هل كان لنا أن نقطع المسافات بين مشارق الأرض ومغاربها عبر الطائرات لولا محاكاة البشر طيران الطيور؟ عندما أراد الإنسان الأول تصوير نفسه على جدران أقدم الكهوف، رسم جسده برأس طائر، تحقيقًا لأشواقه الدفينة والعريقة في الطيران.. وبعد ذلك بعصور جاء “أبو القاسم عباس بن فرناس الأندلسي القرطبي” (810-887م) ليبادر بمحاكاة طيران الطير أيضًا؛ فكسا نفسه الريش وطار بجناحين لمسافة ثم سقط وتأذّى. ثم حقق الفرنسيان “جان ف. بيلاتر دي روزييه”، و”الماركيز دي أرلاند” عام 1783م أول ارتفاع في الجو في بالون هواء ساخن. وأكمل المسيرة الأخوان الأمريكيان “أورفيل”، و”ويلبر رايت” عام 1903م بابتكار آلة تطير عبر الهواء، وقاما بأول رحلة رسمية بالطائرة عام 1908م. وفي عام 1995م دُشنت الطائرة بوينج 777 لخدمة المسافرين، وهي أكبر طائرة نفاثة ثنائية المحركات.
التصوير بالموجات فوق الصوتية
في سبعينيات القرن الماضي أُدخل إلى علم الطب والجراحة جانب تشخيصي باهر هو التصوير الطبي بالموجات فوق الصوتية (Medical Imaging Ultrasound)، حيث يعتمد هذا التصوير على إرسال موجات صوتية عالية التردد وذات طاقة منخفضة إلى داخل الجسم، ثم يتم عبر جهاز حاسب آلي متطور تسجيل ارتداد هذه الذبذبات بعد ارتطامها بأسطح الأعضاء الداخلية، وبقياس زمن الذهاب والإياب يتم تحديد أعماق جميع النقاط، وتكوين صورة طبية تشخيصية للأعضاء والأنسجة على شاشة العرض. لقد حاكت هذه الأجهزة قدرة الخفافيش والدلافين على الحياة والتواصل بظاهرة الصدى. إن الخفافيش تطير ليلاً ومعظمها يعيش داخل كهوف مظلمة، إذ تقوم بتحديد أبعاد الأشياء أو الفرائس عبر إرسال واستقبال الموجات فوق الصوتية. ولهذه الميزة (نظام الاتصالات فوق الصوتي والسمعي) دُربت الدلافين على كشف وإزالة الألغام البحرية والرصد الوقائي لموجات تسونامي، هذا فضلاً عن ابتكار الأنظمة الرادارية وأجهزة “السونار” التي تستخدمها السفن والغواصات.
الأقمشة المضادة للرصاص
يَصنع كثير من الحشرات خيوطًا حريرية، لكن حرير العنكبوت متفرد ومتميز؛ فخيوط العنكبوت الحريرية أقوى من الفولاذ بخمسة أضعاف ومع ذلك فهي مرنة جدًّا، كما لها القدرة على التمطط أكثر من النايلون بنحو ٣٠%. وقد استطاع الإنسان تقليد نسيج العنكبوت ومحاكاته في أنواع متطورة من أحزمة الأمان، وفي خيوط العمليات الجراحية، والأربطة الاصطناعية، والحبال والكابلات خفيفة الوزن، والأقمشة المضادة للرصاص.
الشريط اللاصق الذاتي
استلهم الإنسان ملابسه من جلود الحيوانات وفرائها، وأوراق الأشجار وفروعها.. لكن هل سألت يومًا عن مصدر فكرة شريط اللاصق الذاتي “فيلكرو” (Velcro) الذي يلصق ويفك بسهولة، إنه يستعمل بكثرة في السترات والحقائب والأحذية الرياضية.. ثم هل شاهدت قشور الثمار والبذور الشائكة المتساقطة لبعض النباتات وهي تلتصق بفراء الكلاب أو ملابس المارة؛ لقد لاحظها المهندس السويسري “جورج دو ميسترال” (George De MeStral) عام ١٩٥٧ عالقة بفراء كلبه وتكسوها خطاطيف صغيرة، فانكب على دراستها، وبعد ثماني سنوات من البحث والتجريب، استطاع تحويل الظاهرة إلى تطبيق اكتسح العالم.
