إن رسالة أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منحصرة في الشهادة على الناس، وأما الشهادة على نفسها فغير واردة؛ أيْ إن شهادتها في سواها وليست في ذاتها. لكنها لن تحقق تلك الرسالة في سواها إلا إذا حقّقتها في ذاتها. وبالتالي كُلّفت هذه الأمة بـ”الإصلاح” وليس بـ”الصلاح”؛ إذ هذا أمر كان مطلوبًا من جميع الأمم الإسلامية التي سبقت مذ آدم عليه السلام حتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن خُصّت هذه الأمة بطلب جديد، وذلك لانتهاء النبوات وختم الرسالات؛ إذ لم يبق نبي بعدُ يرسَل ليجدد للأمة ما فسد وبلي من أمْر دينها.
إذن مَن سيحمِل وظيفة الأنبياء ورسالتهم عليهم السلام؟ أمة محمد صلى الله عليه وسلم طبعًا، فهي (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)؛ لا لنفسها ولكن للناس. وأُخرجت إخراجًا وفْق مقاييس معيّنة بعناية ربّانية، وما تزال هذه العناية مستمرّة، وستسمر إلى ما شاء الله، يقول تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9). فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحق، لا يَضرهم مَن خذَلهم حتى يأتي أمرُ الله وهم كذلك” (رواه مسلم).
إن “المسلم الشاهد” هو الذي ينتمي إلى أمة الشهادة، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(البقرة:143)، أيْ جعلناكم خيارًا عدولاً وفي مستوى رفيع. وهذا معنى “الوسطية”، لأن الوسطية تعني الرِّفعة، وتعني التأهيل الخاص الذي يكون لمن يجلس في وسط المجلس لأهليته الخاصة، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة:143).
مواصفات “المسلم الشاهد”
1- أن يكون مسلمًا: أول صفات هذا الشاهد أن يكون “مسلمًا”، بمعنى أن يسلم أمره إلى الله سبحانه وتعالى إسلامًا كاملاً وإذعانًا تامًّا، كما قيل لسيدنا إبراهيم عليه والسلام بهذا المعنى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(البقرة:131-132). إن الخضوع الحق والدينونة الحقة إنما هي الاستسلامُ لأمر الله تعالى. فالله قد اختار لنا هذا الإسلام ورضيَه لنا دِينًا، فينبغي أن نرضى -نحن- بالله ربًّا وبالإسلام دِينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبيًّا.
إن المسلم الشاهد، هو مَن أسلَم أمره إلى الله عز وجل إسلامًا كاملاً عن رضى واختيار، فهو مطمئنّ إلى أن الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى هو عَين الحقّ، وأن ما يتّجه إليه منه هو أيضًا عَين الصواب، فيذعن له إذعانًا كاملاً، وإذا قضي له به حكم عليه، فإنه يَرضى كل الرضى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء:65)؛ أي بالقلْب والقالب. هذه الصفة هي صفة الأساس ننطلق منها، ولكن ليست هي المطلوبة التي تتجلى فيها خصوصية هذه الأمة. نعم، لا تتجلى خصوصية هذه الأمة أن ناسها مسلمون فقط، لأن ذلك كان موجودًا في جميع الأمم، لكن ما بعد ذلك، وهذا يؤهلها لرسالتها. ومن ثم تأتي الصفة الثانية وهي:
2- أن يكون داعيًا: المسلم الذي يراد له ويُطلب منه، أن يكون شاهدًا على الناس، لا يكون مسلمًا قاعدًا ولا مسلمًا جامدًا، بل عليه أن يكون مسلمًا داعيًا منادٍ لغيره من الناس أن يستجيبوا إلى الله: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ)(الأحقاف:31). إنه داعٍ، وذلك يقتضي أن يؤسِّس حياته على هذا الأساس، ويشعر بأن رسالته تتمثّل أول ما تتمثل في أنه داعٍ، ولا يمكن أن يشهد على غيره إلا إذا دعَا. فحين يتقوقع على نفسه وينعزل عن سواه، ولا يعود مهتمًّا بغيره ممّن فسد أمْر دِينه وأمْر تدَيّنه، أو ممّن لم يعرف قطّ هذا الدين.. فحين لا يهتمّ بهؤلاء، فإنه لا يكون مؤديًا لرسالته، ولا يكون قد اكْتسب صفة من صفات المسلم الذي ينتسب إلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ رسالتها كامنة في “الشهادة على الناس”.
