حين تعصف العاصفة وتضرب الجائحة بقاع الأرض، ويعم الوباء ببني آدم الضعيف، تتعطل الكثير من الأدوار الحياتية وتنقلب موازينها، غير أن الفؤاد المعتبر الذي خلق ليتدبر لا يفتر عن الاتعاظ والاستبصار فيما جرى ويجري من سريان الأحداث.
إن الأوبئة على مر العصور حين تضرب تحفر في ذاكرة التاريخ؛ دينيا كان أو جغرافيًّا واجتماعيًّا أو علميًّا…، ويبقى لذكراها صدى يتردد عبر الأزمان، وتكتنز أحداثها الدروس والعظات، وتغدو موردا سائغًا لتشخيص العديد من الأعطاب في مختلف ميادين الحياة، ومرجعًا يتحاكم إليه حين ترتبك الأدوار من جديد، فمن رحمها نتعلم كيف نجثو بعد الرضوخ، وكيف نميز الخبيث من الطيب من مواقف الناس في التعامل مع الأحداث سواء أكانوا سياسيين، أو تربويين، أو فنانين، أو علماء…، وعلى اشتداد الجائحة تجتهد البشرية جمعاء في إنتاج وصفات العلاج للكثير من الأدواء.
أترانا اليوم ماذا تعلمنا من جائحة العصر التي أطلت على عالمنا، وهي لم تبرح بعد، ولا أحدنا يدري أهي عابرة أم مستقرة؟ وماذا اعتبرنا من أحداثها المتسارعة وقتلاها المتضاعفة؟
علمتنا حقًا أيه الجندي الخفي الذي اختير له اسم “كورونا كوفيد 19″ أن الدنيا بعجرها وبجرها أحقر بدرجات عما كنا نعتقدها حقيرة، وتقرر أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة رغم مستويات الرقي المادي الذي ألفناه، ولم يعد -بعد الوباء الذي ضرب العالم- لزخرفها أدنى قيمة سيما لما انزوينا محاصرين بين جدران، وعلقنا كل شواغلنا إلى أجل غير مسمى حتى تمر الجائحة ـــ إن مرت ـــ، وفرغت كل الساحات والباحات والمطارات والطرقات من الخلائق، حتى المساجد هجرت من غير حول منا ولا قوة، بل حتى مكة المكرمة التي ما رُئيت عبر الأزمان خاوية صارت تشكو فراق عمارها.
وعلمتنا أن بني آدم كلهم، على تباين لونهم ولغاتهم وثقافاتهم ورصيدهم الحضاري العمراني، قد يغدون في أعسر الأوقات متساوين في مشاعر الآدمية، وفي صدارتها اليوم: الفزع، والهلع، والحذر، والضجر، وإن كنا قبلها غير صرحاء مع أنفسنا حين نصرف تلك المشاعر فيما بيننا، وقد يتوجس الواحد منا خيفة من الآخر أن يطلع على شيء منها، متوهما انكشاف ضعفه، وزوال نخوته وذهاب هيبته، وانكشفت للعيان الآن حقيقة الإنسان الذي ” خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ” ( سورة المعارج).
علمتنا أن الإنسان نسيج من الأزمات النفسية التي عنوانها الآن؛ القلق على مصيره بعد الجائحة، بيد أنه لا يبيد ذلك ـــ صدقا ـــ إلا استشعار الشوق للفردوس الأبدي، والذي يتنفس منا بنسمات الجنان في معقل دنياه وضيق حجرته الذي فرضه الوباء، حتما سوف ينصرف عنه الحنق إلى طمأنينة لا توصف بالكلمات، فيغدق بالمحن وسط النقم.
علمتنا حقا أن ما تملكته البشرية وتتملكه اليوم من تقنيات ورقميات ومصنوعات، وأشياء ومتاع؛ مركوب أو طائر أو عائم…، وشرفات واسعة مشرقة وعمارات شامخة، وتجهيزات راقية … كل ذاك مجرد متاع مآله الحطام والزوال، إن بجائحتنا أو بعاصفة غد ” يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ” ( إبراهيم : 48).
وتعلمنا منك وأنت الضعيف الذي أضعف كل قوانا، أن الكلمة الفاصلة المسموعة الآن في وسائل إعلامنا، والنتاج الهادف الذي يمكن أن يبقى متوارثا للأجيال التي لها العقبى، ليس للتافهين الفارغين الذي ملئوا الشاشات قبلُ، وصدعوا العالم بصيحاتهم وأهاجيزهم، أو السدج أو العوام الذين يهرفون بما يغرفون من أسفل الفكر وأمج الذوق وأرذل النتاجات، فلا عز لهم الآن ولا شموخ به يسمقون حين تستوي معادلة الحياة، وقد استوت المعادلة الآن.
