من المعروف أن الإحسان هو شرط من شروط صحة الإيمان والإسلام معًا، لأن التلفظ بالشهادتين والقيام بالعبادات المفروضة من غير إخلاص يبقي الإيمان ناقصًا، ولكي يكتمل هذا الإيمان لا بد أن يكون المسلم محسنًا، لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)(النحل:128).
للإحسان درجات وأنواع، ومن إحسان المسلم إلى المسلم “جبر الخواطر”، والجبر معناه “إصلاح الكسر”، فما يجبر إلا كسير، فيقال “جبر الفقير” و”جبر اليتيم”، ومعناه كفاه حاجته وأصلح حاله وأحسن إليه، ويقال “جبر بخاطره”؛ أي أجاب طلبه عزاه وواساه في مصيبة حلت به وأزال انكساره وأرضاه. وجبر الخواطر عادة ما يكون لأمور معنوية تكشف عن معاناة، تسبب بها قريب أو بعيد أو حتى حبيب. وقد يكون جبر الخواطر في كلمة، وقد يكون في حصول مبتغى أو مواساة، أو تخفيف لمعاناة، أو لمسة عطف وحنان على شعر يتيم -مثلاً- أو دعوة صادقة من القلب.
الإنسان الأناني لا يجبر سوى غروره لأنه لا يرى سوى نفسه، والإنسان الذي لا تعنيه سوى مصلحته، يجبر الخاطر على قدر المصلحة التي تعود عليه
جبر الخواطر ثقافة مجتمعية كانت متداولة منذ القدم، كان الناس يستعملونها بالفطرة الإنسانية.. فما أجمل من أن تجد مَن يحس بإنسان، بل يترجم هذا الإحساس إلى كلمة طيبة تطيّب خاطره وتجبره برفع الظلم عنه، وتمد يد العون لمساعدته.. كل هذه الأفعال تعتبر مثالية ذات إحساس مرهف وأخلاق حميدة تنبع من إنسانيته. لكن أصبحت هذه الثقافة مجهولة الآن لكثير من الناس، حيث أنساهم لهو الحياة الدنيا عادات وأعرافًا كانت موجودة.
فالعلاقة الزوجية -مثلاً- حين يحدث فيها خلاف، لا يسارع بعض الأزواج إلى تطييب وجبر خواطر أزواجهم، فيمنعهم كبرياؤهم من تقديم الاعتذار، وهذه ثقافة خاطئة تربينا عليها، أو جهلنا بثقافة فطرنا عليها، ونسينا أننا بكلمة طيبة بسيطة نطفئ نار الكراهية، ونرقق القلوب المتحجرة. فلا بد من استرجاع ثقافة جبر الخواطر ومحو أمية من يجهلها، وجبر خواطر الزوجة والأهل والصغير والكبير.. وعدم التخلي عن مكسور الخاطر أو الاستفراد به، واستغلال ضعفه أو فقره، بل وتقديم المساعدة له حتى ولو بالحيلة لتجنب إيذاء وجرح مشاعره.
ومن المأثور من جبر الخواطر أن سيدة كانت تزور امرأة فقيرة لكنها متعففة، فلجأت السيدة الغنية للحيلة كي تعطي هذه المرأة ما تحتاجه من مواد تموينية، فادعت أنه يأتيها كل شهر مواد تموينية كثيرة من أهل الخير يفيض عن حاجتها، فعرضت عليها قسمة ما يأتيها كل شهر بينهما، كي لا تفسد هذه السلع. أي أن السيدة الغنية ادعت الفقر كي تستطيع مساعدة المرأة الفقيرة المتعففة، وحين سألها ابنها: لِمَ فعلت هذا يا أمي؟ وقد كان بإمكانك مساعدتها بدون وصمك بالفقر، وقالت: جبر الخواطر على الله يا ولدي. في هذه القصة القصيرة يجتمع جبر الخاطر مع الصدقة، لذا قيل”جبر الخواطر صدقة”.
عندما ننتقل إلى قيم الإسلام، نجد أن جبر الخواطر يصنف كعبادة جليلة دعا إليها الإسلام قرآنًا وسنة. ونادى السلف الصالح بالتمسك بها والحفاظ عليها، لأنها تنحدر من جينات الأخلاق الحميدة، وهو أدب رفيع لا يتحلى به إلا أصحاب القلوب النبيلة والأخلاق الراقية.
يكون جبر الخواطر بابتسامة، أو نظرة حانية، أو لمسة حنان، أو كلمة طيبة تدعم المجبور وتقويه، فهو رحمة وحنان للصغير، وتوقير للكبير واهتمام به.