3- أنه ليس داعيًا إلى “لا شيء”: ثالث صفات هذا المسلم، أنه ليس داعيًا إلى “لا شيء” أو إلى الضباب أو إلى الفساد، بل داعيًا إلى الله.. ليس داعيًا إلى نفسه، ولا إلى صورة من صور الطين، ولا إلى أي فكر بشري أنتجه الناس بأهوائهم.. فما سوى الحق، كله هوى وأهواء.. أما الحق فهو واحد، وهو ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى.
فـ”المسلم الشاهد” هو داع إلى الله فقط، وما سوى ذلك مما يمكن أن يقوم مقام الشبهة في هذا الأمر، هو وسائل وأدوات. وقد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ)(يوسف:108)؛ إنه عز وجل لا يدعو إلى نفسه، ولم يكن يربط الناس به وهو ما هو، إنه أداة مشخصة لهذا البلاغ في صورته النموذجية، إنه رسول الله وعبده. إذن الدعوة ليست إلا لِله، والمسلم من هذه الأمة يجب أن يكون داعيًا، ويجب أن يكون في دعوته هذه داعيًا إلى الله سبحانه فقط.
4- أنه يدعو إلى الله عز وجل بعلم: إن المسلم الشاهد لا يدعو إلى شيء لا يعرفه، بل يدعو إلى الله بعلم. والعلم في هذه الأمة يصدق أساسًا على ما كان يقينًا، وما هو يقين هو الذي جاء من عند الله، يقين أنه حقّ. وذلك يقتضي منه أن يَفقه دينه وواقعه، وأن يفقه كيف ينزل هذا الدين على الواقع؛ لأن العلم بالشيء إذا وصل إلى درجة عليا صار فقهًا لذلك الشيء، و”من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدين” (رواه البخاري)؛ أي يجعله عالمًا بجزئياته وكلّياته، ويجعله عالمًا بعلاقة هذه الكليات بهذه الجزئيات، وبعلاقة المجموع ببعضه في صورة بناء شامل لهذا الدين.. لأنه هو دين ربّاني شامل كامل، وفي شموله لن يشذ عنه شيء، وفي كماله لم يبق خَصَاص فيه يضاف عليه شيء: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(المائدة:3). والاجتهاد البشري إنما يقع ضمن دائرة هذا الكمال، وهو استخدام وإعمال عقل المسلم ضمن دائرة الوحي فيما يَجدُّ مما لم يكن. إذن لا بد من هذه الأركان لتحصيل هذا العلم الذي يصل إلى درجة الفقه، أو ينبغي أن يصل إلى درجة الفقه، ولا بد من العلم بهذا الدين حسب رُتَبه وهي:
أ- العلم بكتاب الله وسنّة رسول الله: العلم بهذا الدين لا بد من التوجه والاجتهاد بتحصيل العلم وتحصيله أساسًا في كلياته؛ في جانبه الإيماني، وفي جانبه الإسلامي، وفي جانبه الإحساني، في جانب أركان الإيمان، وأركان الإسلام، وأركان الإحسان.. وبصفة عامة يجب أن يقع إلمام شامل لدى المسلم بهذه الأمور. وإن ما يقترحه كثير ممن وفّقهم الله عز وجل للاهتمام بهذا الأمر، من آيات وأحاديث ومواضيع مرتبطة بتلك الآيات وبتلك الأحاديث، إنما هو مرتب على أساس فقه الدين أولاً؛ لأن بالدين يمكن تنزيل أوامر الله سبحانه وتعالى على الوقائع المتجددة، الخاصة منها والعامة. إذن “الفقه للدين” هو الأساس، وينبغي أن يُجتهَد في تحصيله، سواء على المستوى الفردي، أو مع مجموعة من المسلمين، أو في بيوت الله، أو في أي مكان يحصل فيه هذا العلم.. فالعلم يُعين بعضه على بعض.
بـ- لا بد من الاهتمام بالواقع والفقه لكلياته: للواقع في صيرورته التاريخية حركات وفق سنن لهذا التاريخ، ينبغي أيضًا أن يهتم بها الإنسان ليتمكن من العيش بسلام، مسلمًا مؤمنًا داعيًا إلى ربه في هذا الواقع الصعب. إن الواقع -اليوم- الموجود في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها تقريبًا، ليس واقعًا نشأ من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي لم ينبت من الدين، ولم ينتج من تفاعل الوحي مع الزمن ومع الواقع ومع الحوادث، وإنما هو واقع نتج عن تفاعل بقايا من التدين لدى قطع غيار من هذه الأمة، متناثرة في كل مكان.
