دشن الشعراء الأتراك موضوعات عدة سياسية وإنسانية وثقافية، كان لها عظيم الأثر لدى العامة والخواص. ونقف في هذه السطور، على شاعرين مهمين في الأوساط الأدبية، كان لهما دور بارز في الحراك الشعري الفاعل في تركيا.
محمد عاكف أرصوي
الشاعر محمد عاكف أرصوي (1873-1936) من الشعراء الأتراك الذين أرسوا دعائم الشعر والثقافة التركية الحديثة قبل وبعد تأسيس الجمهورية التركية. فهو شاعر الأمل وصاحب نشيد الاستقلال التركي. كما أسهم في بناء الشخصية التركية من خلال نصوصه الشعرية ومقالاته وترجماته المتعددة. تتميز قصائده بالحس الإنساني الصادق الذي يعبر عن الضمير الحي للأمة التركية خاصة والإسلامية عامة. وتومئ نصوصه إلى ذلك الوعي الخالص إزاء الأمة التركية، من خلال أفكاره وقضاياه التي تبناها وضحى من أجلها. اغترب وذاق مرارة العيش في المنفى الإجباري (حلوان – مصر)، مما جعله مثقفًا مهمًّا، وشاعرًا مناضلاً تخلدت كلماته عبر العصور والأزمان راسخة في صدور محبيه ومحبي الإنسانية.
تمثل الروافد الثقافية الجانب المهم في حياة كل مبدع، وتسهم في تشكيل وعيه وحياته وأفكاره، ومن ثم صياغة قضاياه التي يتبناها فيما بعد. وقد تنوعت الروافد الثقافية في شعر محمد عاكف، حيث نشأ في وسط ثقافي علمي متميز داخل المحيط الذي ولد وترعرع فيه، ونهل من المعارف المختلفة ومن العلوم الشرعية الإسلامية والثقافية، واللغات الأخرى كالعربية والفارسية والفرنسية، بالإضافة إلى لغته الأم التركية.
إن شاعر الأمل آرصوي، من أهم الشعراء الذين ركزوا على قضايا وطنية وقومية تركية مهمة، واتخذوا من الشعر أداة للدفاع عن هذه القضايا، مما جعل الشعرعنده وسيلة من أجل غاية عظيمة وشريفة؛ تجسدت في حرية الشعب التركي، ورفضه لقوى الاستعمار في ذلك الوقت، حيث كان يدعو إلى وحدة أبناء أمته.
ومن أهم نصوصه القومية التي تغنى بها الصغار والكبار في الجمهورية التركية، قصيدة “نشيد الاستقلال”. وعندما سأله أحد الصحافيين عن أهمية نشيد الاستقلال وكيف قام بكتابته؟ أجاب: “لا قيمة لنشيد الاستقلال على اعتبار أنه مجرد شعر، وإنما تكمن قيمته في كونه يعكس صفحة من صفحات تاريخنا بما فيها من آلام”.. يقول في نشيده التركي الوطني:
لا تقلق، لن يَخمد العَلم الأحمر المرفرف في السماء
قبل أن تَـخمد فــي آخـر دارِ وطـني شـعلةُ الضـــياء(1)
في هذا المقطع تبدو بجلاء الروح التي آثر الشاعر تخليدها، وهي روح الإنسان الذي يبحث عن استقلاله وحريته، مما جعل الكثير من النقاد العرب والأتراك حنيئذ يلقِّبه بشاعر الحرية. إن عاكف أرصوي يتكئ على الحس الوطني المفعم بالحنين والشوق إلى الوصول -من خلال صوته الشعري- إلى قلوب الملايين من المسلمين في العالم.
ويقول في مقطع آخر متحدثًا عن الإنسان المسلم، وموجهًا له خطابًا شعريًّا يحمل الكثير من الإشارات الدلالية التي تمس كياناته ووجدانه، حيث إنه منوط به أن يحافظ على مكتسبات حضاراته وقيمه الإسلامية، وأرضه وثقافته من أجل الأجيال القادمة، يقول:
كــنـــتُ حــــــرًّا مــــنـــذ الأزل وســـــأبـــــقــــى حــــــرًّا
فأيُّ أحمق يستـــطيع تكبـيلي ما أعجـبه أمـــــرًا!
