نحاول في هذا المقال أن نستكمل ما كنا بدأناه في مقال سابق نشر في العدد 42 على صفحات مجلة حراء الغراء، مقال يأتي على ما تبقى من الكلام عن “مشروع الخدمة من عين الواقع”، لكن هذه المرة من حيث المبادئ والمجالات. سنمهد للكلام بالحديث عن الواقعية والتعدد، وعن طموح الأستاذ محمد فتح الله كولن. نتكلم في المبادئ عن العمل أولاً، وعن الوقف الذي هو شريان الحياة في المشروع. أما المجالات فسنشير فيها إلى الأسرة والخدمة، نتناولهما من منظور مغاير عن النظرة السابقة، لأنهما يهمّان مجالاً حيًّا في المشروع وهو “إنسان الأسرة”، وإلى الإعلام والعمل الإذاعي والصحفي الذي يشكل لسان جسد المشروع، وإلى الاقتصاد المتمثل في التجارة والشركات التجارية والأبناك… وهي كلها مبادئ أساسية في مشروع الخدمة، ثم التجارة، والأبناك، ورجال الأعمال، والكل له صلة بالمال الذي هو عصب حياة المشروع.
ولقد آثرت ألاّ أوغل في التراث لتأصيل هذه العناصر أكثر من اللازم، وألاّ ندخل في شيء من النقد والرد، كما آثرت ألاّ نسقط على الموضوع آليات البحث العلمي وطرائق التحليل الأكاديمي. لقد أردته أن يكون موضوعًا خفيفًا لطيفًا يرصد التجربة من عين الواقع، يتأملها في ضوء المعطيات العيانية، ثم يعيد صياغتها بالفكرة التي تصلح والعبارة التي تليق، لا مكان للعاطفة الجياشة، ولا للمعالجة العقلانية الجافة، ولا للتحليل النظري المعلق.
الواقعية والواحد المتعدد
مشروع الخدمة من حيث مكوناته وأساليبه، هو ذاتي التكوين، لم يَستعر هذا المشروع تنظيمه وأساليبه وهيكلته من غيره، لكنه في عمومه استوحى التجربة من التراث الإسلامي، نعني بذلك التوجيهات النبوية وآراء السلف الصالح، ثم معطيات الواقع الذي لا يرتفع. إن السر في نجاح المشروع يكمن في الاستلهام من التراث، ومن توظيف الطاقة والقدرات. ولو كان مقتبسًا من غيره لكان نصيبه الفشل، والتجربة لا تكون ناجحة إلا في واقعها وبواقعها.
يجب الإشارة إلى نقطة مهمة جدًّا قلما ينتبه إليها الباحثون في فكر الأستاذ محمد فتح الله؛ ذلك أن مجمل الأعمال الفكرية والثقافية التي أنجزها إنما هي نتيجة الاستفادة من التاريخ، ونعني بـ”التاريخ” دراسة أسباب سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا. لقد استفاد الأستاذ من أسباب السقوط، ومن موقع السقوط، بحث في أسباب النهوظ وهو المتمثل في الخدمة باختصار.
إن الواقعية التي نتكلم عليها هنا، هي واقعية الفكر، وواقعية التصور، وواقعية التجربة، وواقعية الفهم والعلم، وواقعية الحركية والتفاعل… الواقعية هنا متعددة الأبعاد، ويحلو لي أن أصف الأستاذ محمد فتح الله بـ”الرجل المتعدد”. إذ لو لم يكن التعدد موجودًا لما امتد منه هذا التعدد، تعدد ملموس في داخل تركيا وفي خارجها، لو لم يكن التعدد موجودًا، لما تمكنت آراء وأفكار وتصورات ومذاهب وملل ونحل وفلسفات من التوحد حول طاولة الأستاذ، وهي تجربةٌ أساسُ نجاحها هو الطموح، وهي النقطة التي سنتولى الإشارة إليها في المعالجة الآتية.
