جوهر النفس البشرية
الأعراف سور ضخم يضعه الله تعالى ليكون فاصلاً بين الجنة والنار، وهو يكون مانعًا أمام خروج أهل النار للدخول إلى الجنة. إذن هو سور طويل على امتداد الجنة والنار، ومرتفع بحيث لايستطيع أحد تسلّقه، وعلى هذا السور رجال كما تبيِّن السورة، فلا هم في الجنّة، ولا هم في النار، وبذات الوقت يتمكّنون من رؤية أهل الجنة وما هم فيه من نُعيم، ورؤية أهل النار وما هم عليه من عذاب، فإن نظروا في هذه الجهة، رأوا هؤلاء وإن نظروا في تلك الجهة رأوا أولئك دون أن يتحدّد مصيرهم بعد إن كانوا سينقلبون إلى هذه الجهة، أو تلك.
ولكن لماذا تم وضعهم في هذا الموضع؟ فهم فئة خاصة من الناس جميعًا على مختلف العصور والأحقاب البشرية، لكن أعمالهم المتشابهة جعلتهم في هذا الموضع المضطرب، كما أن الأعمال المتشابهة جمعت أهل الجنة فيها، والأعمال المتشابهة جمعت أهل النار فيها: [وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ] الآية 46، بين هؤلاء وبين هؤلاء. وإضافة إلى ذلك فإنهم يتمكّنون من التعرّف على بعض الوجوه التي هم على معرفة سابقة بها سواء في الجنة، أو في النار رغم ذاك الارتفاع، وتلك المسافات الفاصلة، فإذن هم: [يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ] واستنادًا إلى ذلك يلقون عليهم السلام، كونهم يسمعونهم أيضًا:[وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ]، وأما عندما ينظرون إلى أهل النار، يسألون الله ألاّ يجعلهم معهم:[وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ].
من هذا المنطلق فإن سورة (الأعراف) تتناول جوهر النفس البشرية، وتحلّل حيثيّات هذه النفس، فيمكن من خلال ذلك أن يتعرّف الإنسان على نفسه بما لم يكن يعرف من قبل، فهي إذن سورة تحليلية تُعنى بالتفاصيل أكثر مِمّا تُعنى بالعموميات، وهذا ما يميّزها عن سورة الأنعام التي سبقتها، حيث قدّمت تعريفات أوليّة في السياق العام دون أن تتوّقف أمام التفاصيل، وكأنها بذلك مهّدت إلى هذه التفاصيل في السورة التي تليها في ترتيب المصحف، فهي سورة مكّية وهناك آراء استثنَت القليل من آياتها، فجعلتها مدنية.
إذن، نحن أمام سورة تفصيلية تفرز الناس إلى ثلاثة أصناف: المؤمنون، الكافرون، المتذبذبون. والصنف الثالث وإن كان يشبه في بعض تصرّفاته (المنافقين)، إلاّ أنه ليس من المنافقين في شيء، بل هو من المؤمنين، ولكن إيمانه يشوبه تردّد أمام بعض حدود الله، فيرتكب المعاصي وهو مؤمن، وبذات الوقت، يؤدّي ما عليه من فرائض فرضها الله عليه، ويلبث متأرجحاً في هذه الحالة المزدَوجة بين الطاعة والمعصية، ونظرًا لأنه مؤمن، يخلو إيمانه من الشرك، يقدّم أعمالاً صالحة في مجتمعه منطلقًا من أرضية إيمانه بالله، وبالثواب والعقاب، فنرى بأنه يقع في المعاصي على أمل أن الله سبحانه وتعالى يغفر له، وليس لكونه لايؤمن بالثواب والعقاب، فكما أنه يؤمن بثواب الطاعة، يؤمن بعقاب المعصية، لكنه يرتكبها ويسأل الله المغفرة.
فالسورة الكريمة في جانب من جوانب مقامها المبارَك تضعك أمام هذا النموذج من الناس، وتتناول صلب هذه العقيدة المزدَوَجة التي لا ثبات فيها على حسم الأمر واتباع شرع الله. ولذلك يُفاجَأ هؤلاء أنفسهم كما يُفاجَأ الناسُ جَميعًا، سواء الذين ثقلت موازينهم إلى الجنة فدخلوها، أو الذين ثقلت موازينهم إلى النار فدخلوها، عندما تتساوى موازين هؤلاء، ولا ترجح كفة على أخرى، ولايدخلون الجنة لأن كفة الحَسنَات لاترجح بهم، ولا يدخلون الجحيم لأن كفة السَيّئات لاترجح بهم، والله قد حرّم الظلم على نفسه، فلا يدخلون الجحيم ظلماً لأن سيئاتهم لا تؤهّلهم إليها، كما لايدخلون الجنة، لأن حسناتهم لاتخوّلهم دخولها، فقد تساوت الكفتان.
