وصفت بأنها “حمقاء غبية، وضعيفة الذاكرة، وكثيرة النسيان”. وربما شاع هذا بسبب “أراء بالية بأنها كائنات بدائية لم تتطور”، لكن تبين خطأ هذا الانطباع حيث “وُهبت” مقدرة علي العدّ، و”رُزقت” قيمة التعاون، واتضح أنها تقدر حيزها، وتجتاز متاهة تقع فيها. كما تستعمل أدوات، وتبتكر أساليب صيد حشرات، وتتذكر التفاصيل والأشياء والوجوه. فقد أوضحت دراسة عام 2013 ـ أعدها “كريستيان أغريلو” (جامعة بادوفا) أن”يُمكن لأفراد من أسماك “الغابي” حديثة الفقس اختيار/ انضمام لمجموعة تحتوي عدداً أكبر من بين مجموعتين. وقدرة صغار الأسماك على تعلم هذا التمييز بين مجموعتين غير متساويتين العدد يؤكد أن المهارات العددية، أو البعض منها، تظهر منذ الفقس”. وتمثل قدرة الأسماك على تقييم الأعداد أهمية لبقائها، إذ عادة ما تتفادى الأسماك عدوها الضاري بالانضمام لأسراب ضخمة العدد. كما تبين أنها إذا وضعت في بيئة مجهولة فإنها تفضل الانضمام إلى أسراب ذات عدد أكبر، واستنتجت الدراسة أن الأسماك لا تقل براعة عن الثدييات في تقدير أعداد الجماعات.
وإلى جانب مهارات عد وحصر المجموعات الأكبر.. اتضح وجود قيمة “التعاون” بين الأسماك وأقرانها من نفس النوع أو من أنواع أخرى، حيث تتعاون أسماك “الهامور” وأسماك “السلمون المُرقط” مع ثعبان البحر (مثل ثعبان موراي العملاق) لإخراج فريسة مختبئة في شقوق ضيقة، إذ تهزّ كل من أسماك “الهامور”، و”السلمون المرقط” رأسها لثعبان “الموراي” لتدعوه لمشاركتها صيد الفريسة. وفي دراسة أجريت عام 2014، أوضح مختصون أن “السلمون المُرقط” يتعلم ـ سريعأَـ كيف يختار أفضل ثعابين البحر مهارة في الصيد. وقد أجريت تجربة بوضع طعام ليس في متناول “السلمون المرقط”، وسرعان ما أدرك أنه بحاجة لشريك يعاونه في الحصول عليه، وقد نجح ـ مراراًـ في اختيار ثعابين البحر الأكثر مهارة في الصيد في مقابل الثعابين “قليلة الحيلة” في صيد الفريسة. ويقول “ألكسندر فيل غي” (جامعة كامبردج) ومُعد الدراسة: “هذه التجربة تؤكد أن بعض الأسماك، رغم صغر حجم دماغها مقارنة بذوات الدم الحار، تتمتع بقدرات معرفية تضاهي قُدرات القردة أو ربما تفوقها”.
تدرك حيزها
توصلت دراسة أجريت عام 2016 إلى أن الأسماك (منها أسماك الكهف العمياء في المياه العذبة) لديها قدرة كبيرة على إدراك الحيز/ المكان؛ إذ تستقبل المعلومات الحسية مثل ضغط الماء الساكن (الهيدروستاتي) لتتعرف على موقعها في حيز ثلاثي الأبعاد. وتشير “تيريزا بيرت دي بيريرا” من جامعة “أكسفورد”: “إن الأسماك يمكنها التعرف على الحيز ثلاثي الأبعاد، في الوقت الذي يواجه فيه كثير من الحيوانات على الأرض، بعض المشاكل في البعد الرأسي، وعلى عكس الفئران.. تستطيع الأسماك تقييم المسافة الرأسية بدقة، وتقدير العمق” وثمة إشارات “غير مؤكدة” على أن الأسماك لديها ما يشبه “خلايا المكان” التي اكتشفت لدى الفئران بـ “منطقة الحصين” في الدماغ، وهي عبارة عن خلايا عصبية تنشط حين يشغل الحيوان مكانًا محدداً في بيئته، وفي مواضع مختلفة، وهي تعد أساس الخريطة العصبية للفراغ المكاني لدى الثدييات. وتوجد لدى الأسماك “خلايا تحديد المكان” في منطقة من أدمغتها تقابل منطقة الحصين لدى البشر، وربما تستعين بها الأسماك لبناء “ذاكرة للفراغ” من حولها.
