نالت العلوم العقلية اهتمام العرب والمسلمين منذ نهايات القرن الثاني الهجري، بعد ازدهار حركة الترجمة والاطلاع على معارف الشعوب التي دخلت الإسلام، وساهمت بدورها في تياره الحضاري العام؛ فازدهرت علوم الرياضيات والهندسة والفلك والطب والصيدلة، بل أصبح للحضارة الإسلامية سبقها وتميزها، وهو ما شهدت به الحضارة الإنسانية في عالمنا المعاصر. وقد نبغ في مجال الرياضيات: الخوارزمي، فأسس علم الجبر، ثم جاء من بعده علماء ساهموا بدورهم في إضافة لبنات في صرح هذا العلم، الذي أصبح إسلاميًّا خالصًا. ومن أبرز هؤلاء العلماء: شجاع بن أسلم المصري؛ الذي قال عنه “سميث” في كتابه تاريخ الرياضيات: “هو وحيد عصره في حل المعادلات الجبرية، وفي كيفية استعمالها لحل المسائل الهندسية”
“الحاسب المصري” حياته وعصره
هو “أبو كامل شجاع بن أسلم بن محمد بن شجاع المصري” (236- 318هـ / 850 -930م) عالم رياضي كبير، اتجه في بداية حياته العلمية لتحصيل العلوم الشرعية، فنبغ في علوم الحديث والفقه، ثم انكب على علم الجبر والهندسة والتنجيم فبرع فيها، وذاع صيته أيام الدولتين الطولونية والإخشيدية حتى عُرف بـ”الحاسب المصري”. وقد أهله نبوغه العلمي للقرب من “أحمد بن طولون”؛ مؤسس الدولة الطولونية، وعمِل كمستشار له؛ حيث اختصه بالنظر في تدعيم وتطوير الأسطول الحربي لدولته الفتية،ولم تذكر عنه المصادر العربية القديمة ما يزيل الغموض المحيط بتاريخ حياته. جاء في كتاب (أخبار العلماء بأخبار الحكماء): “وكان فاضل وقته، وعالم زمانه، وحاسب أوانه. وله تلاميذ تخرجوا بعلمه”، وذكره ابن النديم في (الفهرست) ابن حجر في (لسان الميزان)، ويعتبر من أعظم علماء الحساب في العصر الذي تبع عصر الخوارزمي.
صنو “الخوارزمي”
اطَّلع “أبو كامل” على كتب “محمد بن موسى الخوارزمي” (ت: 235هـ/850م) وأشاد بها وتتلمذ عليها، ونهج منهجه في حل المعادلات الجبرية ذات الدرجة الثانية وأدخل تحسينات على طريقة الحل مع الإيضاح لبعض النقاط الغامضة، ولقد أوجد الجذرين الحقيقيين للمعادلة الجبرية من الدرجة الثانية في حين أهتم “الخوارزمي” بالجذر الحقيقي الموجب. كما أنه طور طريقة ضرب وقسمة الكميات الجبرية، إضافة إلى ما قدمه من عمل رائع في جمع وطرح الأعداد الصم. فلقد اهتم “أبو كامل” بالجانب النظري في علم الجبر أكثر من معلمه “الخوارزمي”، فكان أول من شرح المعادلات الجبرية التي هي أعلى من الدرجة الثانية بوضوح تام حتى لقب بـ”الأستاذ”.
كما استخدم الكلمات بدلاً من الأرقام العربية في المسائل الجبرية، ويذكر “ابن خلدون” أن “أبا كامل المصري” استفاد من حلول الخوارزمي لكثير من المسائل الجبرية، وكذلك أوضح في مؤلفاته مسائل كثيرة حلّها بطريقة مبتكرة لم يسبق إليها. فكان يستعمل في حل المسائل الجبرية الحيوانات والسيوف والرجال والنساء والأطفال. كما كان يعطي لمسائله حلولاً كثيرة، مثال: “دفع إليك مائة درهم فقيل لك: ابتع بها مائة طائر من حمام وبط ودجاج، فإذا كانت كل بطة بدرهمين، والحمام كل ثلاثة بدرهم، والدجاج كل اثنين بدرهم، فكم تشتري من كل نوع؟”.
أفرض أن الحمام = س، الدجاج = ص، البط = ع
اشتري من الحمام عددًا قيمته 3/س درهم.
اشتري من الدجاج عددا قيمته 2/ص درهم.
اشتري من الباقي 100- (3/س) – (2/ص) درهم.
إذن يمكن التعبير عن قيمة كل منها بالمعادلة التالية:
ع + س + ص = 100،
ع = 100 – س – ص
كما عكف “أبو كامل” على دراسة الأشكال الهندسية في محاولة لمعرفة مساحاتها وحجومها. وكان “شجاع” ذا دربة وعلم ودراية، وفاضل عصره وعالم زمانه، وفذاً في حلّ المعادلات الجبرية، وفي استعمالها لحلّ المسائل الهندسية.
