شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الإنسان هو أعظم مخلوق وأسمى كائن؛ ميزه بالعقل والإرادة، وأمر ملائكته بالسجود له تحية وتكريمًا، ومن هنا أنشأ الله سبحانه وتعالى.
لهذا الإنسان الحقَّ في الكرامة والسمو عن بقية المخلوقات. وكان من مقتضى نعمة هذا التكريم، حرمة النفس، وبعث الرسل، وتنزيل الشرائع الضابطة لعلاقة الإنسان بالإنسان، والمنظمة لها تنظيمًا يحفظ ما منحه الله إياه من تكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70). فالكرامة قيمة عليا جامعة خص الله عز وجل بها الإنسان، وتعني فيما تعني؛ النفاسة، والرفعة، والعزة، وعلو الشأن، وانتفاء أي معنى من معاني الخسة والصغار والذل والهوان والابتذال.
من تجليات التكريم الإلهي للإنسان
تأتي خلافة الإنسان في الأرض -بطاقاته وقدراته الروحية والعقلية والعملية الخلاقة- في مقدمة تجليات التكريم الإلهي، قال تعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا((هود:61). والمعلوم أن كرامة الإنسان قد شملتها أصول الرسالة المحمدية، على مستوى العقيدة أولاً، ثم في الجانب السياسي والاجتماعي والحضاري بكل مظاهره وكامل أنشطته.
والذي تتعين الإشارة إليه، هو أن ما خص الله سبحانه وتعالى به الإنسان من عطايا ونعم -متمثلة في صورة قويمة في الخلقة وسامية في الفطرة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ((التين:4)، وعقلٍ رُفع به فوق جميع الكائنات- كل ذلك هو للإنسان من حيث هو إنسان، فلا يتوقف على عقيدة أو جنس أو لون أو ثقافة أو قوة أو ضعف.
ويمكن أن نجمل هذه التجليات أو المظاهر في نقاط محددة، طبقًا لآي القرآن الكريم، فيما يأتي:
إن مشكلة كل أمة هي في جوهرها، مشكلة حضارتها، ولا يمكن لأمة أن تفهم مشكلتها وتُعالجها ما لم ترتفع بفكرتها إلى الأحداث الإنسانية التي تكمن فيها
• خلق الله تعالى إياه بيده ونفخه فيه من روحه، وهذا لم يحصل لكائن آخر: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ((ص:71-72).
• إسجاد الملائكة له تكريمًا وتحديدًا للأدوار: (إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ)(البقرة:34).
• إعطاؤه العقل الناقد المميِّز بين الحق والباطل وهو ما لم يعط لغيره، وأمره بالتفكر: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا((سبأ:46).
• تخييره بين الخير والشر: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ((البلد:10)، ولا يوجد معه كائن مختار -غير الجن- والكائنات كلها بعد ذلك مسيرة.
• تسخير الكون كله له -سمائه وأرضه، أحيائه وجماداته- قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ((الجاثية:13).
• مكافأته بعد ذلك إن وفق، ومعاقبته إن أساء: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )(فصلت:46)
من مقتضيات الكرامة الإنسانية
أ- المساواة: انعكست تلك الرؤية للكرامة انعكاسًا تامًّا على مسألة جليلة الأهمية، وهي قضية “المساواة”.
المساواة في الأساس -وطبقًا لما أقره الإسلام- تعم الجنس البشري، وهي المساواة في القيمة الإنسانية المشتركة التي تتمثل في الاعتقاد بأن جميع الناس “سواسية” في طبيعتهم البشرية، وعنصرهم الإنساني من حيث هو، وخلقهم الأول، وأن ليس هناك جماعة تنحدر من سلالة خاصة ينتقل أصلها هذا إليها بطريق الوراثة، إنما يقوم التفاضل بين الناس جميعًا على أسس خارجة عن ذلك كله، مثل الكفاية والعلم والأخلاق والعمل.
إن مبدأ المساواة في الإسلام يتأسس على قاعدتين راسختين هما: وحدة الأصل البشري، وشمول الكرامة الإنسانية لكل البشر، وذلك من منطلق قوله تعالى: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا)(فاطر:11)، وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13)، وقوله عز وجل: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الإسراء:70)، وقوله صلى الله عليه وسلم : “الناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب” (رواه الترمذي).
