لا شك أن الإنسان يأتي إلى هذه الدنيا بمواهب مذهلة، وبقدرات هائلة، وطاقة حيوية محيرة؛ وذلك ليعي جيدًا ما يحيط به، ويحسّ بما حوله، ومن ثم يكتشف العالم الذي نزل فيه. نعم، مع ولادة الإنسان تبدأ الحركة والحياة؛ يجد الطفل نفسه فجأة في عالم جديد يختلف تمامًا عن الذي سكنه تسعة أشهر، فيقوم مباشرة بتفعيل مواهبه التي تميز بها من بين سائر المخلوقات؛ ينظر ويتفحص محيطه جيدًا، لينتبه أولاً إلى ذراعيه وساقيه، وبعد حين يدرك قابليته في أفعالٍ وحركات عجز عنها في بطن أمه. ومن هنا يبدأ الطفل رحلة تعليمية طويلة تستمر مدى العمر.
أجل، نظامُ تعليمٍ وتعلُّمٍ مكثّف يفاجئ الطفلَ بعد رحلته التي بدأت من غرفة ضيقة مظلمة وانتهت إلى عالم رحب معقّد. ولكن بفضل ما وُضع فيه من المواهب والقدرات الخاصة، يتمكّن الطفل مباشرة من التأقلم بأجواء هذه المسيرة الطويلة الشاقة. وما زالت الدراسات والأبحاث تتوالى لفكّ ألغاز هذه الآلية التي تتمحور حول الدماغ الذي يتحكم في جميع الأنشطة، وردود الأفعال، والاستجابات، والحركات، والوظائف وغيرها من الأحداث.
وخلال الأيام الأولى أو الشهر الأول من الولادة، يستمتع الطفل بقوةِ تعلُّمٍ خارقة دون مساعدة أحد من الكبار.. طاقةٍ لن تُمنح له مرة أخرى في الحياة أبدًا. ولكن ما يجب التنويه إليه في هذا الباب، هو الدماغ الذي يتمتع بقدرات هائلة؛ لاحتوائه على معالج مذهل وذاكرة حادة عجيبة مدعومة بحاسوب عالي الجودة وفريد النوع. إنها مصادر طبيعية يعتمد عليها الطفل في بداية تعلُّمه الفطري دون مداخلة الكبار وإرشاداتهم في التربية والتعليم.
الكبار ودورهم في التعليم
هناك سببان أسياسيان يبعثان على تدخل الكبار في تعليم الطفل وإرشاده في الحياة. الأول هو استثمار القدرات وتنمية القابليات التي يتحلى الطفل بها منذ الولادة بأحسن صورة ممكنة، ومساعدته في تطوير موهبته التعليمية التي خُلق عليها. وأما السبب الثاني فهو إصرار الكبار التدخلَ في المرحلة الفطرية التي اعتاد عليها الطفل منذ الولادة، وإجباره على أخذ ما يعطى له من توجيه وإرشاد بالقوة، مما يؤدي إلى نتائج عكسية قد تُنفر الطفل من التعليم، وتؤثر سلبًا على ذاكرته وعاداته العقلية التي يستمتع بها.
تعالوا نجسِّد ذلك من خلال مقارنة بين قطع “الليغو”، والإشارات التي يستقبلها الطفل؛ حيث إن وظيفة هذا الطفل هي تجميع هذه القطع بطريقة مناسبة وتركيبها بشكل صحيح، وهدفه الأمثل في ذلك إقامة “عالمه المعرفي” من هذه القطع. علمًا بأن هذه العناصر الملهمة والمتناغمة مع ماهية الهدف، تسهم إسهامًا كبيرًا في إنشاء عالم الروح والمعنى لدى الطفل.
ويقع على عاتق الكبار أثناء قيام الطفل بإنشاء عالمه العرفاني، تأدية وظيفتين مهمتين للغاية، أولاهما تأمين القطع الكافية للطفل لبناء عالمه المثالي، ومنع تحوُّل هذا العالم إلى ركامٍ من اليأس والخيبة، أو إلى خرابةٍ خالية من الإلهامات والأخيلة. إنه النموذج الأمثل الذي يمكن للكبار تقديمه للطفل، ليساعدوه على اجتياز هذه الخيبة، واكتساب التجربة في استيعاب وإدراك هذا العالم الذي سيعيش على تربته. ولا بد لمثل هذا النموذج، أن يحتوي على صورة تعكس إلى حد كبير أجزاء عالمنا الكبير بأحاسيسه وأفكاره، ووقائعه وأحداثه، وكائناته وأشيائه التي انبنى عليها.