إن الإسلام يستعمل جميع الحواس في أكمل صورِ استعمالها، وفي أحسن صورِ توجيهها للخير، وذلك لجلب المنفعة ودرء المفسدة. لكن المؤمن كيّس فطِن، وليس بغائب عن العالَم. فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لستُ بالخِبّ ولا الخِبُّ يَخْدعني”.. وإلا فلا أهلية للشهادة، لأن مَن سيشهد عليهم، فيهم العجائب والغرائب، وينبغي أن يكون على بصيرة بكل ذلك.
ومن مجموع الأمرين -من فقه الدين وفقه الواقع- يتكوّن -بالممارسة وبالتفاعل بين الفقهين ببساطة- فقه ثالث يتجمع فيه فقه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في ذلك الواقع، وهما على هذا الترتيب: فقه الدين وفقه الواقع.
كما ينبغي ألاّ يسبق أمرُ الواقع أمرَ الدين؛ لأن أمر الدين هو الأهم، وهو الظرف، وهو الميزان الذي يوزن به سواه. فلا بد إذن من طلب العلم، ولكن الأمة مقصّرة غاية التقصير في أمر العلم، إذْ العلم فيه “علم الغيب” ولا سبيل إليه إلا بالوحي، وفيه “علم الشهادة”، والله (هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)(الحشر:22). وعلم الشهادة مشترك بين مَن لديهم وحي، وبين مَن ليس لديهم وحي، لكن الفرق أنّ مَن لهم الوحي ينظرون في الشهادة بعين الوحي فيبصرون ما لا يبصر سواهم ممن ليست لهم إلا أعين كبقية الكائنات الأخرى تقريبًا. أما المسلم الشاهد فيبصر بنور الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)(الحديد:28)، (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)(الأنفال:29)، وبفضل هذا النور والفرقان يتمكن المسلم من التفريق بين الحق والباطل. إنه لا يمكن لهذه الأمة أن تفعل شيئًا بغير العلم؛ “علم الغيب”، و”علم الشهادة” معًا.
إن تسخير الكون كان المفروض أن يكون في يد هذه الأمة لا في يد غيرها.. هذه الكهرباء، وهذا المغناطيس، والجاذبية، هذه الطاقات، وهذه القدرات والخزائن التي أودعها الله عز وجل في هذا الكون، ينبغي أن يكون سَبّاقًا إليها المسلمُ من هذه الأمة. وإذا أحسّ المسلم من هذه الأمة بمعناه وبجوهره؛ ينبغي أن يبذل أقصى الجهد للتذوق في أي مجال وفي أي ميدان، وينبغي أن يطلب الإمامة في العلم ليشهد بتلك الإمامة على سواه، وليحسن توجيهه، وإلا سيظل تابعًا. وإذا كان تابعًا دائرًا في فلك غيره، وغيره ينتج فكرًا لا صلة له بالوحي، فإذن هو يدور -شاء أم أبى- في غير الوحي وغير الدين. ومن هنا تسمعون أحيانًا الكلام الذي يدور عن “أسلمة العلوم”، وهو كلام ضروري في مجالها، ولكن لا يستطاع الوصول إلى أشياء مهمّة بأمر العلم إلا إذا صار غذاء الأمة بصفة عامة في حياتها اليومية.. هو الاقتيات من العلم بكثرة، والدفع في اتجاه العلم والتضحية في طلب العلم، لكن الواقع حقيقة مؤسفة.
5- أن يكون داعيًا إلى الله بيَقين: إن المسلم الشاهد مؤمن بالذي جاء من عند الله إيمانًا لا يتسرّب إليه أدنى ريب أو شك أو تردد. إنه في قرارات نفسه موقن بالذي جاء من عند الله، وبما أمر به الله أنه حق، وبما نهى الله عنه أنه عين الباطل.
إذا علا الإيمان وارتفع صار يقينًا، وقبل أن يصير يقينًا لا ينتج طاعة حقّة، إنما تنتج الطاعةُ من اليقين وحين تصدق صدقًا لا تشوبه ريبة؛ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(الحجرات:15). ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اليقين الإيمان كله”. الإيمان بضع وستون شعبة، و”اليقين” الإيمان كله، لِمَ؟ لأنه ينتج تلك الشعلة ويمنع أن تتعطل، ولأن الموقن هو واثق بما عند الله، ومتوكل حق التوكل، ومحتسب حق الاحتساب.