ولو تلمسنا سرّ هذه المساواة، لوجدناه نابعًا من عقيدة التوحيد ذاتها وما يتأسس عليها من عبادات وتعاليم. فالجميع -طبقًا لهذه العقيدة- ينتظم سلك العبودية المطلقة لله تعالى وحده، ومن تطاول فوقها، وجب قمعه حتى يستكين في مكانته لا يعدوها: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا((مريم:93). كما أن المسلم في نظرته إلى الناس -قويهم وضعيفهم- يدرك أن زمام أمورهم في النهاية بين يدي الله تعالى، فلا يكون هيابًا لجبار، أو أسيرًا لتقسيم طبقي عنصري يسلبه إنسانيته، لثقته في قول الله عز وجل له: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ((الأنعام:17-18). فلا شك أنه “بهذه الروح المفعمة باليقين والإباء، أبى الإنسان المسلم الاعتراف بأن يكون لأحد من الخلق اختراق أسوار المساواة العامة، والاستعلاء على غيره من الناس”.
إذن فلا تفريق بين الناس -كل الناس- من هذه الجهة، على اعتبار الديانة أو المذهب أو العرف أو الجنس أو الشعب أو الدولة أو الأمة أو اللون أو اللغة أو النسب أو السلالة، أو أي امتياز طبقي ووراثي.
ولقد اتخذ الإسلام ذلك دعامة لجيمع ما سنه من نظم لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، وطبقه على جميع المناحي والأحوال والظروف التي تقتضي العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان أن يطبق في شؤونها.
وإنما يكون التفضيل على أساس بعيد عن نطاق الجوهر “الإنساني” الواحد عند جميع البشر. ولا شك أن تحقق المساواة يتطلب -أو يلزم عنه بالضرورة- قيام العدالة واقعًا، وتمتع الناس بها.
بـ- كفالة الحريات: إن الحريات على اختلافها، التي ضمنها الإسلام للإنسان؛ من حرية الاعتقاد، إلى حرية التفكير والتعبير، والعمل، والحرية السياسية، وضرورة حفظ العرض والنفس والمال -مع التأكيد الشديد على أن ذلك كله أساسه عدم الاعتداء على حق الآخر- هي في الحقيقة من أهم مقتضيات الكرامة، وهي في الوقت نفسه، تعزيز لقيمة الإنسان، وعمل على ترسيخ وتجذير التكريم الإلهي له. وغضب الفاروق عمر عندما اشتكى القبطي إليه عمرو بن العاص رضي الله عنه وابنَه، وقولته المشهورة “متى استعبدْتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا”، دلالة على احترامه البالغ للكرامة الإنسانية. وهذا نابع من روح الإسلام، ونظرته السامية إلى الإنسان مسلمًا كان أم غير مسلم.
جـ- مشكلة الرق: ثم يجيء موقف الإسلام من قضية الرق، ومعالجته العميقة لها إنسانيًّا واجتماعيًّا، تأسيسًا على ما كرسه من قيم الكرامة والعدالة والحرية والمساواة. وفي مقدمة عناصر تلك، المعالجة الجامعة -دون الدخول في تفصيلات وتفريعات سبق العلماء إلى درسها- أنه جعل تحرير الرق من مصارف الصدقات، ومن بين كفارات الأيمان، والقتل الخطأ، والفطر في رمضان والظهار.
وخلاصة ذلك كما يصوغها الباحثون، أن رسالة الإسلام أغلقت المصادر والروافد التي تمد نهر الرقيق بالمزيد والجديد، ولم يبق سوى الحرب المشروعة، وحتى رقيقها أو أسراها شرع لهم الفداء سبيلاً لحريتهم، بل ندب المنّ: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)(محمد:4). ثم ذهب الإسلام، فوسع المصادر التي تؤدي إلى تجفيف هذا النهر، بالعتق والتحرير.
ولنا على ضوء ذلك أن نتصور قيمة الدور الذي اضطلع به الإسلام في التكريس لقضية كرامة الإنسان، ومن ثم إحاطة المساواة وأخواتها من حرية وعدالة وغيرهما بسياج متين، عقديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا ومعنويًّا وماديًّا، بما يؤسس -هذا وغيره- لانطلاقة الإنسان في ظل ذلك، نحو تحقيق رسالته، وغاية وجوده على الأرض من بناء وتعمير حضاريين.