مؤلفاته
له العديد من المؤلفات والمصنفات منها كتاب “كمال الجبر وتمامه والزيادة في أصوله” ويعرف بكتاب “الكامل”، ويقول عنه “صالح زكي”: “إن هذا الكتاب لأبي كامل في الجبر، وأن المؤلف اّدعى أنه ألف الكتاب لإكمال نقصان كتاب محمد بن موسى الخوارزمي، وقد بين فيه أن للخوارزمي فضلاً في تقدم الجبر”. وله كتاب “الوصايا بالجبر والمقابلة”، ويقول عنه صاحب “كشف الظنون”: “قال أبو كامل شجاع بن أسلم في كتاب الوصايا بالجبر والمقابلة: ألفت كتابًا معروفًا بكمال الجبر والزيادة في أصوله، وأقمت الحجة في كتابي الثاني بالتقدمة والسبق في الجبر والمقابلة الخوارزمي، والرد على ما ذهب إليه “أبي بردة”، ينسب إلى عبد الحميد الذي ذكر أنه جده، ولما بينت تقصيره وقت معرفته بما ينسب إلى جدِّه، رأيت أن أؤلف كتابًا في الوصايا بالجبر والمقابلة”، وكتاب “الجمع والتفريق” ويبحث في قواعد الأعمال الأربعة، ولاسيما فيما يتعلق بالجمع والطرح، وكتاب “الخطأين” ويبحث في أصول حل المسائل الحسابية بطريق الخطأين، وكتاب “المساحة والهندسة والطير”.
وله دراسات عن الإشكال الخماسية وذوات الإضلاع العشرة ضمنها رسالته في “المخمس والمعشر” (النسخة اللاتينية بباريس، والترجمة الألمانية بقلم “سوتر”، والنسخة العبرية بميونخ، والترجمة الإيطالية بقلم “ساكردوت”)، وكتاب “الكفاية”، وكتاب “مفتاح الفلاح”، وكتاب “الوصايا بالجذور”، وكتاب “الشامل في الجبر والمقابلة”، وكتاب “الطرائف في الحساب” (بقي مخطوطاً بالعربية، وتحتفظ مكتبة “ليدن” به ، رقم 1001، الأوراق 50 وجه- 58 وجه ، وترجمه وعلق عليه سوتر عام 1910-1911).
وكتاب “الجبر والمقابلة” ويقول أبو كامل في مقدمة هذا الكتاب: “إن كتاب محمد بن موسي المعروف بكتاب الجبر والمقابلة، أصحها أصلاً وأصدقها قياسًا، وكان مما يجب علينا التقدمة والإقرار له بالمعرفة والفضل إذا كان السابق إلى كتاب الجبر والمقابلة والمبتدئ له والمخترع لما فيه من الأصول التي فتح الله لنا بها ما كان منغلقا وقرب ما كان متباعدًا وسهل بها ما كان معسرًا، ورأيت فيه مسائل ترك شرحها وإيضاحها ففرعت منها مسائل كثيرة يخرج أكثرها إلى غير الضروب الستة التي ذكرها الخوارزمي في كتابه. فدعاني إلى كشف ذلك وتبيينه، فألفت كتابًا في الجبر والمقابلة ورسمت فيه بعض ما ذكره محمد بن موسى في كتابه وبينت شرحه، وأوضحت ما ترك الخوارزمي إيضاحه وشرحه”.
تلاميذه
انتشرت مؤلفات “شجاع بن أسلم”، فاعتنى بها علماء الرياضيات المسلمين ووضعوا لها الشروح، ومن أشهر هؤلاء: “علي بن أحمد العمراني الموصلي” (توفي سنة 344هـ/955ـ 956م)؛ حيث ألف كتابًا أسماه (شرح كتاب الجبر والمقابلة لأبي شجاع بن أسلم)، وكان “أبو الحسن بن داود بن بابشاذ المصري” ممن تأثروا بمؤلفات “شجاع” وأفادوا منها في مؤلفاتهم في علم الجبر والمقابلة. من أشهر تلامذته العالم والشاعر “عمر الخيام”.
وهكذا كان لمدرسة “ابن أسلم” في علم الجبر والهندسة إسهامها الواضح في تطور علم الرياضيات وفروعه، وقد ترجمت مؤلفاته لعدة لغات منها الأسبانية والعبرية والألمانية واللاتينية.. الخ فأفاد منها الغرب والحضارة الإنسانية، وظلت مراجع معتمدة لعلماء أوروبا والدارسين في القرن الثالث عشر وحتى السابع عشر. ومن المؤكد أن علماء النهضة الأوروبية الحديثة تأثروا بمؤلفاته، خاصة العالم الرياضي الايطالي “ليوناردو البيزي / فيبوناشي” Fibonnaci L.، وكانت أعماله هي الأساس الذي بنى عليه هذا العالم الشهير كتبه وأعماله الرياضية مما جعلهم يشيرون إلى أنه أحد كبار علماء الجبر في العصور الوسطى.