أما ثاني هاتين الوظيفتين للكبار في تعليم وترشيد أطفالهم، فهي المثال والقدوة في توجيه الطفل إبان تجميعه قطع الليغو وتركيبها، وتعليمه كيفية الربط والتنسيق بينها للوصول إلى هدفه المطلوب. وبذلك يكون الكبار قد أدوا واجبهم، وهيأوا للطفل الأرضية المناسبة التي سيبني عليها أحلامه، ويوسع من خلالها عالمه المعرفي بالشكل الذي يريده وبالطريقة التي يحبها، وعكس ذلك، يسبب التدهور الذهني لدى الطفل ويدفعه نحو المجهول واللامعنى. والأخطر من ذلك، أن يتراكم هذا التدهور عند الطفل ويتحول إلى عادة أو إدمان، بالإضافة إلى أن التدهور الذهني هذا، سيقف سدًّا منيعًا أمام الطفل في حل مشاكله، ويعيقه عن التفكير المعقول المترابط.
متعة التعلُّم
ولا شك أن اهتمام الكبار بهاتين الوظيفتين المذكورتين وتطبيقهما بعناية، سيسهِّل بدوره مرحلة التعلَّم عند الطفل. ولكن إذا ألح الكبار على رفع مستوى الفضول والاستطلاع عند الطفل دون تأمين القطع الكافية له من الليغو، فإن ذلك سيضر الطفل قبل أن ينفعه، ويبعثر العالم الذي حَلُم به. كما أن تكديس القطع أمام الطفل دون التوجيه إلى تركيبها في المكان الصحيح، عمل ناقص لا فائدة فيه ولا معنى له. لذا، على الآباء أو الأمهات أو المرشدين أو الكبار بشكل عام، إرشاد الطفل ومساعدته في وضع القطع في مكانها المناسب، والحرص على رفع درجة الفضول وحب الاستطلاع لدى الطفل، ومن ثم التركيز الواعي على الأمور والأحداث.. أيْ التنقيب عن سبل تتفق مع طبيعة الطفل ومزاجه، وتحبب إليه فضاء التعلّم والإبداع. وبتعبير عكسي، يجب على الكبار الحذر من التدخل المباشر وإنشاء عالم معرفة الطفل بأنفسهم، وكذلك يجب عليهم عدم ترك الطفل وحيدًا أمام ركام من قطع الليغو، حيران لا يعرف ماذا يفعل ومن أين يبدأ.. بل المطلوب منهم أن يقوموا بدور المرشد ويوجِّهوا الطفل إلى إنشاء معالمه المعرفي بنفسه، وبالطريقة التي يحبها.
إن نظام الأسرة في المنزل، وانتقاء ألعاب الطفل، والمشاركة الفاعلة في الأنشطة المدرسية من قِبل الأبوين، وغيرها من الأمور، تلعب دورًا بارزًا في تعليم الطفل وبناء عالمه المثالي. إن المنزل عامة وغرفة الطفل خاصة، ينبغي أن تُزيَّن -قدر الإمكان- بألعاب متنوعة توفر للطفل تكوين عالمه ودنياه الخاصة به، ولا سيما إذا كان الطفل في مرحلة الاستطلاع والبحث لإنشاء عالمه المعرفي من هذه القطع والألعاب والأمتعة التي بين يديه.
أجل، مع تأمين القطع اللازمة ووضعها في غرفة الطفل ليجد فرصة البحث والاستطلاع بنفسه تتحقق الغاية، ومن ثم يبدأ الطفل بالتأمل والتفكير وتقويم الأشياء والقطع التي يراها في جنبات غرفته. ولا شك أن القيام بتطبيق هذه الأساليب التعليمية باستمرار وبصورة جيدة، تفتاح أمام الطفل آفاقًا جديدة وطريقًا مستقيمًا ينتهي إلى عقل واع مستعد دائمًا للتلقي والتعليم.
(*) كاتب وباحث أمريكي. الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.