إذا جاز لي أن أصف الإنتاج العلمي والتربوي للأستاذ محمد فتح الله كولن، فإنني أقول إنه بمثابة صيدلية عامرة تحوي عقاقير متنوعة ومتعددة، كل واقع يستلهم منها ما يراه مناسبًا لدائه. الداء واحد لكن لا أحد ينكر أن مضمونه مختلف، لذلك جعل لكل واحد جرعته، سواء أكان هذا الواحد رجلاً أم امرأة، شابًّا أم كهلاً، مجتمعًا أم دولة، مسلمًا أم غير مسلم… ومنبع هذا التعدد، هو التمكن من فهم الواقع أولاً، ومن ملامسة مشاكله. فالناجحون في الدعوة هم المتحكمون في فهم الواقع وفهم مشاكله بغية معالجتها. العشرات من الدعاة اليوم، يملأون الشاشات يوجهون ويعظون ويرشدون؛ وها هي خطبة الجمعة -مثلاً- تقام في بقاع العالم الإسلامي، ويحضرها جمع غفير من المصلين، لكن الخطباء ما استطاعوا -في بعض البلاد الإسلامية- أن يزيلوا من الناس ظاهرة واحدة من الظواهر المذمومة وما أكثرها، والأغرب أنها في توالد وتكاثر.
لقد سعى الأستاذ محمد فتح الله كولن إلى إنتاج الخير وزرعه ليكون في كل مكان حتى يعمّ، وإذا عمّ المكان امتد في الزمان ليكون المستفيد الأول منه هو الإنسان.
طموح محمد فتح الله كولن
لا يمكن للأستاذ محمد فتح الله كولن، أن يتخلى على خصوصيته كطفل نشأ في بيت محافظ، بيتٍ تربى فيه على القيم المعنوية والأخلاق المثالية، ونشأ في جو التعليم التقليدي الكلاسيكي في الكتاتيب والمدارس الدينية التي أنهى بها دراسته، وهي معاهد ومدارس لم تكن في المستوى المطلوب في ذلك الوقت. لكن الطموح والتميز كانا في أعماق هذا الطفل الذي كلما كبر ونما، نما معه طموحه. كلما نما الإنسان الطموح نموًّا مثاليًّا، نما معه طموحه، وكلما انحرف، انحرف نمو الطموح. لكن نمو الطفل محمد فتح الله كان مطردًا، ليستقر به الحال في مهمة الدعاة والمربين الأخيار. لقد سخّره الله تعالى لشحذ الهمم، وصقل الأرواح، وتنمية المدارك، وإذكاء العقول… وها هو بطموحه الفياض، يتمكن من زرع الطموح ومن تنمية الطموح؛ وهو طموح يتقد بالمشاكل، وينتعش بالقلاقل، وينمو في ظل الاختلافات والفتن.
مبادئ الخدمة
1-العمل: العمل من حيث من يقوم به على نوعين: عمل فردي وعمل جماعي. العمل الفردي عمل ضعيف، لا يصمد ولا يؤثر لا سيما في هذا العصر. وفكر الأستاذ كولن هو فكر لأجل العمل، وكلام لأجل الممارسة. فكل ما صدر عنه له صلة بالعمل ولا شيء غير العمل. ولعل السر، يكمن في عنصر الإخلاص. البنايات ليست هي كل شيء، ففي العالم بنايات ومرافق ووزارات وكليات… إذا غاب منها الإخلاص، كانت ركامًا من الإسمنت الصلب كصلابة القلوب التي تديرها. ولقد أفلست الحضارة، حين غاب منها الإخلاص، لأنه إذا غاب الإخلاص حصل الإفلاس.
