يقول “أرسطو”:”إن التفكير مستحيل من دون صور”، وكذلك يصعب “كشف الحُجب” والتشخيص الدقيق للعلل والأدواء الجسمانية، دون صُور طبية. ولقد دشنت كاميرا التصوير الشمسي الفوتوغرافي (قديمها وحديثها) فصلاً شائقًا من فصول “عصر الصورة”، وتعد تقنيات ونتائج التصوير الطبي التشخيصي من الروعة بمكان؛ فهي تستظهر الكثير مما خفي داخل أجسامنا، مما يجعل الوصول لتشخيص دقيق، وعلاج سليم لما بأجسادنا من علل وأدواء، وأمورًا أكثر دقة ويسرًا وتطورًا، فكيف يحدث هذا؟
فيزياء طبية.. وفضاءات رحبة
عبر عقود.. تنامي التطور العلمي في مجال الفيزياء الطبية، وبخاصة فيزياء الأشعة التشخيصية، والموجات فوق الصوتية، والرنين المغناطيسي، والكهرباء الحيوية، والعلاج الإشعاعي، والطب النووي، والوقاية من الإشعاع (الفيزياء الصحية)، وأجهزة الليزر، والموجات الحرارية والعلاج الحراري مما جعل المجال خصبًا لنمو أفرع وتقنيات التصوير الطبي التشخيصي، ويتواصل علم الفيزياء الطبية مع علوم أخرى:”كالإلكترونيات الطبية” (استحداث وتطوير الأجهزة الطبية)، و”الهندسة الطبية الحيوية” (تطبيق مبادئ الهندسة في علوم الأحياء والطب)، و”الفيزياء الصحية” (ضبط جرعات الإشعاع والوقاية منه.
“أبو التصوير” الطبي
عمره يزيد عن مائة عام، وأدي ـ ومازال ـ دوره الجليل في خدمة البشرية، تم اكتشاف الأشعة السينية مصادفة، في أحد أيام نوفمبر 1895. عندما كان “فيلهلم كونراد رونتجين (1845-1923)” يكدّ في معمله بجامعة “فورتسبورغ” في ألمانيا باحثاً في موضوع هام “تفريع الغازات” -والعلم يبدأ بالملاحظة- فلاحظ “رونتجين” وجود “أشعة غريبة” تصدر عن “الآنود” عندما تصدم به “الأشعة الكاثودية”، وصنعت الأشعة “الجديدة” وميضاً على ورقة حساسة في التجارب. وكان واضحًا اختلاف هذه الأشعة عن الأشعة الكاثودية. فالأولى تخترق بدون قدر كبير من الامتصاص معظم المواد العادية كالخشب والزجاج وغيرهما (ماعدا المعادن الثقيلة). وعندما تمر عبر اليد “ترسم” علي الشاشة الفلورية ظلاً واضحًا لعظام اليد.. صحيحها وعليلها. وأطلق “رونتجين” عليها اسم “الأشعة غير المرئيةX-Ray”.
وأعاد تجاربه مراراً وفي 28/12/1895 حصل على أول صورة شعاعية ليد زوجته وبها خاتم زواجهما، ثم تابع وآخرون دراستها، ونشرت النتائج في ورقتين علميتين (مارس 1896، ومايو 1897). ونال “رزونتجين” جائزة “نوبل” في الفيزياء عام 1901 عن أعظم الاكتشافات العلمية. ففي مسح أجراه متحف العلوم في لندن (في الذكرى المئوية لإنشائه) عن أهم عشرة اكتشافات واختراعات علمية في تاريخ البشرية، تفوقت آلة الأشعة السينية (أشعة إكس) لتُعتبر “أعظمها عبر العصور”. ومن أصل خمسين ألف مشارك، اعتبر حوالي عشرة آلاف مقترع أن أشعة إكس هي الاختراع الأعظم على الإطلاق.
وأصبح علم الأشعة يدرس في مدارس الطب ابتداءً من عام 1907، وفي أواخر الخمسينات أحدث “التنظير الشعاعي”، و”الفحص التلفزيوني ذو البعدين” ثورة حقيقية في علم الأشعة. وعناصر الجسم الأساسية موضع عناية التصوير بالأشعة السينية هي: العظام، والأنسجة الرخوة (العضلات والأحشاء والأوتار والأنسجة اللينة الخ.. وصور الأشعة السينية عبارة عن ظلال لهذه العناصر الجسمانية، فالعظام توهن موجات الأشعة وتمنعها من الوصول إلى الفيلم الحساس فهي “معتمة” للأشعة، مما يجعل ظلها على الفيلم يظهر أكثر وضوحًا وباللون الأبيض، أما الأنسجة الرخوة فتوهن بعض الموجات، بينما ينفذ بعضها الآخر، فهي “نصف معتمة”، أما الغازات/الهواء فلا توهن الموجات وتنفذ من خلاله فهي “غير معتمة” لذا تظهر الأنسجة الرخوة والغازات/ الهواء بدرجات متفاوتة من اللون الرصاصي- الأسود.
