في مؤلَّف بعنوان “المسلمون الجدد: المهتدون إلى الإسلام” صادر عن منشورات لافورو الإيطالية، تناول عالم الاجتماع الإيطالي “ستيفانو أَلِيافي” -بالبحث والتحليل- ظاهرة التحول الديني إلى الإسلام في الغرب المعاصر. وهي ظاهرة لافتة تمسّ شرائح اجتماعية متنوعة، حيث يرصد الباحث مختلف أشكال الاهتداء؛ من الاهتداء البراغماتي بقصد الزواج، مرورًا باهتداء “البزنس” كما يطلق عليه بغرض تيسير الأشغال والأعمال، إلى الاهتداء الروحي المتعطش إلى اليقين، وغيره من ضروب الاهتداء. والمفكر الفرنسي “رينيه غينو” (René Guénon) (1886-1951م)، الكاثوليكي المنشأ -تلقى تعميده بعد شهرين من مولده- أحد هؤلاء الذين سلكوا طريق الروح للولوج إلى عالم الإسلام بعد مسار حافل بالتجوال بين مختلف أنواع التقاليد الروحية الكونية، إلى أن انتهى به المطاف عند التقليد الروحي الإسلامي الذي وجد فيه ضالته. وطريق الروح طريق وعرٌ مليءٌ بالبروق الخادعة، كما وصف تشعّباتها أبو حامد الغزالي في “المنقذ”: إن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطُّرُق، بحرٌ عميقٌ غرق فيه الكثيرون، وما نجا منه إلا الأقلّون.
أزمة المعنى في الغرب
فمنذ عهد الصبا بدأ “غينو” في التردد على الجمعيات الباطنية والأخويات الروحية، تحت دفْعِ قلق عميق يسكنه، حتى تسنّى له تأسيس كنيسة غنوصية بالمعنى الروحي والفكري، أطلق عليها رفقة صحبه “الكنيسة الغنوصية”، وقد زاد ولعه بعالم الروحانيات والأسرار مع توالي السنين. فكان انضمامه في مرحلة أولى، إلى تجمعات غنوصية وماسونية متنوعة ذات منزع باطني حتى بات أحد أقطابها في فرنسا. مرّ أثناءه بترقٍّ وتدرّجٍ في هذه التنظيمات، من مريد متحمّس إلى “غورو” منظّر، ومن مراجِعٍ إلى منتقدٍ فمتمرّدٍ على الماسونية وما شابهها من تنظيمات الأسرار، خالصًا إلى الإقرار بما انحدرت إليه وكالات المقدّس من تدهور فعلي وعملي، من مذهب للبناء الحر إلى انغلاق داخل سجن الأسرار. يقول في كتاب “الغنوص”: “يتعذّر الجمع بين مذاهب متباينة وحشر الجميع تحت مسمّى واحد ألا وهو الروحانية؛ وسائر هذه العناصر لا يمكن أن تشكّل عمارة متناسقة ثابتة. والخطأ في مجمل تلك المذاهب الروحية المزعومة، أنها ليست سوى هياكل مادية معروضة في قالب راق”. إذ حصلت لديه قناعة أن التجمعات الباطنية لا تحوي أية تعاليم، لما تدفع إليه أعضاءها نحو أشكال زائفة من الروحانية غير متناسقة وتفتقر إلى الأسس.
في زمن كان فيه العالم الإسلامي يشهد انهيارًا مريعًا، كان “غينو” يبحث عن روح الإسلام النقية…
ولكن “غينو” يبقى وليد عصره المشوب باللايقين، فقد شبّ في زمن شهدت فيه المرجعية الدينية المسيحية تراجعًا وانكماشًا؛ دبّت النسبية في الاعتقادات، مع اعتداد بالعقل وهيام بالعقلانية، مصحوبَيْن برؤية وضعية للكون والعالم. مع ذلك لم يجد المنزع الوضعي هوى لديه، وهو ما كان يمثّل موضة حينها، وقد بلغ مداه في وجودية شريدة. فقد كانت أزمة الغرب بالنسبة إليه، هي أزمة روح قبل أن تكون أزمة عقل. صحيح أن الغرب قد أضحى معتدًّا بعقلانيته ووضعيته، ولكنه في الآن بات خاوي الروح كئيبًا؛ إذ ثمة تحررٌ للإنسانية على مستوى العقل رافقه إنهاك لروح الفرد. لكن في خضمّ هذا البحث عن روح العالم وجوهره مع “رينيه غينو”، ما كان الانفتاح على التراث الروحي العالمي قطيعةً مع الإرث الكاثوليكي، بل إدراكًا لضمور المعنى داخل هذا التراث، وما كان رفضًا للمسيحية بل إيمانًا منه بأن الرأسمال الروحي يتوزع بالتساوي بين أديان شتى.