تحل لغز المتاهة
وفقاً لدراسة نشرت في فبراير 2017، تستطيع أسماك “الغابي” (يُقبل كثيرون على تربيتها في المنازل) الخروج بدهاء من متاهة مكونة من ستة تقاطعات متتالية. وبعد خمسة أيام من التدريب.. استطاعت أن تُحسّن من سرعتها في الخروج من المتاهة وتقلل من أخطائها. يقول “تيرون لوكون كسيكاتو” (جامعة “بادوفا” بإيطاليا) “إن أداء الأسماك كان مدهشًا، ويقترب من مستوى أداء القوارض والفئران التي من المتوقع نجاحها في مهام مشابهة لتأقلمها مع حياة الجحور التي تشبه المتاهة، على عكس الأسماك التي تعيش في بيئات مختلفة، ولم يتوقع تعلمها الخروج بهذه السرعة”. فلدي أسماك “الغابي” قدرات في التعرف على المسالك لأنها، إذا تُركت خارج الأحواض، ستعيش في جداول الأنهار المليئة بالعوائق
استعمالها أساليب مبتكرة لصيد الحشرات
يمكن للأسماك استخدام أدوات من البيئة، وهي مهارة تُنسب عادة للبشر وبعض الرئيسيات من الحيوانات، لكن أعدادًا كبيرة من الأسماك البحرية ذات الألوان الزاهية (كسمك اللبروس) تستعمل الحصي والصخور لتهاجم “قنفذ البحر”، وتكسره لتحصل على ما بداخله من لحم. وتُلصق أسماك “سيكلد”، و”أسماك السلور المدرع” بيضها بأوراق نباتات وصخور صغيرة لتنقلها إذا ما تعرضت أعشاشها التي تبنيها من الفقاعات للتهديد. ولعل الأعجب هو “ابتكار” السمك “رامي السهام القناص”The archer fish Spinner Fish والتي تنتمي لعائلة (Toxotidae) لاستخدام الماء كأداة قذف/ سلاح قنص. إذ تقذف السمكة دفقة من الماء من فمها (كمسدس الماء) لتُباغت بدقة الحشرات (عناكب وفراشات) المتواجدة علي أفرع الشجر القريب من سطح الماء، وتستعين في ذلك بانكسار الضوء، فالعجيب -وهي التي لم تدرس فيزياء الضوء- يمكنها تحديد موقع فرائسها، فسطح الماء يقوم بكسر أشعة الضوء ليجعل الأشياء تبدو في غير موضعها الحقيقي، مثلما يحدث عندما ننظر لشيء داخل كوب الماء، ومن ثم تُحدد المكان الذي سيسقُط فيه طعامه، ليلتقطه سريعًا قبل خصومه، وكل هذا في وقت لا يتجاوز 40 ميلي ثانية.