استلهام مواد وآلات جديدة
يهدف علم التقليد الإحيائي إلى إنتاج مواد وآلات أكثر تعقيدًا عبر محاكاة الطبيعة، فالكون يحتوي على منتجات عملية ونظيفة ومرنة وخفيفة وقوية.. فعند البشر والحيوانات، يشكّل البروتين الليفي “الكولاجين” أساس المركَّبات التي تعطي الصلابة للجلد، والأمعاء، والغضاريف، والأوتار، والعظام، والأسنان باستثناء ميناء الأسنان.. ففي الأوتار التي تربط العضلات بالعظام، يتجلّى جمال الدقة والتقدير والروعة الهندسية؛ إنها مذهلة لصلابة أليافها المحتوية على الكولاجين وطريقة نسجها. أما الوتر في الساعد فهو حزمة مجدولة من الكابلات -مثل الكابلات المستعملة في جسر معلق- وكل كابل هو حزمة مجدولة من كابلات أرفع، وهذه الكابلات الأرفع هي حزمة مجدولة من الجزيئات التي هي حزم لولبية مجدولة من الذرات.. فماذا يحدث لو أُدمجتْ ألياف الكولاجين المرنة والمطاطة (Stretchy) في معادن هشة؟
وعليه فإن جلد سمك القرش -كسطح خشن- يمتاز بقنوات على شكل حرف “U” يتولَّد من خلالها دوامات مائية صغيرة تقلل من الاحتكاك؛ حيث تم تقليد خواصه تلك، في صناعة ورق لتلميع الزجاج، وفي لباس السباحة الرياضي.
ويشكِّل السليلوز أساسَ المركَّبات النباتية عوض الكولاجين، ويعطي الخشب العديد من خصائصه المطلوبة، وقد وُصف بأنه مادة منقطعة النظير في مقاومة الشد. ومن نباتات منطقة البحر المتوسط وعيدانها القوية -كالبوص- دشن مشروع لابتكار “عود” مشابه للبوص يتميز بالمتانة الميكانيكية، وخفة الوزن، وقلة التكلفة، والقدرة على الاحتباس البخاري، كما أنه -مثل نبات ذنب الخيل- يتميز بقنوات وظيفية تُفتح في جدار العود، وذلك لمد توصيلات الوقود والمياه والكهرباء. وتقليدًا لنبات “الليانا” المتسلق الذي ينقل المياه حتى مسافة كيلومتر واحد، يمكن نقل السوائل إلى الأعلى بلا مضخات، كما يساعد تطبيق هذه التقنية، على ترشيد المياه المطلوبة للزراعة ومنع تبديد كميات كبيرة منها، وتوفير الطاقة المستخدمة في المضخات. هذا وقد خصصت ألمانيا حوالي 50 مليون يورو دعمًا لمثل هذه الأبحاث.
وبالاعتماد على علوم المواد البوليمرية الذكية والفعالة كهربائيًّا، يمكننا إنتاج عضلات اصطناعية قوية ومتينة ومرنة، تساهم في إنتاج روبوتات متعددة الأرجل والأذرع، بحيث تركض بسرعة كبيرة، وتحمل أوزانًا، وتتسلق المنحدرات، وتغير شكلها، وتطير كالطيور، وتحفر القنوات كالسنجاب، وذلك كله بهدف استعمالها في الرحلات الفضائية المستقبلية. وساهمت مركَّبات ألياف الجرافيت/الكربون في ظهور جيل جديد من قطع الطائرات والمركَبات الفضائية، والمعدات الرياضية، وسيارات سباق “الفورمولا ١”، واليخوت، والأطراف الاصطناعية الخفيفة الوزن.