2-الوقف: تعول الخدمة في جانب كبير منها على الوقف؛ فالوقف هنا، ليس كلامًا يردد في هذا الحديث أو ذاك، أو شعارًا يرفع من موقع مآزق الإيمان الصعبة، بل هو تربية وخلق وسلوك يتسم بالمنافسة المشروعة وبنكران الذات. نرى العمل ولا ندري كيف تم، تراه ماثلاً أمامك ولا تدري متى أُنجز، تعاين المنجزات قائمة شاهقة أبراجُها في السماء تنعكس على الإنسان والحضارة والعمران دون أن يذكر أصحابها.. منجزات أوقفوها في سبيل الله صدقة جارية وتواروا خلف الجدران، ومنهم من توارى خلف التراب، تاركًا ما أوقف أمانة في أعناق الخدمة. وقد امتد هذا الوقف خارج تركيا، لقد استطاع الوقف أن يتعدى عتبة الحدود والقيود إلى ساحة العالم الإنساني كله… إنها الخدمة التي تسير من دون مواثيق ولا معاهدات، ولا دفاتر يتباهى بها، ولا سجلات تُحرِج أحدًا، ولا قانون ملزم داخلي أو خارجي ملزم، ولا يُفعَل من هذا كله إلا ما اقتضته ضرورة التسيير الإداري، وإلا فمجال الخدمة مفتوح.
3-التربية والأخلاق: حرص الأستاذ محمد فتح الله كولن على التربية؛ تربية الجيل الذي أطلق عليه نعت “الجيل الذهبي”، الجيل الذي تربى على الخدمة. لكن الخدمة هي في حاجة إلى خدمة، وخدمة الخدمة هي التربية الإسلامية في صفائها ونقائها، وفي إطارها العلمي والمعرفي. لقد أدرك الأستاذ أنه لا خدمة من دون تربية، تربية كان يبدأ فيها دائمًا من نفسه، ثم يمتد لينشئ الجيل الذهبي، ومعناه الجيل الغالي والنفيس لأنه أغلى ما هو موجود في المجتمع، جيل أُعيد إليه الوعي بدينه وحضارته وقيمه، جيل ساهم هو بدوره في إعادة الوعي للشعب التركي، هذا الشعب الذي طُمست هويته ردحًا من الزمن.
إلى جانب عنصر التربية هناك عنصر “الأخلاق” أيضًا، الأخلاق التي حولها الأستاذ من أخلاق فردية إلى أخلاق اجتماعية، ومن أخلاق خاصة بالذات إلى أخلاق متعدية إلى الغير. ويمكن القول بأن الأستاذ سخّر مجمل النظريات والأفكار والآراء الخلقية في سبيل الخدمة. ولا خير في أخلاق لا تؤدي وظيفة الخدمة أو تعين عليها، إنها الأخلاق العملية المتمثلة في التعاون والتكافل والتآزر والتآخي… فلا يكون الفرد متخلقًا في عرف الخدمة إلا إذا كان عونًا لغيره. تلك هي” الأخلاق العملية” التي من خصائصها الوسطية والاعتدال، وهما خاصيتان أساسيتان في الأخلاق الإسلامية، فبقدر ما نتكلم عليهما نظريًّا بقدر ما يجب أن نتعامل بهما واقعيًّا، فالرجل الصالح يُكون الإنسان الصالح، والرجل الصالح يُؤلف الكتاب الصالح، والشركة الصالحة تُسهم في نشر الإنتاج الصالح، والإذاعة الصالحة تبث الأخبار الصحيحة والسليمة والصالحة… فالإنسان الصالح -في بداية المطاف ونهايته- هو ثمرة غالية، وهو ما تحاول الخدمة أن توجده وتُكوّنه.
هذا الالتفاف العجيب حول شخص الأستاذ كولن هو سر نجاح الخدمة، وهو التفاف يعكس وحدة المرجعية ووحدة التصور ووحدة الفكر ووحدة التربية والأخلاق ووحدة العمل والممارسة… وهي وحدة ضمنت للخدمة وحدة الهدف والقصد؛ الكل عرف ما قصد، ومن عرف ما قصد هان عليه ما وجد.