وخارج نطاقها الطبي للأشعة السينية استعمالات أخري في الصناعة مثل: قياس سمك المواد والكشف عن عيوبها، وفي مراقبة جودة ونوعية السبائك المعدنية، وفي جودة القطع المستخدمة في السيارات والطائرات وغيرهما، وفي مراقبة وتصوير حقائب المسافرين عبر المطارات بحثًا عن معادن وأسلحة أو قنابل، كما تستعمل في دراسة الأجسام الصلبة وخصائص الجوامد والتركيب البلوري، (وجود تناظر معين في بعض أنواع الجوامد/ البلورات)، ومعرفة التركيب الذري للعناصر، في مجال الفن تستخدم الأشعة السينية للتعرف على أساليب الرسامين والتمييز بين اللوحات الحقيقية واللوحات المزيفة، فالألوان المستعملة في اللوحات القديمة تحتوي على كثير من المركبات المعدنية التي تمتص الأشعة السينية، وأما الألوان المستعملة في اللوحات الحديثة فهي مركبات عضوية تمتص الأشعة السينية بكميات أقل.
علي جانب آخر.. يوجد بعض الأضرار الصحية وفقاً لنوع الأشعة المستخدمة: تشخيصية أم علاجية، وجرعتها، ومكان ونوع النسيج المعرض لها (بخاصة الخلايا النامية)، وعمر الشخص، فعلي سبيل المثال خلال فترة الحمل الأولى، يفضل عدم تصوير الجنين شعاعيًا وإذا دعت الضرورة قد يُسمح بالتعرض للأشعة في حدود ضيقة في فترات الحمل الأخيرة للوقوف على نوع المشكلة. وبعد الولادة ينصح بتقليل التعرض الإشعاعي لعموم الأطفال لأن الخلايا في طور النمو واحتمالية تأثرها بالإشعاع كبيرة، وبالنسبة للبالغين هناك خلايا وأنسجة أكثر حساسية للأشعة من غيرها منها: خلايا الخصيتين والمبيضين، وخلايا الثدي، ونخاع العظام الأحمر في الضلوع والعظام المفلطحة ونهايات العظام الطويلة، وخلايا العينين وخاصة عدسة العين والقرنية. إن خطورة التعرض الشعاعي تكمن في وقف نمو هذه الخلايا أو إحداث تغييرات في العضيات السيتوبلازمية داخلها، مما قد يعرضها “لنمو عشوائي” وهو ما يعرف بالأورام السرطانية، ولتلافي هذه المخاطر هناك تقنيات خاصة ووسائل لحماية المرضى والمختصين من أخطار الأشعة مثل استخدام المحددات الرصاصية، والدروع الواقية، ومقاييس الجرعات التشخيصية.
التصوير بالأشعة المقطعية CT
التصوير بالأشعة المقطعية أحد تقنيات التصوير الطبى التي تستخدم الأشعة السينية لتكوين صورة ثنائية- ثلاثية الأبعاد لأعضاء الجسم الداخلية، يتم التقاط عدة صور تتميز بوضوح عالى، وتُظهر تفاصيل العظام بشكل دقيق، وتستخدم -بالأساس- في تشخيص الأورام الخبيثة والحميدة، بخاصة في المخ. كذلك تشخيص مشاكل العظام وبعض الأنسجة ذات الكثافة العالية؛ ففي العلل الصدرية يشكل التصوير الطبقي المحوسب الحلزوني تحسينًا إضافيًا أسرع، ويعطي صورًا لمقاطع متتابعة عبر الصدر تسمح بتمييز ثخانة المقاطع، وتقيم الكتل والعقيدات الرئوية، وتميز تسمك الجنب عن السائل الجنبي، وتحدد حجم القلب ووجود سائل أو سماكة تامورية، وتميز أنماط الإصابة في الداء الرئوي الخلالي، وتكشف وتمييز الكهوف، وتميز الأورام المخاطية، وتقيس امتداد وتوزع النفاخ الرئوي، وتكشف كتل العقد في المنصف، فضلاً عن تقييم الخثرة الدانية في الشرايين الرئوية. وتوجد أنماط من التكلس في العقيدات الرئوية (مثل قشرة البيضة أو تكلس البوشار) يمكن أن تستبعد وجود الخباثة والحاجة إلى إجراء عمليات تشخيصية جارحة.