ويمتلك علم محاكاة الطبيعة التأثير الهام في تصنيع وتركيب المواد النانوية التي أحدثت ثورة هائلة في العديد من المجالات الحيوية، كالعمل على تصنيع روبوتات نانوية تُستخدم طبيًّا لاجتياز الحواجز الفسيولوجية (دم-دماغ) لمعالجة أمراض دماغية، وفي صناعة الحواسيب الإلكترونية.. وقد تم استثمار ومحاكاة خواص خيوط العنكبوت في التكنولوجيا النانوية عبر جهاز “الغزل الكهربائي”، من أجل صنع ألياف نانوية قوية وناعمة تستخدم في التطبيقات الهامة كالفلاتر والمرشحات.
الحوسبة العضوية، والهندسة المعمارية والطبية
مُدهشة الطرق المنظمة تلقائيًّا لحشرات النمل؛ فعندما تصادف الحشرات مصدرًا للطعام، تبتكر أقصر وأسرع الطرق لمستعمراتها. فكيف تبرع في ذلك رغم محدودية قدراتها الحسية يا ترى؟ بينما يقضي سائقو السيارات في بعض دول العالم سنويًّا نحو 39 ساعة في زحمة السير بسبب الإشارات المرورية العاملة وفق برنامج زمني ثابت ومحدد مُسبقًا، دون مراعاة التوزيع الآني ومتغيرات الكثافة المرورية.. أليس من الأفضل تطوير أنظمة ذكية تتأقلم مع الوضع المتغير؟ هذا وقد سعى العاملون إلى مبادرة “الحوسبة العضوية”، حيث قاموا في مدينة “دارمشتات” عام 2016، بتركيب إشارات مرورية ضوئية تستجيب بطريقة ذكية ومرنة لمتغيرات الكثافة المرورية. وفي مجال وسائل النقل، تؤدي تغيرات ضغط الهواء إلى مشكلات سلبية كلما عبر قطار من نفق، مما يتسبب في تذمر السكان من الصوت المزعج على بعد ربع ميل، الأمر الذي دفع إلى محاكاة انسيابية مناقير الطيور التي تصطاد الأسماك بسلالة دون جلبة، وابتكار قطار بواجهة طويلة مستوحاة من منقار الطيور.
وثمة بناية في “هراري-زيمبابوي” فيها نظام داخلي لمراقبة المناخ، مستوحاة من تلال النمل الأبيض؛ فثمة علاقة رائعة بين بنية تل النمل ودرجة حرارته الداخلية وتهويته. ولقد شاهد المهندسون وباحثو المواد في جامعة “كانساي” اليابانية، إمكانات في بنية فم البعوض، وتم ابتكار الإبرة الدقيقة التي تخترق الجلد، وباستخدام الضغط تحقق الاستقرار والانزلاق دون ألم.
وتُبدي ورقة زهرة اللوتس، تجعدات (ثنيات) وبلورات شمعية بارزة عن سطح الورقة مسببة خشونة سطحية ميكروسكوبية، وتلتصق الأتربة على سطحها بقطرات الماء، ثم بقوة النسيم العابر تتدحرج قطرات الماء والأتربة فيحدث التنظيف الذاتي، وطبقت هذه الآلية في صناعة الأقمشة والزجاج.
وتعامل البشر مع الطبيعة -البرية والبحرية- كمستودع صيدلاني هائل، فاستخلص منها الكثير، وسيظل يحاكيها فيما يسمى “الطب الأخضر”، وقاية، وعلاجًا، وتخديرًا. وثمة تطبيقات مستوحاة من الطبيعة الفسيولوجية لجسم الإنسان، مثل الحساسات الحيوية للتذوق والشم، حيث يتم تقليد الأنف واللسان البشري عبر ما يسمى “اللسان/الأنف الإلكتروني” التي تعمل كحساس لضبط البيئة المحيطة والمراقبة النوعية للأغذية، وتحليل أعراض المرضى، وتحسس العوامل الممرضة في أجسامهم ودمائهم، وتشخيص التعرض للمركبات الخطرة وتلوث البيئة.