4-الحوار:نعاود الكلام عن الحوار مرة أخرى لأهميته، فالحوار ليس رهينا بفترة زمنية محددة أو بحالة معينة، بل يسري على الزمان والمكان والأحوال. وهو خصيصة ثقافية في عرف الخدمة، لذلك حسبناه من المرتكزات. لقد أنبئنا بأن الحوار -على مستويات متعددة- بدأ بين الأيديولوجيات، ثم بين الأقليات، ثم بين الحضارات والثقافات، فتطور إلى الأديان والمعتقدات. لقد زار ممثل الفاتكان الأستاذ وحاوره وتكلم معه، ورتب له زيارة إلى البابا بإيطاليا. ويذكرون أن ممثل البابا لفظ أنفاسه في مستشفى “سماء” وهو المستشفى الذي كان يتعافى فيه الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، وهو من مؤسسات الخدمة. ويذكرون أن الممثل ربما مات على دين الإسلام، لأنه همس في أذن الأستاذ بشهادة التوحيد، وكان قد أصيب بحادثة سير في إيطاليا طلب على إثرها الانتقال إلى تركيا، وكان من وصيته أن يغسل ويكفن ويدفن على طريقة إخوانه المسلمين هنا في تركيا، وكذلك كان.
لم يكن إخوة الخدمة يحتكرون الحوار من دون الملل والمذاهب والنحل، بل كان للنصارى -مثلاً- قاعة للحوار، لكنها كانت شكلية لم يجن منها المسيحيون غير الخسارة. أما إخوة الخدمة، فقد كان الحوار عندهم متميزًا جدًّا؛ فقد كانوا يربحون في كل مرة، وأقوى ربح هو أنهم ربحوا النصارى أنفسهم حيث بدأ أبناؤهم يتوافدون على مدارس الخدمة، ثم إنهم ربحوا فئة من الشعب التركي وهي فئة الأغنياء والأثرياء، هؤلاء كانت أصولهم إسلامية لكن تدينهم كان ضعيفًا جدًّا، لا يعرفون معنى الشهادة ولا القبلة ولا الإيمان، ومنهم من ينزعج من الأذان وإقامة الصلاة ويهاب الشعائر، هؤلاء هم الذين يطلق عليهم “الأتراك البيض”، وكانوا من حكام تركيا، وجلّهم تربوا في المدارس الأجنبية. هؤلاء هم الجيل الضائع، وهم الفئة المعادية وقد تملكهم الغرور حتى أصبحوا يحسبون أنفسهم بأنهم فوق الناس، لأنهم -حسب ظنهم- يمثلون الإنسان الأناضولي الممتاز، لكنهم بفعل الحوار الهادئ والمنهجي تغيروا كثيرًا.
لقد كان إخوة الخدمة، يربطون الجسور مع كل الطوائف والفئات والاتجاهات في تركيا؛ علويين، أتراكًا بيضًا، علمانيين، اشتراكيين، شيوعيين… واستطاع الجميع أن يتمثل على الأقل أهمية الحوار وضرورته، ومن هنا لم يعد أحد يقف ضد الحوار. فكان هذا أكبر مكسب في تجربة الخدمة.
استطاعت التجربة أن تقلب الموازين وتغير الكثير من المفاهيم المغلوطة؛ فمن الأفكار الرائجة -مثلاً- في تركيا، أن كل مسلم هو متخلف ورجعي وأصولي ووثوقي، يميل إلى العيش في غياهب الماضي فينسى الحاضر والمستقبل. لكن المروّجين لمثل هذه الأفكار تفاجأوا، لأنهم وجدوا أمامهم جيلاً -من أبناء الخدمة- من الفئة المتحضرة والمتمدنة، جيلاً إنسانيًّا متخلقًا وتواصليًّا بامتياز، جيلاً وهب نفسه لخدمة الإنسانية، وتطوَّر النعت القدحي من الرجعية إلى المحافظة، وبدأوا يرسلون أولادهم إلى معاهد ومدارس الخدمة، ووقفوا على تخلّفهم وعلى قصور نظرتهم، وبدأوا يدركون -على مر الوقت- أن الإسلام ليس كما يتصورون.