من أسس البناء الحضاري
أ- الإنسان: ليس من شك في أن بحث العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، أمر ضروري وبالغ الأهمية. ولعل من الدقة القول بأن مشكلة كل أمة هي في جوهرها، مشكلة حضارتها، ولا يمكن لأمة أن تفهم مشكلتها وتُعالجها ما لم ترتفع بفكرتها إلى الأحداث الإنسانية التي تكمن فيها، وفيها وحدها عملية قيام الحضارة أو انهيارها. ومن هنا فإن مسألة بناء الحضارة، تتطلب أن نفكر أول ما نفكر، في عناصر ومقومات هذا البناء.
ويرى فلاسفة الحضارة، أن هناك عوامل عديدة تؤسس لقيام أية حضارة، منها العلم والقيم من حقٍّ وخير وجمال. وللقيم دور كبير ليس في تأسيس الحضارة فحسب، ولكن في الحفاظ عليها وضمان استمرارها، ومع هذا يمثل الإنسان الأهمية المقدمة في هذا الصدد. فالحضارة تعتمد على أقصى تطور ممكن في قوى الكائنات الإنسانية الفردية، وما القيم المذكورة إلا تجليات لتجربة الأفراد. ولهذا يرى المنظرون لإشكالية قيام الحضارات وانهيارها، أن أي نظام، سياسي أو ديني أو تعليمي أو ثقافي أو اجتماعي، لا يوفر المناخ الإنساني المناسب لخصوبة الحياة والعطاء والإبداع، لا تلبث أن تتلاشى وتتبخر في حرارة الطغيان والاستبداد. وانطلاقًا من ذلك، لا بد من استحضار قضية حرية الفرد بصورها المختلفة، إذ لا سبيل إلى الوصول للحضارة بغير “حريات” الفرد.
إن الحضارة تقوم أول ما تقوم على الإنسان، وتقوم للإنسان، حيث إن هدفها الأساس هو تنميته، وتطويره، وتلبية حاجياته، وتحقيق إنسانيته في أبعادها وجوانبها المتنوعة؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولهذا فدوره في منظومة الحضارة مركزي إلى أبعد حد، أو هو -كما يرى بعض الباحثين- الخلية الحضارية الأولى التي يجب تكوينها وبناؤها ورعايتها متناغمة مع شروط النهضة وحيثيات الحضارة. ولو توفر الحرص على تنمية قدراته، وصقل مواهبه، ونفض غبار التخلف عن عزيمته وتفجير طاقاته، لاستيقظت روح العمل فيه وتدفق عطاؤه الحضاري. ويمكن القول في هذا السياق، إن أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ به نهضت، وبه تجاوزت نكبة القنبلة الذرية، وبه شيدت حضارة تطاول بنيانها.
إذن، فضمان الشعور بالكرامة الإنسانية، هو ما يحرر الفرد من كل خوف وضغط يميلان عليه. وفي ذلك يرى مؤرخ الحضارة “ول ديورانت” أن الحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، حينئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريق فهم الحياة وإزهارها.
ويرى الفيلسوف “هيجل” أن فكرة الحرية هي جوهر العقل، والعقل هو الذي يحكم العالم، وعبقرية الأمة التي تتجلى في الأفراد هي الخالق الحقيقي للحضارات.
أما مالك بن نبي -واتساقًا مع ما سبق شرحه- فيرى أننا إذا أردنا تحليل منتجات أية حضارة لنقف على أسس بنائها، نجدها تتكون من ثلاثة عناصر: الإنسان لأنه ولد هذه المنتجات بفكره وصنعها بيده، التراب ومنه كل شيء على الأرض وفي باطنها، الزمن وهو الوقت الذي اختمرت فيه فكرة هذا المنتج أو ذاك وتبلورت في صورتها القائمة.
