كانت الهند بتنوعها وتكاملها تستقبل القلوب الصافية وتضمها وتورف الظل لها، ولها رصيد ثري من المعالم التي سجلت خطوط المحبة والوداد، بل هي الدولة الوحيدة التي لم تستعمر أي بلاد في تاريخها المعروف لعشرة آلاف سنين، في فطرتها الحب والعشق، والرقص والتناغم، وإن اندلعت الحرب بينها وباكستان ظلت القلوب ملتحمة مربوطة بأشطان من التضامن والتناغم، وقفت صامدة متصلة في تراثها رغم الانشطار القسري الذي رسمه رادكليف البريطاني، لأن القلوب تميل طوع الأوتار التي تمحو ملامح اليأس والحزن.
والدور الأكبر الذي قام به التصوف في بقاع الهند يتمثل في جمع القلوب تحت مظلة المعرفة وفي تشخيص جراحاتها حتى أن كان ظلاً وارفًا فوق المناطق المندلعة حربًا وغضبًا ككشمير التي طالما سمعنا عويلها وأنينها، ولولا التصوف وأناشيد الدروايش لانتحرت كشمير ولكانت أثًرا بلا عين قبل زمن بعيد، ولقد وقف التصوف في طليعة الجيش المناضل ضد كل من أودى بحق الشعب بل وقف باسلاً ومقاومًا أماما المد الإرهابي الذي يكاد يلتهم المنطقة.
حملة ثقافة بلا حدود
في القرن الحادي عشر أيام سلطان المماليك قطب الدين أيبك في الهند، اتجهت من مقر الخلافة العباسية ببغداد كوكبة من رجال الوجدان ودعاة السلام، تحدوهم الأشواق إلى عاصمة الهند الجديدة “دهلي” وكان همهم الوحيد الاستقرار في أرض التنوع والتعدد، وتسلية القلوب التائهة والتي أصابتها الإحبطات والإسقاطات الحياتية، في راحتيهم سبحات تستنطق القلوب، وبسمات توحي بالأمن والأمان، ضربوا خباءاتهم في مقر السلطنة المملوكية، إذ كانت تتوهج بمجدها الأيبكي آنذاك، فظلت دهلي حاضنة التصوف بل عاصمة التسامح والتراحم، أسمعت أجواءها إبداعات العشاق وخلجات التائهين والمتيمين، وحتى الآن توجد في جنباتها أكثر من مائة قبر للأولياء والأصفياء الذين وردوا إليها على مر السنين، يتجمع حولها آلاف من الزائرين بصرف النظر عن انتمائاتهم الدينية والوطنية، فيهم الهندي والأفغاني، والباكستاني والصيني، ينسون الحدود وشراسة الحروب، ويفنون في حب الخلود، ويطيرون في سدرة المنتهى، مرصعين جدران قلوبهم بباقات الورود.
منذ قدوم الصوفي الشهير خواجة معين الدين الجشتي الأجميري من سنجر بكابل إلى “أجمير الهند” واستقراره في قلبها ظلت الهند قبلة الصوفية وملتقى العشاق، بل لم تقف عند حده، صنعت هذه التيارات الودية على كتف الأزمان جسورًا من التلاحم والتناغم بين الملوك والرعايا، وشددت حبال الربط والصلة، ورسمت صورًا حية من التضامن القومي والتماسك الوطني لا سيما بين الهندوس والمسلمين كما لاحت بشكل واضح بداية من أيام مؤسس السلطنة المغولية “بابر” واستمرارًا في عهد آخر السلاطين المغولية “أورنك زيب”،إلا أن السلطان أورنك زيب نبذ الاتجاهات المنعرجة ووقف في وجه الذين استغلوا الموسيقا والغناء لنيل المناصب وكسب الأمراء لحد أن أوقفه بعض من المؤرخين في قفص الاتهام ووصفوه بوائد الإيقاعات ونسبوا إليه قولة “ادفنوا الإيقاعات حتى لا يسمع دوي منها منذ الآن”، برغم هذه الأقاويل والأفاعيل كان بلاطهم منتجع المغنين والمنشدين والقواليين بصرف النظر عن دياناتهم واعتقاداتهم، ولعب الصوفيين في رمرمرمة أنقاض القلوب وفي لملمة شتاتها، حيث تسللوا إلى أفئدة “الهنود” وألهمهم السلام والوعي الديني، ونشروا أفكارا صافية من أدران التعصب والتحزب، وتربصوا بكل الخونة الذين يستهدفون صناعة جيل مبتور من محاتد التراث.