مجالات الخدمة
أ-الأسرة والخدمة: حين تصبح العلاقات العائلية والأسرية كلها في “خدمة” الخدمة، حين يصبح أفراد الأسرة كلهم أطرافًا في الخدمة، تتحول الخدمة إلى “عائلة كبيرة”. فأولاد الفرد من الخدمة هم أولاد الناس كلهم، وأولاد الناس كلهم هم أولاد كل فرد من أفراد المجموعة. كل النساء أخوات هنا، الكل في خدمة الكل. هنا تذوب الأسرة الصغيرة في إطار الأسرة الأكبر، وهي مقدمة نحو أن يصبح المجتمع كله كالأسرة الواحدة. ولذلك فإن أبناء الخدمة، لا يتضايقون من مساعي الحكومة التركية في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي؛ ذلك أن كل ما هو اتحاد، تحب الخدمة أن تكون فيه. وهذا من شأنه أن يحقق للاتحاد الأوربي نفسه، مزايا كبيرة ما دام من مستلزمات السياسة الأوربية التركيز على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي أمور تحققت في برنامج الخدمة عمليًّا. لن تكون هذه الخدمة شكلية أو تجنى من ورائها مصالح مادية أو مكاسب سياسية، بل هي تتماشى مع المتطلبات الحقيقية للمصالح الأوروبية المتمثلة في الصناعة والتعليم والتجارة، وهي أمور قطعت فيها الخدمة شوطًا بعيدًا .
إن أوربا شاخت، وأصبحت في طريق أن ينطبق عليها ما كان ينطبق على الإمبراطورية العثمانية في عهودها المتأخرة حين نعتوها بـ”الرجل المريض”. والنعت التي ينطبق عليها حاليًّا هي أنها “قارة عجوز”. فهي بحاجة إلى أجيال فتية، وهذه الأجيال لا توجد سوى في تركيا من ناحيتين: من حيث الموقع، ومن حيث المصالح المشتركة. فلا مناص لأوروبا من التكامل مع تركيا، ثم هناك ناحية أخرى، وهي أن أوروبا تتواجد بها أجيال من تركيا معروفين بالعمل والجد والاجتهاد، برهنوا من خلالها على كفاءاتهم وإخلاصهم. لهذا السبب، سعى إخوة الخدمة إلى تهيئة أنفسهم للاندماج في المجتمع الأوروبي وخدمته، بالطرق التي يسعى لتحقيقها وهي بناء الإنسان مع غرس المقومات والمبادئ.
بـ-الإعلام: لست بحاجة هنا إلى سرد مجمل إنجازات الخدمة في مجال الإعلام الذي تعددت واجهاته: الإذاعات، والقنوات، والمجلات، والصحف… فهذا شيء كثير -ولله الحمد- لكن يكفي أن نذكر من هذا الإنجاز، جريدة “زمان” التي لا تقف أمامها أية جريدة. كما قمنا بزيارة مقر الإذاعة بتاريخ 29/01/2013 التي قدم إلينا مديرها شروحات مستفيضة عن توظيف القضايا الدينية والعقدية يطول بي المقال في بسطها وشرحها.
إن أكبر نجاح حققه إعلام الخدمة، هو أنه تصدى للإعلام الكاذب ففضح أساليبه وخططه. وتَحقَّق من هذه العملية أن الإعلام المضاد خفف من حدة التمويه والزيف والتضليل، ورام إلى الصدق خوفًا من المنافسة والإقصاء. لم يفعل هذا وعيًا منه بمسؤولية الكلمة، بل كان دافعًا من فعل الخوف من إعلام الخدمة.