فقد عرَف جِيلُ “غينو”، الذي شهد الحربين، اهتزازًا قويًّا تجلى بالفعل في أزمة وجودية حادة. وبات ذلك الجيل يدرك إدراك اليقين أن تلك الأزمة عميقة، ومن هنا تسرّب الشك وعمّت النسبية. وكان “غينو” غالبًا ما يردد “في ذواتنا فقط يمكن العثور على مبادئ هذه المعرفة وليس في مواضع خارجية”. وضمن هذا السياق التاريخي جاء الانفتاح على روح الشرق بعيدًا عن الاستشراق الاستعلائي. فكان محامي الشرق في زمن، بلغ فيه الاستشراق شأوًا بعيدًا في التحقير والاستهانة بحضارات عريقة استند إليها الغرب الحديث في نهضته.
الإسلام الروحي يغري الغرب
والجلي في الغرب الحديث، أن المدخل الروحي الإسلامي بات أعلاها مقامًا وأبرزها نشاطًا -وربما أيسرها- في تشوّف الغربي المسيحي، أو اللاأدري أيضًا، إلى الحاضنة الروحية الإسلامية، بعد أن باتت القنوات الأخرى شبه مسدودة إن لم نقل مشبوهة بفعل عوامل عدّة. ويتضح من متابعتنا لظاهرة التحول في أوساط الغربيين نحو التقاليد الدينية الشرقية عامة -ولا سيما منها البوذية والطاوية والإسلام- أن الغربي لا ينجذب للمؤسّسة الدينية المغايرة برمتها، بل غالبًا ما يغريه مجال بعينه يجد فيه ضالته. يقول الفرنسي “فريدريك لونوار” في دراسة له عن أشكال التدين الحديث في الغرب، ضمن “موسوعة الأديان” (1997): “إنها الطرق الصوفية أساسًا التي تجذب الغربيين، وأشهرها حركات الدرويش الدوّار برقصته الدائرية الذائعة الصّيت، التي تؤدّي بالمريد إلى معانقة الوجد الرّوحي، حيث تعرض الرياضة الروحية نفسها بكونها روح الإسلام. وبوجه عام تغري تعاليم الصوفية الغربيين المجذوبين بموجب خاصيات ثلاث: السهر على تبليغها من طرف معلّمين روحيين عارفين، عدم إهمالها حركات الجسد المشفوعة بالتراتيل الروحية، وتجمعاتها المتحمسة والنشيطة”.
ما يميز المسار الغينوي في التحول نحو الإسلام، هو الرصانة والتأمل والتريث، وهو ما يختلف مع التحول على عجل، الذي غالبًا ما يعقبه رحيل نحو معتقد آخر أو انحراف.
لذلك نجد الإسلام الروحاني هو الوجه الأكثر إغراء خارج العالم الإسلامي، ويكفي أن نلقي نظرة على ترجمة النصوص الإسلامية إلى اللغات الغربية حتى نجد الأدب الصوفي في صدارتها. وبشكل عام يمكن اعتبار الكَلَف بالتصوف في الغرب من حيث الدراسة والمتابعة، هو بمثابة الموضة، ناهيك عن أن ذلك التعاطف مع التصوف يأتي بوصفه ضحية الأرثوذكسية الإسلامية بوجهيها السني والشيعي. تذكي ذلك الجمعيات الروحية والصوفية الناشطة في الغرب، وهو ما لا ينعم به الإسلام السياسي الذي غالبًا ما يثير النفور. علاوة يتميز الإسلام الطُّرُقي في الغرب بالعمل في صمت، على خلاف الإسلام المؤسساتي الذي تصحب عمله الضوضاء. مع أن هذا الإسلام الطرُقي أوروبي، ويتكون أساسًا من المهتدين، في حين أن الإسلام المؤسساتي -وعلى خلافه- يتكون من مسلمين من أصول مهاجرة، سواء أكانوا من الجيل الأول أو الثاني أو الثالث.
