تاريخياَ.. شكلت “حركة” رأس المال، وتوزيع فوائض الدخل والجهد البشري، والتنمية الاقتصادية الحقيقية، والعدالة الاجتماعية أمورًا “شيبت” المعنيين، أمورًا دُشنت لها نظريات، وقامت عليها دول وتكتلات، وسببت تقلبات وثورات، وحروباً وصراعات. فكيف وضع لها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة حلولاً لتلك المعضلات، وعالج جوانبها في كلمات معدودات، وكثير من المعاملات؟. والمتأمل في نتائج “الخطط الإقتصادية الحديثة” يجد لم تحقق الانسجام بين “روح” الأمة، وخصوصياتها. فالتنمية الإقتصادية “الحقيقية” لن تتحقق إلا وفق قيم التكافل الاجتماعي وفق مبادئ منها: العفو والعدل والتقوى والإحسان الخ.
يقول تعالي:”..وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ”(سورة البقرة، الآية :219). ويقول جل شأنه: “خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ”(سورة الأعراف، الآية: 199). ولقد بين الله تعالي في هذه آية: ما هو المنهج القويم في معاملة الناس، فقال: “خذ العفو، وأْمر بالعرف”. فالحقوق التي تستوفى من الناس، إما أن يجوز إدخال المسامحة فيها، أو لا يجوز.
فالقسم الأول هو المراد بقوله: “خذ العفو”، ويدخل فيه ترك “التشدد” في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، وفيه أيضًا التخلق مع الناس بالخلق الطيّب، وترك الفظاظة. وأما الثاني: الذي لايجوز دخول المساهلة فيه؛ فالحُكم فيه أن يأمر بالعرف. وقيل: “خذ العفو”، أي: ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به عفوًا فخذه، ولا تسأل عما وراء ذلك، لذا فـ”العفو”: مقدار وكم من الإِمكانيَّات، وبيان لما كلف الله عباده إنفاقه في سبيل الله. أما “العفو” الوارد في آية سورة الأعراف فيشمل المال، وغير المال كالأخلاق.
“العفو”، و”الفضل” وهل يتمايزا عن “الفائض الاقتصادي”؟
وفي السُنة النبوية، جاءت لفظة “الفضل” شارحة لكلمة “العفو”. ومنها قوله صلي الله عليه وسلم: “يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تُمسكه شرٌ لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى”(رواه مسلم)
ويُقسم الفائض الاقتصادي إلى فائض محتمل أو مخطط، أو فعلي (كل ما يتبقى من الدخل، بعد سدّ الحاجات) وبذا يتفق إجمالاً من حيث تكوينه المادي مع “العفو” من المال. لكن يبقى “العفو” أكثر “شمولية”، لأنه يشمل إلى جوار “الفائض من الدخل”، “الفائض من الجهد البشري”، وهو لدى مجتمعاتنا أكثر أهميةً من الأول؛ ومن “شموليته” ما يجعل من “إدارته، وتوجيهه”، أمراً مُختلفاً عما يحدث مع الفائض الاقتصادي ذي الفائدة المحدودة. فمفهوم “العفو/الفضل”، غير مقصور على ما زاد من المال. وأمرت السنة بإنفاق الجهد والإمكانيات البشرية الفائضة عن الحاجة، فحكمهما كحكم المال الزائد؛ فالسنة أغنت عن القياس طريقًا لإثبات التكليف بإنفاق “العفو” من الجهد والإمكانيات البشرية.
ولعل دور الجهد البشري في بناء المجتمعات وتنميتها أكبر من دور “العفو” في المال، وبخاصة في المجتمعات التي تمتلك قدرًا كبيرًا من العمل، وقليلاً من المال، فالخير ليست وسيلته المال فقط.