الاقتصاد
1-التجارة: نعني بالتجارة؛ المعاملات التجارية، ورجال الأعمال، والشركات التجارية. والتجارة هي كل شيء لأن لها صلة بالمال، والمال عصب الحياة، وأحد الضرورات الخمسة التي جاءت به الشريعة الإسلامية. وهي -قبل هذا وبعده- سنّة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان تاجرًا، وأجداده تجارًا، وكذلك قبيلته التي ذكرها الله في محكم التنزيل، وتزوج من تاجرة، وبقي يشتغل بالتجارة حتى نزل عليه الوحي. وهذا يبين -أولاً- على أن الوحي نزل على تاجر، وتوسع في أوساط التجار، وهذا يبين -ثانيًا- على أن التجار هم عمدة المجتمع وأساسه. فقد ساهمت تجارة الصحابة رضي الله عنهم في تنمية المجتمع حتى إن الله تعالى ضرب بها الأمثال في القرآن الكريم. لكن المسلمين تقاعسوا في الاهتمام بـ”التجارة” ولم يعطوها حقها الذي تستحقه، فأُتُوا منها. ولكن أبناء الخدمة لم يُهملوا هذا المجال المهم؛ ففي سنة 2005 أقيم ملتقى عالمي ضمّ تجار الخدمة وتجارًا من خارج الخدمة، منذ ذلك الوقت، انعقد جسر الملتقى العالمي للتجارة، واستطاع تجار الخدمة أن يجمعوا حوالي 180 ألف تاجر من مختلف أنحاء العالم، كان الغرض منه تلافي الإفلاس التجاري، وحتى الذين أفلسوا، استفادوا من إفلاسهم فأخذوا الوقاية والعلاج في آن واحد.
كان وراء ذلك فئة من الشباب الذين وفرتهم الخدمة، والذين تتراوح أعمارهم ما بين 26-32 سنة، وضعوا لجانًا حسب الاهتمامات، ونظموا أنفسهم تنظيمًا محكمًا. وأطلقوا على منتداهم نعت “لونجا” وهو منتدى معروف في تركيا، يلتقون فيما بينهم فيتحاورون ويتشاورون ويتعاونون فيعقدون صفقات مع بعضهم. والهدف من هذه الملتقيات، هو الانفتاح على العالم الخارجي. وجرى الانفتاح مؤخرًا على القارة الإفريقية بصفتها قارة بكرًا كما يعتقدون. هؤلاء كلهم أعضاء في اتحاد “توسكون” الذي تطور إلى مؤسسة كبيرة، بحيث أصبحت أكبر التجمعات لتجار تركيا، كانت تضم في سنة 2005 حوالي 600 جمعية، ولا ندري ربما زاد العدد الآن.
ومن المواصفات التي حددتها مؤسسة توسكون للتاجر: النظرة إلى الأفق لا إلى الثروة. الاهتمام بمن له رغبة في الحركة التجارية. الاهتمام بالتاجر الصغير ليصبح تاجرًا كبيرًا في المستقبل.
وفضلاً عما سبق، فإن الخدمة حريصة على توفير جو يليق بالتجار، لأن للتجار عالمهم الخاص بهم، فهم لا يجالسون العلماء والمثقفين، لأن للتجارة أسلوبها وثقافتها. ورجال التجارة يخافون على أموالهم، لأنهم لا يملكون شيئًا غير المال. فسر التجارة هو البحث عن الأسواق التي فيها الخصب، وهم دومًا يبحثون عن الربح. لكن التجارة هنا في تركيا -وفي تجارة الخدمة بالذات- الأمر يختلف؛ فهم يجلسون ويجالسون، ويأنسون ويستأنسون، ويأخذون ويعطون، فيتعاونون ويتساعدون… وهم جنود في الخدمة، والخدمة تعول عليهم كثيرًا. لذلك أضافت التنظيمات التجارية -المتحدَّث عن بعضها سابقًا- بعدًا آخر لمدى الوحدة والتوحد لأجل التعاون، وفتح آفاق التجارة والعمل بغية النماء والاستثمار. في هذا الاتحاد يلتقي الشباب بالشيوخ، فيستفيدون من تجربتهم، وينهلون من معين خبرتهم. وهل يستغن الشباب عن الشيوخ؟ اللهم كلا.