ففي التاريخ الحديث، غالبًا ما يكتشف الغربيون المهتدون الإسلامَ عبر إسلام الزوايا والطرق، لتميّزه بالألفة والبساطة والعفوية والمحبة، في مجتمعات طاحنة لروح الفرد وحياته. فيجتمع “الحيارى” حول ما يفتقدون إليه جميعًا، حول ذواتهم المهزوزة في مجتمعات تناست روحها. والطرُق الصوفية عامة، يمكن أن تكون فضاء ثقافيًّا إيجابيًّا، ويمكن أن تتحول إلى شكل للضلال والانحراف كما يقول الباحث “ستيفانو ألِيافي”.
فقد روى لي يومًا كاتبٌ جزائري أقام سابقًا في فرنسا، له اهتمام بالتصوف والمتصوفة، أن جل الدارسين الغربيين لتراث الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، غالبًا ما يقعون في أسره ويكتشفون الإسلام من بابه. في واقع الأمر أن بعض الفلاسفة والشعراء والمتصوفة، لهم سطوة وسحر على قرائهم، نجد ذلك مع “هايدغر” و”نيتشه” و”ابن خلدون” و”ابن عربي”، ولا يجد القارئ محيصًا منهم، حيث لا يلتهم القارئ أعمالَهم، بل يلتهمونه هم بأرواحهم. و”رينيه غينو” من هذا الصنف الآسر في الغرب، لا سيما في أوساط المولَعين بالدراسات الروحية ودراسات الأديان، وربما ذلك ليس له ما يضاهيه في الأوساط العربية أو الإسلامية. ولعل بعض الشوائب قد أبقت عبد الواحد يحيى (غينو سابقًا) خارج الاحتفاء به من قبل الإسلام النهضوي أو الإسلام الإحيائي عامة، لكون الرجل باطنيًّا وماسوني المنشأ، مما أبقاه في دائرة المشبوهين.
بحثٌ عن روح الإسلام النقية
في السيرة المدوَّنة من قِبل “بول شاكورناك” “حياة “رينيه غينو” البسيطة” يقول: “نحن بصدد الحديث عن شخص يتعذّر تصنيفه، فليس ثمة أي لقب من الألقاب السائدة يمكن أن ينطبق عليه. والمتمعّن في كتابات “غينو” ومقالاته يدرك يقينًا ذلك، فلا هو بالفيلسوف وإن درَس ودرّس الفلسفة (كان ذلك في مدينة سطيف في الجزائر سنة 1917)، ولا هو بالقائل بالمذهب التيوصوفي، وقد محّص تقاليد من سبقه ومن جايَلَه، ولا هو بالمستشرق مع إلمامه بتفاصيل الشرق بشكل مدقق، ولا هو بالحداثي أو التراثي وإن شغلته وقائع الإنسان قديمًا ومصائره حديثًا. إن عبدالواحد يحيى (رينيه غينو) خارج تلك التصنيفات، وهو بالفعل إنسان رباني باحث عن معراج ملكوت النور طلبًا لوجهه تعالى، وقد شاء القدر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في أرض مصر، وهو يردد اسمه جل شأنه “الله.. الله”.
ففي زمن كان فيه العالم الإسلامي يشهد انهيارًا مريعًا، كان “غينو” يبحث عن روح الإسلام النقية، وما كانت معرفة الرجل بالتراث الروحي الإسلامي والهندي، متأتية من تأمل في المدونات والمتون فحسب، بل باحتكاك مباشر بمن يكابدون في طريق العشق. كان يطوي المعارف طيًّا وتقاليد الأديان في قبضته، فقد يسّر له إلمامه باللغتين العربية والسنسكريتية ذلك، فضلاً عن إتقانه اللاتينية والإغريقية والعبرية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية والروسية والبولندية. يسّر له ذلك التعدد اللغوي، سُبلَ المقارنة والمقابلة بين العقائد والمفاهيم. ولذلك مما يميز المسار الغينوي في التحول نحو الإسلام، هو الرصانة والتأمل والتريث، أي النضج على نار هادئة كما يقال، وهو ما يختلف مع التحول على عجل، الذي غالبًا ما يعقبه رحيل نحو معتقد آخر أو انحراف.
(*) أستاذ بجامعة روما / إيطاليا.