وقد برهن “ستيفان شوستر”، من جامعة “بيروث” الألمانية ولديه خبرة عريضة في دراسة “رامي السهام” على أن “صغار هذه الأسماك تتعلم طرق الصيد المعقدة بمراقبة الأسماك الأكثر خبرة، رغم أنها ليس لديها منطقة في الدماغ تقابل القشرة المخية التي ترتبط بالرؤية لدى الثدييات.. وأهم ما يميز هذه القرارات أنها تربط بين السرعة واتخاذ خطوات معقدة” ويؤدي هذا السمك رامي السهام عمليات حسابية لتحديد مسار الماء المقذوف لبلوغ الهدف، وهذا يُعد ضربًا من العمليات الرياضية في صورتها الفطرية، فضلاً عن تميزها بوجود تجويف ضيق أعلى فمها، تقوم بالضغط عليه بلسانها لتصنع قناة ضيقة، ثم تقوم بضم خياشيمها لتضغط الماء ليخرج في شكل قذيفة مائية يصل طولها لخمسة أمتار (في الأسماك البالغة)، هذه الأسماك قادرة على إصابة حشرات تبعد عنها ثلاثة أمتار! وهو معدل تصويب هائل نسبة لحجم هذه الأسماك التي يتراوح طولها ما بين 5-10 سم فقط!.
تذكر الأشياء
يمكن لـ”سمكة المياه العذبة الذهبية” تذكر الأشياء لمدة تتراوح ما بين ثلاثة – خمسة أشهر، ومعرفة الوقت، بطريقة بدائية؛ ففي دراسة أجريت عام 1994، درب الباحثون “السمكة الذهبية” على دفع رافعة صغيرة تعمل لمدة ساعة واحدة في مقابل مكافأة، وتعلم السمك الاستفادة من هذه الفرصة ليؤكد قدرته على مراقبة الوقت والتعلم والتذكر، ولم تثر هذه النتيجة استغراب مربي الأسماك الذهبية الذين يلاحظون أن أسماكهم تصعد إلى سطح الماء طلبًا للطعام في وقته المُرتقب. ويقول “فيل غي” (جامعة بليموث البريطانية)، ومُعد الدراسة “إن قدرة الأسماك على ترقب الطعام تميزها عن سائر الكائنات، وتدل على أن بعض صفاتها مغروسة فيها منذ أمد بعيد، ولدي كثير منها قدرة على استرجاع تفاصيل مرّ عليها وقت طويل”.
تمييز وجوه البشر
يُميز السمك “رامي السهام” وجوه البشر، وهي مهمة كانت تنفرد بها الرئيسيات، وتوصلت دراسة أجريت عام 2016 إلى أنها يُمكنها التعرف على وجه مألوف من بين 44 وجهًا، ودرب باحثون السمك على تمييز الوجه المألوف بإطلاق دفقة من الماء، واكتشفوا أنها استطاعت التمييز بمعدل 89 % من المرات. وتقول صاحبة الدراسة “كيت نيوبورت” (جامعة أوكسفورد) إن “قدرة السمك رامي السهام على تعلم هذه المهمة تدل على أن التعرف على وجوه البشر لا يتطلب بالضرورة أدمغة معقدة.
الدلافين أنموذج للذكاء
لطالما حيرت الدلافين العلماء بذكائها المدهش. فمن المعلوم أنها “كائنات اجتماعية” لها نظام اتصالات “صوتي/ سمعي” ليس له مثيل لدى الكائنات الحية، وتستطيع من خلاله التخاطب فيما بينها… كما تبتعد عن المخاطر، وتحدد الأبعاد والأشياء، والفرائس وسط ظلام دامس بنظام توجيه فوق صوتي يشبه “السونار” الذي تستخدمه السفن، والغواصات. واستغلت جيوش كبري هذه الموهبة لتدريبها على كشف/ إزالة الألغام البحرية كما تمتلك خصائص متفردة، وقدرات باهرة من ذكاء، وجاذبية، وتعاون، وتواصل، وبراعة في اللعب، وتقدير المواقف، وحل المشكلات، وطلب المساعدة عند الحاجة، وتنقذ كائنات أخرى كصغار حيتان العنبر التي تقذفها الأمواج للشاطئ،كما تنجذب إلى البشر، وتنقذهم، وتساعد صيادي الأسماك، وتتبع زوارقهم مقابل وجبات من الأسماك، بل وتجلب للبشر الهدايا التي تصطادها (ثعبان ماء أو أخطبوط أو حبار إلخ).