علمتنا إذن أن أرباب السيادة والريادة لمدارسة هموم الإنسانية وتشخيص أدوائها وآلامها، وإصلاح أعطابها، وترميم ما تآكل منها؛ هم أسياد العلوم وبالأحرى علوم الحياة الدقيقة، الذين عكفوا ردحا من الزمان من أجل أن يتوجوا مسارهم بشهادة طبيب، أو عالم أحياء، أو خبير فيروسات، أو منتج مصل أو دواء …، هم وغيرهم من الجنود المجندين، الذين يعملون الآن في علن أو في خفاء من أجل أن يقاوم جسد الآدمي الطريح الفراش المرض وتتاح له الفرصة أن يعيش من جديد من إنتاج لقاح أو ابتكار علاج.
علمتنا أن كبار السياسيين الذي يديرون العالم، ويتحكمون في موازين قواه، ودائما يطلون علينا من خلال الشاشات منتفخين عزا وكبرياء، حتما ستنكشف بعد الوباء أكاذيبهم ويزال مجد بعضهم، ولا صمود للعظمة وجنونها حين تعصف بالحياة أحقر المخلوقات، ويصير هاجس الذين انتخبوهم وأعلوا من مكانتهم وقدرهم هو أن يحصل الواحد منهم على كمامة واقية، أو معقم يقيه من لوثة الفيروس.
علمتنا أيه الجندي المجند من رب الأرض والسماوات أن البلاد المعمورة التي كنا نعتقدها أقوى البلاد سياسيا واقتصاديا وعلميا…، لربما منها يأتي أول الخراب والدمار، وفيها تحصد الأرواح بالمآت والألوف، وفيها يضرب الوباء طولا وعرضا غير مكترث لغني أو سيد، وغير راحم لفقير يستنجد، وأن ترسانة الأسلحة التي كانت تمتلكها تلك البلاد وتعتبرها أداة لإخافة الشعوب وإفزاعها والضغط عليها من أجل الانقياد لها، لم تعد تجدي نفعا، ولا تملك من القوة شيئا في وقف زحف الجائحة أو إحراقها أو القضاء عليها بأي شكل من الأشكال.
ولقد كشفت عن سوءة العديد من مظاهر الشره والكبر وهشاشة الضمائر التي لم تكن تظهر للعن، وكم كنا نجلد أنفسنا بأننا لسنا ذوي أخلاق إنسانية مقارنة مع الآخر المتقدم علينا ماديا وإنسانيا؟ إلا بعد أن كشفت الستائر ونزعت البساط من تحت العروش، وأطلعتنا عن معدن الإنسان الحق سواء كان إفريقيا أو أوروبيا أو أمريكيا أو أسيويا…
علمتنا أنه حين تدنو ساعة الرحيل عن عالمنا الأرضي لا مفر للمرء كيف ما كان في فجاج الأرض كلها؛ بحارها وكهوفها، سمائها وبرها، جبالها وصحاريها، إلا لرب الأرض والسماوات، ولا صوت يعلو عند آخر شوط الإنسان في الحياة إلا صوت الدين الحق الذي دانت به الخلائق كلها منذ أو وجود إلى آخر نبض.
علمتنا أن الحياة التي نحياها أجمل بكثير مما كنا نتصورها، وما كنا نرمقه فيها من قبح، واعوجاج، ومن مظاهر غير مستحسنة لذوي الألباب فهي وليدة أفعالنا المجرمة وأشواقنا المجنونة، وها هي ذي قد غدت أجمل، وأطهر، وأنقى، وأصفى، مما كانت عليه قبل الوباء، بعد أن حجر نفسه بني الإنسان.
وأعظم درس تعلمناه أن لا فناء لقيم الإنسان الخالدة التي دعت لها كل شرائع السماء، وإن تناسيناها أوقات الرخاء والمرح، أو ازدرى بها البعض متوهما أنها لا تنسجم مع متطلبات العصر العلمي، فهي تأبى الآن إلا أن تكون في صدارة الأحداث حين عصفت بنا الأزمات، وهي التي نسمعها الآن ممن كان أشد البعد عنها؛ من تكافل، وتعاون، وتبرع، وصدق، ومحبة ورحمة واحترام..
والناس مع الوباء أصناف منهم المعتبرين الفطنين، الذين أخذوا من الجائحة الدروس وأساليب التقويم لضمائرهم ومطامحهم التي لا ينبغي أن تتجاوز دائرة الفضيلة، ومنهم الراكبين على أمواج الأزمات من أجل تصريف المزيد من نفاقهم وشرهم وجنون كبرائهم…، ولكن هيهات هيهات لمطامحهم حين تجرفها الجارفات.
علمتني أخيرا أيها الجندي الخفي أن لله في السماوات والأرضين جنودا بالعشرات بل بالمآت، ولعل أحقرها وأضعفها ما يشاء القادر المقتدر جل في عليائه أن يرينا منك، ولسنا ندري ما ستفاجئنا به في غد، ولسنا ندري أراحل أنت أم مقر، ” وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ” ( المدّثر : 31