إن روح هذا الإنسان ما زالت تشعر بنسيم الحرية، وستظل كذلك ما دامت مؤمنة بحريتها وحرية أراضيها.. ستظل صامدة تكافح عن أبناء وطنها وقيمهم الإسلامية الإنسانية. ثم يستطرد ليقول:
ومـــهـــما أحـــــاطــــتْ الحـــصــــونُ الحــصــيــنة آفــاقَ الغــرب
فإن لأرضـي تــخـــــومًا، كصدري الطافح بالإيمان الصلب
يؤكد عاكف على أن الإيمان إذا رسخ في القلوب فلا يُهزم أبدًا. بهذه الروح، صار محمد عاكف أرصوي رمزًا خالدًا في قلوب الكثير من الناس، وذلك من خلال أشعاره ومقالاته وترجماته، بل أصبح نتاجه الشعري والنثري مرتكزًا قويًّا، انطلق منه جل الباحثين في الشعر التركي الحديث.
نجيب فاضل كِيصَكُورَك
يعدّ نجيب فاضل كيصكورك (1904-1983) سلطان الشعر التركي، ألَّف الكثير من الدواوين الشعرية والروايات، والمؤلفات التاريخية المشهورة في الأدب التركي الحديث. تناول نجيب فاضل من خلال شعره، العديد من القضايا المهمة التي كانت تؤرق المجتمع التركي، فانجرف إلى عالم السياسة، وانتقد بشدة السياسات التي كانت تؤرق هذا المجتمع.
تعرض نجيب فاضل للسجن والاعتقال أكثر من مرة بسبب الدفاع عن حريته وحرية المعتقد لدى الإنسان التركي الذي رفض العلمانية في ذلك الوقت. واجه نجيب فاضل الكثير من مشاق الحياة ومعاناتها، الأمر الذي دفعه إلى تسخير نصوصه الشعرية والأدبية في حب الوطن والبلاد.
روح التصوف لدى نجيب فاضل
بدأت علاقة نجيب فاضل بالتصوف عام 1934، وذلك عندما التقى بالسيد عبد الحكيم الأرواسي وهو من شيوخ الطريقة النقشبندية، حيث يقول عن نفسه: “ما إن دخلت على شيخي ومولاي السيد عبد الحكيم الأرواسي، أحسست بشيء يهزُّني في أعماقي، وعندما سمعت كلامه تغيرت حياتي كليًّا.. لقد مسح الشيخ عن قلبي كل الأدران والحجُب التي غطت عليه”.
ومن ثم فقد فتن سلطان الشعراء الأتراك نجيب فاضل بالمتصوفة، وخصص لهم كتابًا بعنوان “حدائق التصوف”، وهم أقطاب المتصوفة في ذلك الوقت الذين ضحوا بأنفسهم من أجل النور الإلهي. فراح يخلدهم في هذا الكتاب، أمثال الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي، والشيخ العارف بالله عبد الحكيم الأرواسي، والشيخ أسعد أفندي، وغيرهم.
وتميزت كتابات نجيب فاضل بالتنوع، والاختلاف، والجمع بين عبق التراث العربي شعره ونثره، وحداثات العالم الشعري في تركيا آنذاك؛ رغبة في تغيير الواقع ودفاعا عن حرية الشعب التركي، من أجل معتقداته وعاداته وتقاليده.
سيرة الأنبياء والأولياء
تعد السيرة الشعرية، تقنية من التقنيات التي احتفى بها الشعر التركي المعاصر. وهذه الظاهرة لم تقتصر على الشعر التركي فقط، بل سبقه الشعر العربي القديم والحديث. وأظن أن الشعراء الأتراك تأثروا بالشعر العربي تأثرًا واضحًا في هذا الجانب، ويمكن القول إن السيرة الشعرية هي مجموعة من الأحداث المتعلقة بشخصية من الشخصيات المرتبطة بالذات الشاعرة، مثل شخصيات الأولياء والأنبياء والعبَّاد الربانيين، وغيرهم.. وكان لها أثرها الواضح على الشاعر نفسه، وقد توطدت بها من خلال الأحداث والتغيرات والتقلبات.. أثرت هذه الأحداث في الحياة التي تعيشها الذات الشاعرة، أو تركت أثرًا واسعًا في نفسها.
تجلى مفهوم السيرة في “ديوان السلام”، (لوحات من السيرة المقدسة)، فقد صدرت الطبعة الأولى من ديوان السلام في عام 1972، والثانية في 1982. والديوان يتكون من ثلاثة وستين نصًّا، يتحدث في كل قصيدة عن ملمح من ملامح سيدنا محمد ، مرتكزًا على مناح عدة، يقول نجيب فاضل:
كان الزمان بَكَرة ملفوفة فُكَّتْ خيوطها..