ناقلات الحركة والمحركات النفاثة الطبيعية
تُبقي “ناقلات الحركة” (Gearboxes) والمحرِّكات النفَّاثة العالمَ في حركة مستمرة، فتعمل على تغيير السرعة في السيارات لينال الإنسان الفائدة القصوى من محرِّكاتها. بينما تتحلى الذبابة، بمغيِّر للسرعة ذي ثلاث سرعات متصل بجناحيها، مما يتيح لها تغيير السرعة وهي في الهواء.
وأثناء زيارته متحفًا، شاهد أحد العلماء صور ذبابة محفوظة في حجر الكهرمان، ولاحظ سلسلة من الشقوق في عيني الحشرة، ففكر أن هذه الشقوق ربما تساعد عينَي الذبابة على التقاط كمية أكبر من الضوء، وخصوصًا عند الزوايا المائلة. فبدأ هو وغيره من العلماء، بإجراء تجارب، فثبت أن ظنهم في محلّه، وسرعان ما شُرع بالتخطيط لصنع النمط نفسه على زجاج الألواح الشمسية، لتزداد الطاقة التي تولّدها هذه الألواح، وقد يلغي هذا التخطيط الحاجة لأنظمة التتبُّع المكلفة المطلوبة حاليًّا لإبقاء الألواح موجهة نحو الشمس. أما أعين “حشرة العث” (Moth) فضد الانعكاس والتوهج، حيث تستطيع هذه الحشرة تجميع أكبر كمية من الضوء دون انعكاس له، مما يحميها من مفترسيها. وتم محاكاة هذه الخاصية في تصنيع شاشات العرض المسطحة والمستوية، وعدسات الهواتف النقالة.
الإضاءة الحيوية الباردة
هل أتاك نبأ “الإضاءة الحيوية”؟ لن تصدق عينيك عندما ترى مخلوقات عجيبة تتنوع ما بين البكتريا، والفطريات، والطحالب، والعوالق، والسوطيات الدوارة، والرخويات، وشوكيات الجلد، والقشريات، والحشرات، والديدان الأرضية، وديدان النار، وأسماك القيعان، والمبتلع الأنقليس، والحنش.. وهي تتألق ذاتيًّا، وتضيء ضوءًا حيويًّا مرئيًّا. ولهذه الكائنات علم الإضاءة والإنارة الإحيائية (Bioluminescence)؛ حيث تملك القدرة الذاتية على إنتاج ضوء مرئي بألوان، كالأحمر والأزرق والأرجواني والأصفر المخضر، وفقًا للشوارد المعدنية الموجودة في خلاياها الضوئية. فلكل لون مصابيحه المميزة، وفترات نبضاته أو ومضاته الضوئية المستمرة والمتقطعة، أو السريعة والبطيئة.. مما يجعلها بمثابة الهوية الشخصية، ولغة التواصل بين أفراد النوع الواحد، فضلاً عن استعمالها في عملية التزاوج، وصيد الفرائس، والترهيب والدفاع عن النفس. وقد أغرى سحر هذا الضوء البارد، المشتغلين بالهندسة الوراثية للسعي الحثيث لإنتاج نباتات، حيوانات مضيئة ذاتيًّا تحاكي مثيلاتها الطبيعية.
إن التأمل في الكون وما فيه من مفردات، دائمًا ما يغمرنا بالدهشة والروعة والرهبة والتقدير. فمن الطبيعة اعتاد الإنسان سبر أغوار اكتشافاته واستلهام اختراعاته، لكن سيظل في جعبتها المزيد، وستبقى لغزًا حيًّا يثير السؤال تلوَ الآخر وتدعونا إلى التأمل والتدبر.
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.