جبر الخواطر في القرآن الكريم
لقد جعل الإسلام للمطلقة متاعًا، فإذا لم يفرض لها مهر كان المتاع واجبًا على المطلِّق، وإذا كان لها مهر أخذته وأخذت معه ما تتمتع به من ثياب أو حليّ، وعلة ذلك أن قلبها قد أصابه تصدع من جراء هذا الطلاق، فجعل الإسلام متاعها جبرًا لخاطرها وبرءًا لجروحها، يقول تعالى: (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوف)(البقرة:236)، ويقول أيضًا: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً)(الأحزاب:28).
كذلك جعل الإسلام “الدية” جبرًا لخواطر أهل من قُتل خطأ لتطيب نفوسهم ويسكن ثأرهم. يقول “ابن قدامة” رحمه الله: ومن توجيهات الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)(الضحى:9-10)؛ فكما كنت يتيمًا يا محمد فآواك الله، فلا تقهر وتذل هذا اليتيم، بل طيب خاطره وأحسن إليه وتلطف به وعامله معاملة حسنة. كذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن نهر السائل وتقريعه، بل أمر بالتلطف معه وتطييب خاطره حتى لا يجمع بين ذلّين؛ النَهر والسؤال.
جبر الخواطر في السنة النبوية
ذكرت العديد من الروايات والأحاديث جبر الخواطر حين ينكسر القلب من جراء مصيبة أو بلاء ينزل بصاحبه؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لقيني رسول الله فقال لي: “يا جابر ما لي أراك منكسرًا؟” قلت: يا رسول الله، استشهد أبي، قتل يوم أُحد وترك عيالاً ودينًا، قال صلى الله عليه وسلم: “أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟” قال: قلت بلى يا رسول الله، قال: “ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا فقال: يا عبدي تمن عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب جل وعلا :إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون” (رواه الترمذي).
وفي رواية أخرى كان عليه الصلاة والسلام يطيّب خواطر هؤلاء الذين أثقل كاهلهم “الدَّين”، ولا يجدون ما يواجهون به مهمات الحياة ووظائفها؛ دخل صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له “أبو أمامة”، فقال صلى الله عليه وسلم:”يا أبا أمامة، مالي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟” قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال:”أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله تعالى همك وقضى عنك دينك؟” قلت: بلى يا رسول الله، قال:”قل إذا أصبحت وإذا أمسيت، اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال”، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله تعالى همي وقضى عني ديني. (رواه أبو داود)
جبر الخواطر عند الصحابة والتابعين
أراد حسان بن سعيد المخزومي أن يبني جامعًا، فأتته امرأة بثوب لتبيعه وتنفق ثمنه في بناء ذلك الجامع، وكان الثوب لا يساوي أكثر من نصف دينار، فطيب خاطرها واشتراه منها بألف دينار وخبأ الثوب كفنًا له. وكان القعقاع بن ثور إذا قصده رجل وجالسه، جعل له نصيبًا من ماله، وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا إليه بعد المجالسة شاكرًا.
من بين صفات الله سبحانه وتعالى صفة ” الجبّار”، ولها ثلاث معان من بينها “الجبر”، ويفسر العلماء معنى “الجبّار” على أنه الذي يجير الضعيف وكل قلب منكسر لأجله، فيجبر الكسير ويغني الفقير وييسر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر. وإذا دعا الداعي فقال “اللهم اجبرني”، فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقتُه إصلاح العبد، ودفع جميع المكاره عنه.
جبر الخواطر فنٌّ
جبر الخواطر عبادة جليلة لا بد عند ممارستها من مراعاة بعض الضوابط؛ فلا بد من محو الكبر والأنانية والمصلحة من سجلات عقولنا وقلوبنا. فالإنسان الأناني لا يجبر سوى غروره لأنه لا يرى سوى نفسه، والإنسان الذي لا تعنيه سوى مصلحته، يجبر الخاطر على قدر المصلحة التي تعود عليه. كذلك يتطلب جبر الخواطر منّا، أن نحس بمشاعر الآخرين لكي نستطيع أن نسترضيهم، وأن يخرج من القلب إلى القلب على عكس المجاملات التي تخرج من اللسان. ويكون جبر الخواطر بابتسامة، أو نظرة حانية، أو لمسة حنان، أو كلمة طيبة تدعم المجبور وتقويه، فهو رحمة وحنان للصغير، وتوقير للكبير واهتمام به.
لا بد من تعريف الناس بهذه الثقافة التي أصبحنا نجهلها، وتشجعيهم على ممارستها، وتذكيرهم بأن جبر الخواطر عبادة جميلة دعا إليها ديننا الحنيف بل وطبقها، وألا نهجر تلك العبادة التي قد تكون من أسباب دخولنا الجنة في الآخرة، ناهيك عن راحة البال والسكينة، وكف الأذى في الدنيا. فقد قيل: “من صار في الناس جابرًا للخواطر، أدركته العناية ولو كان في جوف المخاطر”.