واتسمت السلطنة المغولية بانفتاح واسع نحو الهندوس والمسلمين، وفتحت مصراعيها لضم جميع الطبقات واحتضانهم من غير تميز ولا تفرقة، وفي نفس الفترة كان العالم الإسلامي يسمع ويستلهم من مثنويات الرومي وإلهامات التبريزي، ويستحضر الرسائل الغزالية والحجويرية. وانطلاقًا واحتكاكًا من هذا الجو الهادئ الذي عم آفاق الأمة الإسلامية تبلورت وازدهرت في شبه القارة الهندية تيارات صوفية هادئة النغم تستهوي العشاق والمولهين.
أمير خسرو: قيثارة العشاق وقيس الغزليات
“الحمام الأخضر” هكذا يصفه محبوه وعاشقوه، فإنه لم يودع أمير خسرو ذلك اللغوي الموسوعي دنياه إلا وترك من الخيال أبدعه ومن الجمال أروعه، وغزت القلوب بقصائده السحرية التي لا زالت كاريزماها توطن محبة وعشقًا، لم يك مجرد شاعر يكسب ميول السلاطين ويغرورق في الثناء والمدح بل كان حامل لواء الربط والصلة بين الهندوس والمسلمين.
في الواقع إنه كان “رومي الهند”، تركي الغناء وفارسي الكلمات، وتحققت المحبة ولوعة الفراق في مشيته وفي نغمته وإيقاعاته، تسمو كلماته فتبلغ غايتها وسدرتها، وأطلق انتقادات لاذعة على المتصوفين الذين لم يعدو عن جلبابات مرقعة وأفكار مخلوعة، وظل يكافح التطرف الديني والغلو الفكري منذ أن تفيأ في ظل أستاذه ومرشده نظام الدين أولياء، كان شديد المحبة مع شيخه نظام الدين، كما كان جلال الدين الرومي يحن إلى شمس الدين التبريزي، حتى ظل خسرو باكيا على فراقه ورحيله، ومن أهم وأثمن ما خلفه خسرو هو النمط الغنائي الممزوج من اللحن التركي والهوى الفارسي المسمى ب”القوالي”، له وقع شديد في جوانب السند وفي بنجاب، بل كان له الدور المحوري في طمس غدد التطرف الفكري والتشدد الديني الذي أشغب حدود الهند وباكستان منذ زمن بعيد، لحد أن أصبح بعض من رواده فرائس الإرهابيين، كالمنشد الصوفي أمجد علي صبري إذ لقي مصرعه بعد أن اقتحم منزله حشد من الإرهابيين، بل ظل بعضهم في مرمى نبالهم وعصيهم، فالخوف الذي يخيم قلوب الإرهابية عبارة عن جوفية أفكارهم وشلل دماغهم حتى اضطروا إلى الازدراء والاحتقار بكل من يتذوق رحيق التصوف.
برغم هذه التوترات تبلورت في شبه القارة الهندية فرق تحمل لواء خسروا، وتغني حسب إيقاعاته وألحانه، وظل هؤلاء المنشدون زارعين حبوب الأمن والسلام ليكون في العالم جيلاً تجرد من عباءة التطرف والتجزف، وظلت حناجرهم ومحافلهم تضيئ شمعة الأمل وتنسف الأفئدة المفخخة وتكسح ألغام الحقد والشحناء، بل تنبعث من بطون هذه الحناجر والمنابر رسالة بأن شمس السلام ليست ببعيدة من أفق الهند وباكستان الشقيقة، وبأن أواصر الثقافة مرسخة ومعمقة في كلا الدولتين حتى لا تدوسها طغاة الحروب وعراة القلوب.
فتاريخ التصوف والصوفيين في الهند وباكستان منضبط في إطار الأخذ والعطاء، لقد انتشرت في كلا الدولتين طرق التصوف المتشابهة كالجشتية والقادرية والنقشبندية، وتشعبت هذه الطرق السائدة وبثت من خانقاهاتها رسائل التسامح والتلاحم وفعلت ما لا يفعلها الزعماء السياسيون.