النجوم سكرى، والأرض أظلم ليلها،
غريبة ظلالها.. الزمان كأسرار البندول،
متناقض الأطوار، لا أول له ولا آخر..
سيف أو مقص، قطع اليوم في لحظة،
كل شيء في ذلك اليوم له أول وآخِر.
المشهد السابق من المشاهد الوجودية التي تحتفي بفكرة الوجود الإنساني داخل الحياة الأرضية، ومن ثم يطرح النص الشعري مجموعة من الأفكار الفلسفية العميقة والأسئلة التي تبوح بها الذات الشاعرة للملكوت المطلق الذي لا إجابة بشرية مقنعة فيه.. كما تسيطر الروح البائسة والذات المتناقضة على سطح النص الشعري، وكأننا أمام حوادث هلامية ستحدث في هذا العالم الأرضي البائس.. وتلكم الغاية والهدف من هذا التوحد في البشارة الأخيرة، وهي أن الشاعر نجيب فاضل يستدعي لحظة ميلاد النبي محمد في مكة، وقبل هذه اللحظة كان الزمان غير منتظم والحياة قاسية، والمكان ظلام.. وعندما أتى النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم إلى الدنيا، تغير حال الناس وحدثت المعجزات الكبرى.. والأرض تسبح وتدعو الله كثيرًا، وأخذت ترسل الدعاء للسماء شكرًا لله واعترافًا بفضله وقوته وعظمته.
وتعتمد القراءة الثقافية في شعر نجيب فاضل على تلك الرؤية التي نسجها الشاعر عن تراثنا العربي، وكيف كانت الحياة قبل بعثة النبي محمد ، تلك النظرة التي اختلطت بها مشاعر الذات، وحاولت الاحتماء بما هو أكبر وأعظم من الذات الضعيفة التي يسطِّر عليها الحزن والقهر. كما يقول نجيب فاضل في قصيدة النور:
نور مطلق منذ القدم
كان له وجود والدنيا عدم..
تضرع آدم إلى الله لما غوى
أن يغفر له بجاه نور المصطفى..
في جبين آدم نور مبين
انتقل من بعده لأحد المرسلين
لا يحجبها حرف، أو ظرف، أو حجاب
ثم انتقل النور الإلهي وسرى..
لست أدري ممن؟ لمن بين الورى؟
من إبراهيم وإسماعيل،
وغيرهما ممن اجتبى
وظل ذلك النور كاللواء
الذي ينتظره منذ الأزل
ذاك النور سرّ يفوق الضياء
أظهر الموجودات في جلاء وخراب ويباب..
النبي الخاتم النبي الخاتم
خرج منه النور وإليه عاد
فأشرقت به الوهاد والنجاد
إن الحديث عن النور السماوي الذي انبثق من السماء إلى الأرض، من الأحاديث التي خلبت العقل البشري، وجعلت العقل الجمعي في حيرة من أمره وظل يطرح أسئلة لا إجابة لها في العالم الأرضي، ومن ثم فقد جاء الحديث عن النور الإلهي في هذا النص، مرتبطًا بالحديث عن النور البشري المتجسد في شخصية سيدنا محمد .. فهو نور من عند الله ، فيه صفات البشرية كما حدثنا القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا عن خَلْقِ إمام الأنبياء محمد وخُلُقه.
تعتمد الذات الشاعرة على طرح قضية النور وماهية هذا النور، من خلال إثارة الأسئلة الغامضة.. ويعد النور رمزًا مهمًّا لدى المتصوفة ومنهم نجيب فاضل الذي اتحد واستمسك بهذا النور؛ لأنه بمثابة الملاذ الحقيقي لحرية الذات من براثن الجهل والضياع، ولأنه يدافع عن حقوق الإنسانية بصفة عامة.
ولهذا فإن الشاعر نجيب فاضل يعدّ من أهم الشعراء المتصوفة أيضًا في الأدب التركي الحديث. ولا تخلوا دراسة عن الشعر التركي من نصوصه. ومن ثم فقد كان لزامًا علينا نحن العرب والمسلمين، أن نتطلع إلى آفاق أخرى في ظل حوار الحضارات والثقافات المتعددة، التي تؤدي فيما بعدُ إلى حوار الشعوب، من خلال الشعر والفن.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.
الهوامش
(1) مقاطع محمد عاكف أرصوي الشعرية من تصرف المحرر.