على هذا المفصَل البالغ الحساسية تعمل هذه السورة، ومن أجل ذلك تروي العديد من الوقائع والأمثلة التي تتناول صلب هذه العقيدة المتأرجحة التي يتوازى فيها عمل الخير مع عمل الشر بالنسبة لميزان معتنقها. فالسورة المكّية الطويلة، تعمل على ثبات العقيدة، لأنها تُخاطب أناساً لا عهد لهم بالإسلام، ولذلك فهي تعرّفهم بالإسلام، وتحبّبه إليهم، وتبيّن لهم المنافع التي يمكن لهم أن ينتفعوا بها في الإسلام سواء في الدنيا، أو الآخرة، ومع إيمان البعض ورفض البعض، تنفرز هذه الفئة الثالثة التي تقتنع بفكرة الإيمان، وتؤمن بوحدانية وربوبية وألوهية الله عز وجل، وتصدّق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى قد أنزل عليه القرآن، فتؤدّي ما يترتب عن ذلك من فرائض كما أمر الله تعالى، لكنها إلى جانب ذلك، لاتقلع عن المعاصي، وهذه الفئة لاتقتصر على المسلمين فحسب، بل تشمل الناس جميعاً عبر التاريخ البشري، فكل زمن له ما له من هؤلاء، والذين هم على الأعراف، ينتمون إلى مختلف العصور البشرية، فقد جمعتهم عقيدة الازدواج في هذا الموضع المزدَوَج.
أصحاب الأعراف
إن أصحاب الأعراف هم أناسٌ آمنوا بصدقٍ، دون أن يُنافِقوا، أو يُشركوا بالله، ويؤدّون فرائض الإيمان، لكن من الطرف الآخر، فإنّهم يرتكبون المعاصي والأوزار، حتى أنّهم يُصبحون مَوضع شَك بالنسبة لبعض المسلمين، بل أن البعض من أهل الفتيا الذي لم تنفتح ذهنيته على سِعة الدِين، ولم يستطع أن يقرأ القرآن قراءات استنارية، فيجتزئ الآيات ويُخرجها من سياقها التشريعي العام، ويجتزئ الأحاديث النبوية من السياق التشريعي العام لها، يقبل على تكفير هذه النماذج من الناس، ويفتي بحقهم ما يمكن أن يلحق بهم الأذى استناداً إلى وقفة الغلو الضيّقة التي حصروا أنفسهم فيها من سِعَة ورحابة الدِين.
وكلمة (الأعراف) لاذِكر لها في سائر القرآن المجيد سوى في هذه السورة، ولكن يورد المعنى بلفظ مرادف للكلمة وهو (سور) في قوله:[فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ] الحديد 13 . فالسورة الكريمة تضع هؤلاء في الوسط، ولعلّ في ذلك إشارة بليغة بأن يكون موقفك من هذه الفئة من الناس، موقفاً وسطيًا، فتثني على عمل صالح يقوم به هذا الشخص وتباركه له، وتدين وتستنكر عملاً طالحًا يبدر منه، دون أن تتخذ من عموم الشخص موقفًا سلبيًا. فعندما تراه في عمل صالح تثني على عمله الصالح، ويكون لك أن تثني على شخصه أيضًا بشكل متصل، وعندما تراه في معصية، تستنكر فعل المعصية فيه بشكل منفصل، دون أن يكون لك أن تنال من شخصه.
وإذا نظرتَ إلى إيقاع حياة هؤلاء بتدبّر في السورة، سيجلو لك بأنهم يعيشون حالة قلق وعدم استقرار، ولذلك مفرزاته مثل وخزات الاضطراب التي يعانونها، وأشكال القلق النفسي الذي يعيشونها، وعلقم الازدواج الذي يتجرّعونه. فهم في حالة قلق نتيجة الشَتات الذهني، وعدم حسم موقفهم من المعاصي رغم أنّهم تطهّروا بطهارة الدِين، وتخلّصوا من رجس الكفر. فعليك أن تفرز هذه الفئة في صنف خاص بها، لأن ليس كل مَن يخطئ، يَنتمي إلى هذا الصنف، فالمؤمن يُخطئ ويرتكب الذنوب، لكن ذلك لايكون بسَويّة ما يعمل من صلاح، فقد تبدر منه خطيئة ما في موقف ما، غير أن موازين الطاعة راجحة على موازين العصيان. ذلك أن الله تعالى (غفور) قولاً وفعلاً، قولاً بأنه أخبر الناس بأنه غفور، وفعلاً أن الناس ينالون بركات مغفرته. ومن بركات مغفرة الله أن التائب من الذنب يكون كَمَن لاذنب له، والسَيّئة تمحها الحَسَنة؛ لذلك فإن زِنة تلك الذنوب المنخَفضة، قياساً مع زِنة الطاعات المرتفعة، تُذهِب عن الإنسان تلك الذنوب كما لو أنها لم تُرتَكَب بموجب مغفرة الله. يقول الله عز وجل: [أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]التوبة104 .