كل المعاني الشرعية تتأسس على اليقين، وليس على الإيمان العادي الذي لا يكاد ينتج طاعة. ويمكن أن نضرب مثالاً بالطفل الصغير قبل أن يعلم أن النار تحرق؛ قد تُقَرّب إليه النار فيعجبه منظرها ويضع يده فيها، لكن بمجرّد هذه التجربة الأولى يحصل له اليقين بأن تلك النار تحرق وأنها ضارّة، وإذا عاودتَ الكَرّة لامتنع.. لو كنا نتعامل مع الأوامر والنواهي بهذا المعنى، لوقفنا ولانتهينا. ولكن الذي يحدث، أن ذلك يكون كأمشاج وبقايا في الذهن؛ فالتدين الضعيف الموجود في الخارج، سببه عدم رسوخ الإيمان في القلب، ويجب أن يقوى هذا الإيمان ليصل إلى درجة “اليقين”، ولكن يقوى بـ”التكرار”؛ أي بتكرار الأفعال والمجاهدات والرياضات.. و”ما تكرر تقرّر”.. فيَقْوى بالمقوّيات، سواء في الائتمار أو في الانتهاء، فعل الأوامر وفعل النواهي حسب النظام الشرعي.. إن سرتَ على ما وضّحتْه الشريعة، وعلى الطريق الكبير، فسيحصل لك ذلك.
الصلاة وحدها إن أحسنتَ وضوءها وأحسنت أداءها -وذلك في أوقاتها- وحضرت فيها ولم تكن غائبًا.. إن أدّيت الصلاة حقًّا، بدأ ذلك يتجمع يومًا بعد يوم حتى يأخذ بك إلى هذا النوع من اليقين، وهذا باب من الأبواب. فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال، قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: “لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت”، ثم قال: “ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصومُ جُنّة، والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل” (رواه الترمذي)، ولكن هذا بعد الأركان طبعًا. إنما لكل شيء نظام يؤدى بها، فإن أدِّي وفق ذلك النظام أنتج النتائج الموجوة، وإذا اختل شرطٌ من تلك الشروط اختلت النتائج: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(العنكبوت:45).
ندرك بيقين أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا يمكن أن يكون المصلي فاحشًا ولا مرتكبًا للفواحش. إن الله لا يأمر بـ”الصلاة” وإنما يأمر بإقامة الصلاة؛ وفرق بين التعبيرين، والأكثر في كتاب الله عز جل إقامة الصلاة، الصلاة مرتبطة بالإقامة: (أَقِمِ الصَّلاَةَ)، (أَقَامَ الصَّلاَةَ)، (يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ)، (أَقِيمُوا الصَّلاَةَ).. وإقامة الشيء ليست هي الشيء مطلقًا، الشيء قائم يكون في أحسن صوره؛ فالذي يقيم الصلاة هو الذي يحسن أداءها، فمن أقام الصلاة نتج لديه نتائج الصلاة وآثار الصلاة وفوائد الصلاة.. وإقامة الصلاة تتجلى في ثلاث: أداؤها في الوقت وأوله فيه رضا الله.. وأن تؤدَّى في الشكل باطمئنان وخشوع كما كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صلُّوا كما رأيتموني أصلّي” (متفق عليه).. وأن تُؤدَّى لله؛ يقول تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)(طه:14)، ليس لذكر شيء سوى الله عز وجل، أي إن الحضور فيها يجب أن يكون مع الله عز وجل وذلك طريقه أن تستحضر معاني الألفاظ التي تستعمل، وإذا دعوت في السجود دعوت كذلك بقلب حاضر.
الدعوة إلى الله بيقين؛ هي أن الذي يُدعا إليه هو عين الحق، ولا حق إلى جانبه أو معه أو بدلاً منه في هذا الكون.. لم يبق للحق في هذا الكون إلا مصدر واحد هو الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم قرآنًا وسنّة صحيحة؛ فعن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ألا إني أوتيتُ الكتاب ومثله معه” (رواه أبو داود). هذا وحده عين الحق الذي بقي خالصًا لا تشوبه شائبة، ومن ثم يجب أن يلتزم به ويحمل إلى من لم يصل إليه.
6- أن يدعو إلى الله بحكمة: دائمًا عندنا صفة مسلم يدعو لا تتخلف، وهي دائمًا موجودة، وحين لا يكون داعيًا لا يكون من هذه الأمة يدعو إلى الله بحكمة. والحكمة هي الخُلق الحسن، وإصابة الحق.. قال الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء بعد آيات كثيرة تتحدث عن أخلاقٍ وصفات حسنة ينبغي أن يتخلق بها المسلم، في نهايتها قال تعالى: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)(الإسراء:39). ولقمان الذي أوتي الحكمة قال مثل ذلك: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلهِ)(لقمان:12).