وفي سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن المنصرم تم استحداث الأشعة المقطعية المحورية بالحاسب الآلي، كذلك إدخال وسائل تصوير جديدة منها غير الإشعاعي كالتصوير بالموجات فوق الصوتية، والموجات فوق الصوتية ذات التدرج الملون بظاهرة دبلر، والتصوير بالرنين المغناطيسي أواخر الثمانينات، ومنها الإشعاعي كالتصوير بالنظائر المشعة “الطب النووي”، وتعد تقنيات التصوير بالموجات فوق الصوتية والرنين المغناطيسي ليستا ذات طبيعة إشعاعية (خاليتان من أضرار التعرض الإشعاعي).
التصوير بالموجات فوق الصوتية
جانب آخر باهر من التصوير الطبي. ويعتمد علي إرسال موجات صوتية عالية التردد، وذات طاقة منخفضة إلي داخل الجسم، وتسجيل ارتداد الذبذبات بعد ارتطامها بالأعضاء الداخلية عبر حاسوب متطور، وبقياس زمن الذهاب والإياب تحدد أعماق النقاط وتكون صورة للأعضاء على شاشة العرض، ويعتمد التصوير بالموجات فوق الصوتية على مجسات خاصة، فلتصوير الأعضاء والأنسجة العميقة يوجد مجس بقدرة 3.5 ميجا هرتس، أما الأنسجة السطحية فلها مجسات ما بين 7.5 -10ميجا هرتس.
ولا ينشأ إشعاع خلال التصوير بالموجات فوق الصوتية والدوبلر لذا يكثر استخدامه في تشخيص الحمل وتصوير الجنين، وسلامته (شكل الجنين داخل الكيس، والنبض، وبداية تكوين المشيمة، وقياس عنق الرحم، وتحديد كمية السائل الأمنيوسى الخ). كذلك متابعة نموه (قياس الرأس، وعظمة الفخذ، والبطن، والوزن، وقياس كمية الدم في شريان الحبل السري، والأورطى وشرايين المخ ، ومعرفة جنس الجنين). والتعرف المبكر علي مشاكله الخلقية (ضيق الحالب، واتساع تجاويف المخ، وتكيس الكليتين، وثغرات العمود الفقرى– والأورام المبكرة). فضلاُ عن وضع الجنين قبل الولادة، وموعدها المتوقع.
وبقياس تغير تردد الموجات يمكن تصوير القلب أثناء الحركة، وقياس سرعة تدفق الدم في الأوعية وصمامات القلب وكشف الانسداد فيها، وتستخدم هذه التقنية لتصوير أعضاء في البطن، والحوض، والأعضاء السطحية، وداخل الكبد والكلى والطحال والرحم، وتقييم الأوعية الدموية من شرايين وأوردة داخل التجويف الباطني وفي الأطراف والرقبة.
التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)
وللتصوير بالرنين المغناطيسي استخدامات تشخيصية لدقته العالية في تصوير الأنسجة، دون التركيز على العظام، مما يساعد على تشخيص الأورام، وتقييم الإصابة العصبية والفقرية لدى مرضى أورام التليف العلوي من الرئة، وتشخيص وتقييم الانضغاط الوعائي. أما التصوير بالرنين النووي المغناطيسي فيعتمد على الخواص المغناطيسية الميكانيكية الكمومية لنواة الذرة، فجميع النوى الذرية التي تملك عددًا فرديًا من البروتونات أو النيوترونات يكون لها عزم مغناطيسي أصلي، وعزم زاوي، وأكثر النوى المستخدمة هي هيدوين-1 وهو أكثر نظائر الهدروجين توافرًا في الطبيعة، وكذلك الكربون-13 نظير الكربون الطبيعي، وهناك نظائر عناصر أخرى يمكن أن تستخدم لكن بنسبة أقل.
التصوير الطبي النووي
يتم استخدام مواد مشعة ذات عمر قصير تحقن بالدم ومتابعتها عندما تتركز في العضو المراد فحصه (كالقلب أو الكلى)، وحتى يتمكن الجسم من التخلص منها، ويقوم كاشف يدور حول الجسم بالتقاط الأشعة المنبعثة وتسجيل ما ينطلق منها، ثم يتم تجميع النقاط وتكوين صورة مقطعية، وإنتاج صورة تشخيصية دقيقة لبعض الأمراض، والكشف عن التغيرات المرضية والوظيفية للأنسجة الداخلية.