إذن، يضعك الله تعالى الآن أمام هذه الفئة المزدوجة في هذه السورة الكريمة ليريك بأنها في الآخرة ترى ما كانت عليه في الدنيا، أي في حالة قلق واضطراب، فلم تسلم كل التسليم ليقودها إسلامها إلى الجنة، ولم تذنب كل الذنوب لتقودها ذنوبها إلى الجحيم؛ فهي عندما كانت تؤدّي طاعة، كانت بموازاة ذلك ترتكب معصية، وعندما ترتكب معصية، بموازاة ذلك تؤدّي طاعة، وفق التساوي الذي لاترجح معه كفّة على أخرى.
وإذا كانت السورة الكريمة تقدّم لك هذا التساوي في الحسنات والسيئات، فتبيّن لك بأن لاشيء في الكون إلاّ وقد خلقه الله بشكل منضبط، وذلك حتى تضبط حياتك من خلال هذا الانضباط، ولا تكون مستهتراً بما قد يؤدّي إلى خلل في توازن شخصيتك، فتعيش حالة اضطراب في حياتك، ولا تنعم بنسائم الاستقرار النفسي، والصفاء الذهني. فقد وردت كلمة (الدنيا) في السورة أربع مرات، وبموازاة ذلك وردت كلمة ( الآخرة) أربع مرات، كما أن عبارة (أصحاب الجنة) وردت أربع مرات، وعبارة (أصحاب النار) وردت أربع مرات، وكلمة (رجال) جاءت ثلاث مرات، إلى جانب كلمة (نساء) التي جاءت ثلاث مرات، وكلمة ( المؤمنون، المؤمنين) جاءت ست مرات، وكلمة (الكافرون، الكافرين) جاءت ست مرات، كما وردت (الحياة الدنيا) ثلاث مرات، و(يوم القيامة) ثلاث مرات، كما وردت (حسنة، حسنات) أربع مرات، و(سيئة، سيئات) أربع مرات. بعد معصية إبليس، تطلعك السورة على خطيئة الإنسان الأولى، فيأتي الخطاب إليك في نداءات إلهية أربعة: [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ]26، [يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ]27، [يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ]31، [يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي]35 .
مكنونات النفس البشرية
ويُتاح لك في هذه السورة أن تتعرّف على قصص بعض الأنبياء بالتفصيل، مثل: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، عليهم السلام. كذلك تُطلعك السورة موقف الذين يحسمون أمرهم دون تردد، أو خوف، أو ازدواجية، من خلال وقائع قصة موسى، وفرعون، والسحرة، ونظير ذلك تتعرّف على تردّد بني إسرائيل في اتباع نبيهم موسى عليه السلام، كما تُطلعك السورة على أهل السبت، وكيف أنهم أرادوا التحايل على الله من قاعدة التأرجح في موقف الإيمان، وأن الله مسخهم قردة.
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس ستراً، وكان آدم عليه السلام له شفيعاً يوم القيامة” وعن واثلة بن الأسقع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:” أعطيت مكان التوراة السّبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفُضِّلت بالمفصل ” رواه أحمد وغيره، وروي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” مَن أخذ السّبع الطوال فهو حبر” رواه أحمد. وأخرج النسائي عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: “أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صلاة الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الأعراف فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ”، كما وأخرج النسائي مِنْ حَدِيث ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ، عَن عُرْوَة عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: مَا لِي أَرَاكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ السُّوَرِ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول الله عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام يَقْرَأُ فِيهَا بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ . قَالَ مَرْوَانُ قُلْتُ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا أطول الطولين، قَال الأعراف.
تضيء لك سورة الأعراف – التي هي من السبع الطوال – الجوانب الخفية من مكنونات النفس البشرية، وتُظهر لك تفاصيل هذه النزعات، وهي تتمَحوَر حول ثلاثية: الإيمان، والكفر، والازدواج، حتى ترى الخير في قمّته، والشر في ذروته، والتأرجح في متاهات شتاته. وبعد كل تلك المسيرة، تنتهي بك السورة الكريمة بآية السجدة وهي أول سجدة في القرآن وفق ترتيب المصحف، ولعلّ فيها إشارة بليغة بأن الخير كل الخير يكمن في الإيمان بالله، وتفعيل هذا الإيمان إلى عمل.