ويمكن صياغة ذلك في معادلة رياضية، يحرص مالك بن نبي على إيرادها في غير موضع على هذا النحو: الحضارة = الإنسان + التراب + الوقت
إن ضمان الشعور بالكرامة الإنسانية، هو ما يحرر الفرد من كل خوف وضغط يميلان عليه. وفي ذلك يرى مؤرخ الحضارة “ول ديورانت” أن الحضارة تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء
وبقليل تأمل إذن، نقف على الدور المحوري المقدم للإنسان في المسألة الحضارية، وهذا يستوجب إعداد هذا الإنسان وتكوينه، وبناءه بناء يجعله قادرًا على صنع الحضارة، لا على “تكديس” منتجاتها واستهلاكها.
بـ- الروح والمادة في البناء الحضاري: ليست غائبة عنا فكرة الدين ودورها الأساس في بناء الحضارة، بما تقدمه من رؤية مرجعية في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، بل ورؤية أشمل إلى الكون والوجود والإنسان ذاته، تتبدى على مكونات الحضارة ومقوماتها المختلفة، وهنا تبرز أهمية الإنسان وقيمته وكرامته في الثقافة الإسلامية. إذن الفكرة الدينية رافقت دائمًا تركيب الحضارة خلال مسيرة التاريخ الطويل، وهو أمر معروف -أو محسوم في أكثر الأحيان- لدى الباحثين والمفكرين.
وفي هذا الإطار، يرى بعض فلاسفة الحضارة، أن الحقيقة الأولية الواضحة التي تنذر بانحلال الحضارة الغربية، هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير من تقدمها الروحي، وهذا اختلال للتوازن. فالاكتشافات التي جعلت قوى الطبيعة تحت تصرفنا على نحو لم يسبق له مثيل، هي نفسها التي أحدثت ثورة سلبية في العلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض، وبين الجماعات والدول.
وبعيدًا عن الاختلاف الشديد حول مفهوم الحضارة والثقافة، فلعل من الجدير ذكره أن مفهوم الحضارة يشمل كل ما من شأنه تحقيق الحياة الإنسانية الكريمة والرقي بالإنسان؛ ثقافة وقيمًا وسياسة واجتماعًا واقتصادًا. وقد أكد بعضهم أننا مهما فرقنا بين المدنية والحضارة، فلا يمكن تجاهل التأثير المتبادل بين النشاط الروحي والنشاط المادي في الحياة، ولكل دور بالغ في توجيه الآخر.
إن أي مجتمع إنساني، يتخذ السمة الحضارية، إذا توفرت فيه شروط أساسية، تتجاوز المظاهر المادية إلى القيم المعنوية تحقق لديه الاستقرار. فالوحدة في أصل النشأة لدى البشر، قيمة معنوية ذات مدلول بالغ وأثر فاعل في المسألة الحضارية، لما ينشأ عنها من التعاون وتضافر الطاقات فيما ينفع البشر جميعًا، لأن هذه القيمة المعنوية توفر الاستقرار النفسي والاطمئنان الوجداني الذي يدفع إلى الإنجاز المثمر.
ولهذا يمكن الجزم بأن إنجاز الحضارة ونموها، يتحقق متى حفظت للإنسان حقوقه الأساسية في الكرامة والحرية والمساواة، حتى تجد طاقته -بما تحفل به من مواهب وطاقات متعددة- مناخها الصالح الذي يتيح لها أن تنمو وتنتج، وإن فقدت هذا المناخ، انكمشت وضمرت، وفقدت قابلية التحرك المجدي والإنتاج النافع.
إذن إن الكرامة التي يقررها الإسلام للشخصية الإنسانية، تشمل الحماية والحصانة المكفولة للإنسان، والتي يستغلها من طبيعته: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، وتشمل عزة وسيادة تتغذيان من عقيدته: (وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(المنافقون:8)، ليترتب على ذلك كرامة أخرى هي كرامة استحقاق وجدارة، يستوجبها بعمله وسيرته في حقل الإثمار الحضاري بأبعاده المختلفة، قال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)(الأحقاف:19)، وقال تعالى: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)(هود:3).
وإجمالاً، تنتهي الحضارة -أية حضارة- عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان. والحضارة الإسلامية انطفأت جذوتها يوم فقدت في أساسها قيمة الإنسان. وإذا كانت هناك محاولات نهوض حقيقي في العالم الإسلامي، فلن تنجح إلا بقدر ما تضع في ضمير المسلم من قيمة وكرامة، له وللآخر، حتى لا يقع في هاوية العبودية أو الاستعباد.
(*) جامعة الأزهر الشريف / مصر.