة ليفورت Russian Empire Lefort في خليج فنلندا في طريقها من ريفال لكرونستاد جنباً إلى جنب مع السفن Imperatritsa ألكسندرا، فلاديمير و Pamiat Asova. وكان على متنها 756 من الطاقم والضباط كذلك 53 امرأة، و 17 طفلاً من عائلات أفراد طاقمها. وفي 22 سبتمبر 1857 تم الهجوم عليها في ضربة مفاجئة فدارت حول محورها، وغرقت بين جزيرتي جوجلاند والبولشوى مع خسارة 826 شخصا ممن كان على متنها. أما في يوم 23 نوفمبر 1883 كانت سفينتان تجاريتان من اسطول ليمان Leman هما “الرون”، و”البجعة” وعلي ظهرهما عدد كبير من الركاب تسيران بصعوبة وسط الضباب صدمت البجعة الرون محدثة دويا هائلاً .. أدي إلي غرق الأخيرة. وراح ضحية الحادث عشرات الركاب.
السفن الغارقة كنوز ومتاحف رائعة
يفخر الأسطول البحري البرتغالي بسفن (الكرافيلاس، والناموس) التي كانت تمخر عباب البحار في القرن السابع عشر إلى الهند. تجد حطام تلك السفن تُستغل تجارياً في سواحل موزمبيق. وفي عام 1996 رسمت خريطة للكنوز الغارقة في مياة مصر الإقليمية وبخاصة خليج “أبو قير” بالأسكندرية، وتم تحديد 70 موقعا أثريا قديما، وقطع أسطول نابليون، ومدافعه الغارقة، وتم الكشف عن سفينة القيادة “الأورينت”، وثمانية مدافع وزن كل منها ثمانية أطنان، كما تم تخصيص معرض يضم 489 قطعة أثرية انتشلت من أعماق البحر المتوسط قبالة الأسكندرية. ومن أشهرها تمثال إله النيل والخصب “حابي” (يعود إلى 2300 سنة ق.م.)، وتمثالين ضخمين كاملين لملك وملكة بإرتفاع خمسة أمتار من الجرانيت الوردي كاملين، ورأس إله الشفاء والموت “سيرابيس”، وتمثالان نصفيان للآلهة “إيزيس”، والإله “حربوقراط”، وحلي ومصاغ ذهبية، وقطع سيراميك بعضها كامل، وتمثال “لنختانيبوس” الثاني بجسد أسد، وأقدم روزنامة فلكية من مصر القديمة. إضافة لتماثيل تعود للعصر اليوناني وعملات معدنية تعود للعصر الإسلامي. كما تم الكشف عن مجموعة تماثيل لأبي الهول بالعصر البطلمي، وتمثال لأحد الكهنة يحمل إناء، ومجموعة حلي وعملات ذهبية، وفضية، وبرونزية. ويطلق الغواصون علي منطقة شعاب “أبو نحاس” بالبحر الأحمر (صائدة السفن ومقبرة المراكب من كل العصور). ففيها سبع سفن أهمها “كارنتيك”، و”جيانيس”، و”دانا”. وكانت هذه السفن تحمل المنتجات المختلفة من أقمشة، وبهارات، وسبائك، وقطع ذهبية. وتجوب البحار، أما السفينة “جيانيس” فتقبع في شعاب أبو نحاس، وغرقت في 19 أبريل 1983 وكانت تسع 2900 طن وحمولتها 3500 طن. وعثر الغواصون على اسم “ماركوس” مكتوباً عليها. ورجحوا أن يكون اسمها القديم.
وبعد تسع سنوات (1995- 2004) من البحث عن حطام السفينة إتش.أم.أس. فكتوريا “HMS Victoria” (درة البحرية البريطانية).. وجدت مقدمتها مغروزة ثلاثون متراً في رمال قاع عمقه 145 مترًا ببحر مدينة طرابلس شمال لبنان. وغرقت السفينة في 22 يونيو 1893 أثناء مشاركتها في مناورات عسكرية، فكانت مأساة مؤلمة للبريطانيين قضى فيها 358 جندياً وضابطاً، ومعهم القائد العام للأسطول البريطاني اللورد “جورج ترايون”، وكانت مواصفات “إتش.أم.أس. فكتوريا” مفخرة للبريطانيين. فهي أول سفينة تضاء بالكهرباء، ووزنها 10 آلاف و400 طن، وعرضها 21 مترا، وطولها 103 متراً، ومزودة بمحركين بخاريين بقوة 15 ألف حصان، وسرعتها 15 عقدة، أي تقريباً 28 كلم بالساعة، وكان على متنها 15 مدفعاً، بينها اثنان من أكبر ما عرفه التاريخ العسكري من مدافع (بعيار 16.5 بوصة)، إضافة إلى ثمانية رشاشات ثقيلة، وعلى متنها 715 جندياً وضابطاً، لم يبق منهم حياً سوى 357 فقط. حيث قام قبطانها اللورد “جورج ترايون”، خطأ، بإلتفافة عنيفة اصطدمت HMS Victoria بسفينة “كامبرداون” فتصدعت مقدمتها. وتدفق الماء إلى جوفها بقوة عبر تشققات هيكلها وأثقلت مقدمتها، فابتلعها بحر طرابلس في أقل من 13 دقيقة وسط ذعر المحتشدين، واختفت على بعد ثمانية كيلومترات من الشاطئ، وكأنها لم تكن، ووصل صدى الحادث إلى عاصمة الضباب، فبكت الإمبراطورية فلذات أكبادها، وصنّفت الكارثة بأسوأ ما أبتـُلت به زمن السلم.