مجتمعاتنا والجهد البشري
المسلم مُكلف ببذل فائض جهده ومنافع بدنه في إعانة وخدمة إخوانه وإصلاح مجتمعه، وهذه الطاقات الفائضة غير مباح تعطيلها أو تبديدها، وهو مسئول ومكلف بالبحث عن ميدان نافع لإنفاق “العفو” من جهده، ووقته، وقد يتمثل هذا في إعانة مادية: “تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق” أو”تعين الرجل في دابته” أو غيرها من الأعمال النافعة…
والعمل الاقتصادي من ميادين إنفاق العفو من الجهد البشري ليعود عليه بنفع مادي، وثواب آخروي، كما يعود على المجتمع بسد حاجة من حاجاته، ولما كان المسلم مطالبًا بإتقان العمل، والإتقان هنا يسري على “الهيئات، والجمعيات” التي تستطيع جمع الطاقات بما يجعلها أكثر إنتاجية. ومن ثم فتوجيه الفائض منها يحتاج لإقامة “هيئات مجتمعية وخدمية” تقوم بأعمال “فروض الكفاية” المجتمعية. فمثلاً: منظمة إعانة الصناع وتدريبهم، ورفع مستواهم، و”إعادة تأهليهم” موافقة لـ”تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق”، وهيئة للعناية بالطرق، وتنظيمها، ونظافتها: “تميط الأذى عن الطريق صدقة ” إلى غير ذلك من الهيئات والمنظمات والجمعيات التي يقيمها أفراد الأمة كي يتقنوا من خلالها أداء فروض الكفاية، والتي إن لم تؤد، أَثِم كل قادر على القيام بها، وكل قادر على الدعوة إليها، والإسهام فيها، ما لم يبذل جهده في هذا السبيل.
“العفو” من المال العيني
يمتلك الناس نوعاً هامًّا من المال يتمثل في أدوات الإنتاج والأدوات الحياتية اليومية، كالسلع الاستهلاكية، ودواب الركوب، والمنازل السكنية إلخ، وهذا النوع من المال كثيرًا ما يقتنى بما يربو على الحاجات الشخصية بل ربما يقتنى بعضه، ولا يستخدم إلا أيامًا محدودة، لذا يمثل جانبًا ضخمًا من جوانب “العفو” والإسلام يعمل على دفع المسلمين إلى تبين حجمه لديهم، وتقديمه إلى من هو في حاجة إليه؛ فتجدد منافعه، ولا تتبدد طاقته، بل يتولد عنه دخل ما لدي المنتفع الجديد به، وبالتالي زيادة حجم الإنتاج القومي من نفس الإمكانيات.
و”العفو” هنا يقدم في شكله التقليدي، أي المنفعة مع بقاء العين مملوكة لصاحبها، كما يتمثل “العفو” في ما كان فائض، مثل السيارة، يمكن تقديمها لمن هو في حاجة إليه من زملاء العمل أو سكان الحي، وبهذا يمكن سد جانب كبير من الطلب على وسائل الانتقال. كما قد يتمثل في قطعة أرض لا يحتاج إليها مالكها، ولا يجد من يزارعه عليها، أو يؤجرها له، فيقدمها لمن يحتاج إليها، ليقوم بزراعتها، ويبذل جهده عليها، مبتغيًا من فضل الله تعالى، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على تقديم هذا النوع من أدوات الإنتاج. كما أمر “عمر بن عبد العزيز”، رضي الله عنه عماله بأن يقدموا الأرض التي لا تجد من يزرعها بمقابل إلى من يستفيد منها بدون مقابل.
“العفو” مِنَ المال النقدي
النقود وسيلة للإشباع بالحصول على الطيّبات والأشياء، ولبناء الإمكانيات البدنية، والمال النقدي لا يسمح بحجبه عن الحقوق المقررة فيه، فإن حدث اعتبرت النقود كنزًا. فعلى المسلم القيام بكل الواجبات في المال من زكاة، وفروض كفاية. فإذا بقي مال كان مالاً مطهراً، لا يلام على الاحتفاظ به.