كان من أهداف الكليات والمعاهد المتخصصة في إدارة المال والأعمال على مختلف تسمياتها، أن تخرج منها أبناء التجار الذين يستوعبون تجارة آبائهم، ويحافظوا عليها، ويطورونها نحو الأجود والأفضل. وقد ضمنت الخدمة نوعًا من التواصل التجاري بين الشباب والشيوخ، والآباء والأبناء.. تواصل قائم على الاستمرارية والديمومة، وينبني على قيم وأخلاق التجارة. فالتجارة القائمة اليوم، تقوم على الغش والاختلاس والاحتكار واستنزاف الآخر، وهذا يؤدي في النهاية إلى الإفلاس. وإذا أفلست التجارة أفلس الاقتصاد، وإذا أفلس الاقتصاد أفلس المجتمع. ذلك ما تحاول تجارة الخدمة أن تتلافاه، ومصائب قوم عند قوم فوائد.
2-الشركات التجارية والخدمة: كان للتجارة وللتنظيمات التجارية نصيب من التربية والتوجيه، ونصيب من الخدمة أيضًا، بل سخّرت كلها للخدمة. وقد أولى الأستاذ محمد فتح الله كولن للشركات التجارية قيمة كبيرة، وذلك لأهمية المال والاستثمار والأعمال في الحياة اليومية للإنسان بصفة عامة. وقضية التجارة والتجار هي قضية مهمة في تاريخ الحضارات الإنسانية منذ القدم. لماذا لا تعول الخدمة على التجارة والتجار، والحضارات الإنسانية إنما بدأت بالتجارة وازدهرت ونمت بها. وقد أدرك الأستاذ كولن -بتجربته وبثقافته الواسعة- أن للرحلات التجارية دورًا كبيرًا في استعمار الشعوب، وهو موضوع يطول بنا المقال في سرد تفاصيله، لكننا نقتبس جازمين أن كثيرًا من الشركات التجارية الغربية التي حطت في الشرق، كانت مؤسسات استعمارية، أما شركات الخدمة فهي شركات إنسانية، دعوية وتكافلية. فهي شركات -كما سماها أحد أبناء الخدمة الفاعلين- “شركات الفتح المبين”.
3-الأبناك: إلى جانب الجهود السابقة المباركة، تقف الأبناك ماثلة في مشروع الخدمة، من هذه البنوك -مثلاً- بنك “آسيا”. ولا تُعرف قيمة مثل هذه البنوك إلا في شيوع الأزمات؛ في الوقت الذي تتضايق فيه بعض الأبناك وتفلس أخرى، تبقى هي صامدة حية تقدم خدمتها بكل ثقة. للأزمة مدلول قدحي الدلالة، لكنها حين تكشف الحق من الباطل، والزيف من المغشوش، تصبح الأزمة رحمة. لقد واصل بنك آسيا مشروعه حتى عقد مع البنك الدولي اتفاقيات صارمة، وهو بنك إسلامي، والصعوبات في طريق هذا النوع من الأبناك لا بد منها، لكن بنك آسيا كان يتكيف مع الوضع.
ذلك هو الاقتصاد في مشروع الخدمة بأبعاده الثلاثة، وتلك هي مبادئ المشروع ومجالاته الأساسية نبعت من موقع المعاينة والمشاهدة، وليس من سمع كمن رأى.
(*) أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بجامعة القاضي عياض في “مراكش” / المغرب.