فالحكمة هي التزام هذا الدين والعمل به في أعلى صور الكمال وفي أحسن صورة. إن طَبّقتَ هذا الدين على أحسن صورة كنتَ حكيمًا. إذن الدين ينبغي -وما كان له- ألاّ يقف عند حد إحداث أثر في العقل، أو إحداث أثر في القلب، ثم لا يظهر ذلك الأثر في السلوك؛ لأن هذه القطيعة غير مفهومة في القرآن الكريم. اللفظ القرآني يساوي معناه داخليًّا وخارجيًّا، ويطلب أن يتساوى وأن يتطابق في جوانبه الثلاثة: قلبًا وقولاً وعملاً. والمسلم عليه أن يوحّد، وأن يصير واحدًا، لأنه إذا كان باطنه غير ظاهره، اتجه نحو دائرة النفاق، وإذا كان ظاهره مخالفًا للحق أصلاً، اتجه إلى جهة الكفر الصريح، وإذا تطابق قوله وعمله مع اعتقاده، وطابق اعتقاده الحق، في هذه الحال يكون واحدًا، وذا خُلق حَسن، وحكيمًا، أي يتصرف بحكمة. فالحكمة هي حين يرتفع مستوى الخُلق الحسن إلى درجة عالية ورفيعة جدًّا. يرد في الحديث المروي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنة لمن حَسُن خُلُقه” (رواه أبو داود)؛ حسَّن خُلقه بالمجاهدة والرياضة التي يُشعر بها هذا اللفظ وهذا النُطق.
إننا نحن المسلمين قد ضربنا الرقم القياسي في سوء الأخلاق؛ في “المواعد” -على سبيل المثال- شاع في بيئتنا أن يقال “عنده كلمة فرانساوية”، ومعنى هذا أنه يلتزم بالموعد بالضبط في الوقت الذي وقع عليه الاتفاق، والذي يفعل ذلك ليسوا المسلمين الذين يوجدون في الواقع، وإنما يفعله غيرهم، ويفعله الفرنسي الذي إذا قال كلمة لا يتزعزع فيها. ونحن نعلم أن سلفنا كان يقول “الكلمة روح”؛ يعني يمكن أن يفدي روحه لكلمة صدرت منه ولا يتنازل عنها، لأنه -أولاً- لم يقُلْها إلا وقد تبيّن فيها. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلْيَقُلْ خيرًا أو ليصمتْ” (رواه البخاري)، فإن عاهد فــــــــــ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة:1). هذا هو الأصل، فكيف صارت هذه الأخلاق الحسنة -إذن- لدى غيرنا؟ ذلك هو السبب في ولاية غيرنا علينا، وإذا أردنا أن تزول هذه الولاية، ينبغي أن نعود إلى الأخلاق القرآنية، وأن يصير خلُقنا خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو القرآن. فإذا صار القرآن خلُقًا لنا، ذاك سيجعلنا حكماء في الدعوة.
7- أن يدعو إلى الله بقوة: يقول تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)(مريم:12)، (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)(البقرة:63). الأخذ -أخذ الحق بقوة- هو فعلُ أُولي العزم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من أولي العزم، وأمّته أيضًا، إنها مجتباة مختارة مصطفاة: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ)(الحج:78). فينبغي أن يُسار في المسار الذي سار فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يعني الاستعداد الكامل للتضحية بكل غال ونفيس. إن الله عز وجل طلب منا أن ندخل في السِّلم كافة، بأموالنا وأوقاتنا وطاقتنا وأجسامنا وعقولنا، وبكل ما رزقنا.. أن ندخل في الإسلام، ونكون مستعدين لاسترخاصه في سبيل الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ)(البقرة:207).
إنها قاعدة عامة لمن آمن بالله عز وجل: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)(التوبة:111). فماذا بقي إذن؟ ماذا يملك الإنسان من غير نفسه وماله؟ إن الله اشترى، ومن أراد أن يبيع باع وإلا بقي في الخارج. السلعة موجودة وسيؤدَّى ثمنُها في وقتها. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ)(البقرة:214).. عندما يشتد الظلام يقترب الفجر. وكلما اشتد الظُّلم والبغي اقترب موعد الحق، وسلعة الله غالية. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة” (رواه الترمذي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه -أيضًا- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره” (رواه البخاري).
الإسلام بناء، والإسلام صعود، والإسلام عقبة.. إذا كنت في سفح جبلٍ وأردت الصعود، فعليك أن تبذل مجهودات جبارة.. قد تحتاج أحيانًا إلى رياضة تَسلُّق الجبال لتتمكن من الوصول، ولكنه يسير كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: “لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على مَن يسّره الله تعالى عليه”.
(*) الأمين العام لمؤسسة البحوث والدرسات العلمية (مبدع) / المغرب.