في الوقت الذي لم تكن فيه كلمة العقل شائعة في العالم المسيحي خلال النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، وكانت عقائد المسيحية التي قننتها الكنيسة تخالف جميع العقول لكنها لا تقبل المناقشة إلا على حد السيف، جاء الإسلام بمثابة ميلاد للعقل الإنساني الجديد، دينًا يريد تحرير الوعي الإنساني ويطرح على الإنسان مهمة التفكير فيه هو نفسه كدين. فقد كان الدين كما عرفته البشرية قبل ذلك، مجموعة من العقائد التي تُفرض على الناس بسلطة قهرية هي سلطة المؤسسة الدينية ورجال الدين، تدعوهم إلى التسليم بها دون جدال، ويُتداول حولها في مجامع كنسية سرية بين الأباطرة ورجال الكنيسة، قبل أن تخرج بعد ذلك إلى العامة للتصديق بها؛ لذلك لم يكن هناك مكان لإعمال العقل والتفكير في الدين والسؤال عنه وعن عقائده، بل إن رجال الدين أنفسهم لم يكن لهم جميعهم الحق نفسه في السؤال، فقد كان الكثيرون منهم يتعرضون للقتل والحرمان الكنسي بمجرد ما يطرحون قضية معينة للمناقشة، حتى صار كل صاحب سؤال صاحبَ فرقة تتكون بعد ذلك بشكل تلقائي، حيث تعددت الفرق المسيحية حتى بلغت المئات. لذلك لم يكن ممكنًا أن يبرز العقل، ويؤدي مهمته التي أنيطت به منذ أن خلق الله الإنسان وأودع فيه موهبة العقل مميزًا إياه عن باقي المخلوقات، بل كان العقل مجرد وظيفة ميتة عند الإنسان المسيحي تشتغل في السر، فإن خرجت إلى العلن قتل صاحبها بتهمة الهرطقة أو التجديف أو مناقضة عقيدة المسيح. بالرغم من أن العقل اليوناني الذي افتخرت به أوروبا المسيحية في عصر التنوير، كان موجودًا بصفته معطى تاريحيًّا في الزمن قبل ذلك التاريخ، فإن المسيحيين لم يكونوا يعرفونه إطلاقًا، وظل مجهولاً لديهم طوال قرون عدة، إلى أن عرفوه عن طريق المسلمين في العصر الحديث.
وأمام هذا الواقع الذي كانت تعيشه البشرية في ذلك القرن، ما بين مسيحية مغلقة ويهودية متعصبة وديانات أرضية متفرقة يقف على رأسها زعماء قوميون أو قبليون يقومون مقام رجال الدين في الكنيسة المسيحية، جاء الإسلام بمجموعة من العقائد التي طلب من الإنسان الإيمان بها بعد اختبارها. وكانت تلك تجربة جديدة تمامًا في التاريخ، غالبًا ما نطوي الحديث عنها طيًّا ولا نتفكر فيها. لقد جرى التقليد على أن الأديان هي حزمة من العقائد، الهدف التسليم بها، وعلى أن التفكير فيها يشجع على العصيان والتمرد، ويمس بهيبة المؤسسة الدينية وسلطاتها، لكن الإسلام خرق هذه الأعراف، وعرض نفسه على البشرية مقترحًا عليها وضعه موضع الاختبار، وهو أمر كان مثيرًا للغرابة في ذلك الزمن؛ أن ينزل دين جديد يحث الإنسان على اختبار حقيقته!
وكان أول شيء حض عليه القرآن الكريم هو التفكير والتفكر بدل التسليم الأعمى، وذلك يعني أن القرآن يخاطب في الإنسان غريزة العقل لا شيئًا آخر، فتبينت الغاية الأولى من خلق موهبة العقل في الإنسان، وهي أن يتفكر في خلق الله فيؤمن به أو يكفر وفقًا لما أرشده إليه عقله، لكن بعد النظر في الدلائل ثم التكذيب أو التصديق بها. أما الغاية الثانية فهي المسؤولية، فتخصيص الإنسان بالعقل دون سائر المخلوقات ليس الغرض منه فقط التفكر والتفكير، بل تحمل المسؤولية أيضًا. وكان ذلك يمثل أكبر تشريف للإنسان في الكون؛ التشريف المتمثل في تمكينه من عقل واع يرشده، وقدرة على اتخاذ قرار مستقل يتحمل مسؤوليته، يقرره بعقله وحده دون قوة خارجية.
ونجد في القرآن الكريم آيات عدة وردت فيها دعوات إلى التفكر والتفكير، وحين يُذكر التفكر، فمعنى ذلك أن القرآن يدعو كل فرد إلى إعمال العقل بمفرده دون تأثير من أحد، لأن التفكير والتفكر عملية فردية، وهو يناقض التسليم. فقد قال تعالى:(كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون)(يونس:24)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية:13)، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل:44)، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)(الأنعام:50)، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)(الروم:8)، إلى غيرها من الآيات التي تدعو الإنسان إلى استعمال فكره وعدم تعطيله، وأن يصل بنفسه إلى نتيجة معينة حول حقيقة وجود الله سبحانه وحقيقة الإسلام.
بل إن القرآن لم يكتف بدعوة الإنسان الفرد إلى التفكير والتفكر، وإنما تجاوز ذلك إلى دعوة الجماعة إلى عقد مناقشات بين أفرادها بشكل جماعي، وتبادل الرأي والتحليل بكل موضوعية، والوصول إلى نتائج بعد ذلك، بناء على عمل الفريق، فقال سبحانه:(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)(سبأ:46).
(*) باحث في الفكر الإسلامي / المغرب.