قياس مستوي ذكاء الأسماك
“الذكاء” مصطلح يشمل الخصائص المتعلقة بالقدرة على التحليل، والتخطيط، وحل المشاكل، وبناء الاستنتاجات، وسرعة التصرف، كما يتضمن القدرة على التفكير المجرد، وجمع وتنسيق الأفكار، والتقاط اللغات، وسرعة التعلم، كما يشمل المقدرة على الإحساس وإبداء المشاعر وفهم مشاعر الآخرين. فماذا عن ذكاء الأسماك، وكيفية قياسه؟
لقد اجتاز نوع من الأسماك الاستوائية (بحجم الإصبع البشري) “اختبار الوعي الذاتي” الذي يعد علامة رئيسة على الذكاء، وهو أحدث اكتشاف علمي يثبت ذكاء الأسماك، وتُعد السمكة الاستوائية الصغيرة “اللبروسية” قادرة على التعرف على انعكاسها في المرآة، مما يوحي بأن جزءًا من دماغها يدرك وجودها، وهي أول سمكة تجتاز “اختبار المرآة” وتنضم إلى قائمة حصرية تضم القردة العليا والفيلة والحيتان القاتلة والدلافين.
حيث قام باحثون -وفقًا لما نشرته صحيفة “ديلي ميل” البريطانية- في جامعة “ماسانوري كوهدا”باليابان، بوضع عشرة أسماك من نوع اللبروسية في خزانات فردية مع مرآة، فهاجمت سبعة من الأسماك صور المرآة خلال الأيام القليلة الأولى، فقد اعتقدوا أن هناك دخيل متطفل على الخزان، ثم بدأت الأسماك تتصرف بشكل غير عادي، وتندفع نحو المرآة وتؤدي رقصات أمامها. وقام الفريق بتحليل ذلك، بحقن هلام ملون على رؤوس ثمانية من الأسماك في بقعة لا يستطيعون رؤيتها إلا باستخدام المرآة، ثم أمضى سبعة من الأسماك وقتًا طويلاً في السباحة أمام المرآة في الأماكن التي تظهر على أفضل وجه، وقال الباحثون “إن بعض الأسماك حاولت إزالة هذه البقعة، وهم يجادلون بأن هذا يعني أن الأسماك اجتازت الاختبار بنفس الدرجة التي استخدمتها الأفيال في الدراسات السابقة. وكتب الباحثون في ورقتهم “هذا هو التقرير الأول عن نجاح اختبار البقعة في فقاريات غير الثدييات والطيور” وهم يزعمون أن “الوعي الذاتي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمهارات الاجتماعية لأحد الأنواع أكثر من ارتباطه بحجم الدماغ أو ارتباطه بالبشر، وكانت صغار القردة أول الحيوانات التي تجتاز هذا الاختبار، حيث هاجمت في البداية انعكاس صورهم قبل تغير سلوكهم تدريجيًا لتأقلمهم معها.
إن كثيرين يربون أسماك الزينة للتمتع بمشاهدتها عبر أحواض زجاجية، ولكن هل فكر أحد في أن أسماكه ذكية أم لا؟، وهل جرّب التفاعل معها؟، هل تيقن من تعلمها من العالم الخارجي (خارج حوضها)؟ ففي الدول التي تقييم مسابقات لمدربي الأسماك، بُجري متسابقون عرضًا ناجحًا عبر إعطاء “علامة/ إشارة/ وميض فلاش” عندما يحين موعد إطعام أسماكهم، وبذلك تربط الأسماك “ارتباطًا شرطيًا منعكسًا” بين الوميض والأكل، وتستطيع بعض الأسماك متابعة إصبعك عبر الزجاج كما درب أحد الهواة سمكته “ريد باروت” لتقفز (كالدولفين) لتلتقط الطعام من إصبعه.
والخلاصة: إنها هداية فطرة، وإرشاد خالق قدير، وتقدير عزيز عليم، وتعليم علام الغيوب،كي تؤدي هذه المخلوقات وغيرها، دورها على أنسب وجه، وأكمل سُنة وهداية.