بعد أن تيقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن مكة لم تعد تصلح أرضًا تؤوي الدعوة وتحميها بل تهدد وجوده، كان لابد من أرض جديدة تنطلق منها ليتسنى انتشارها ومجابهتها الباطل، وكان الاختيار الدقيق لأرض لها سمات أبرزها: ذات قدرات اقتصادية، وموقع طبيعي حصين، ومنافذ وقنوات اتصال خارجية، وبها أنصار للدعوة الناشئة، يضحون في سبيلها بالنفس والمال، صفات تحلت بها المدينة المنورة.
الجوانب الأمنية في الإعداد للهجرة الشريفة
عندما عزم النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة اختار، وقت الظهيرة لإيصال “المعلومة” لصاحبه “أبي بكر” رضي الله عنه ليرافقه، وكانت ساعة لم يعتد زيارته فيها، وحضر متلثمًا “لإخفاء شخصيته”، ولما دخل البيت، قال: “أَخْرِجْ عني من عندك”. وهذا احتياط لخطورة الأمر، فأي تسرب باكر للمعلومة ستكون عواقبه وخيمة على الدعوة وقائده، ولم يُعط صلى الله عليه وسلم، المعلومة كاملة للصديق أمام أسرته. فأخبره بالهجرة فقط، دون تحديد مكانها ووجهتها، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم “علياً”: “نم في فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم”، وهذا “تمويه” للأعداء.
حسن اختيار الدليل في الطريق
استأجر صلى الله عليه وسلم دليلاً ماهرًا عالمًا بأقصر الطرق ليثرب، وهو “عبد الله بن أريقط”، وكان على دين قريش. إن المنطق الظاهري يقتضي عدم اختيار “عبد الله بن أُريقط” دليلاً لأخطر هجرة في تاريخ الدعوة، لكن تقدير الرسول لشخصه بأنه “أمين وصادق”، لا يمكن أن يبوح بهذا السر، جعله يسند له تلك المهمة الخطيرة. وحقا لم يخبر قريشًا، بالرغم من الإغراء المادي الضخم الذي عرضته لمن يدل عليه صلى الله عليه وسلم. وهذا دليل على نقاء معدن الرجل، وصِدْقِ فِرَاسة الرسول صلى الله عليه وسلم.
حين يبلغ الجهد البشري مداه المطلوب، وحين تستنفد الطاقة البشرية، فإن الله تعالى يرحم عبده المؤمن، ويحفظه من كيد الأعداء.
من الدار حتى دخول الغار
كانت البداية الفعلية للهجرة من بيت “أبي بكر”، ثم التوجه للغار، وتشمل عدة جوانب أمنية وقائية هامة:
– التوقيت المناسب للخروج: غادر صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة سبع وعشرين من صفر، وأتى دار رفيقه أبي بكر، وغادرا من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل طلوع الفجر. فقريش لن تكشف حقيقة الأمر إلا بعد طلوع الفجر، بعد قيام “عليّ” عن فراشه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حدث فعلاً.
– الخروج للغار سيرًا على الأقدام: فيجعل أثرهم أقل وضوحًا مما لو كانا راكبيْن، وركوب الدواب ليلاً مُلفت للأنظار، مُفسد للخطة، كما أن حركة الرواحل يصدر عنها صوت، مما يجعل الركب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الركب، أو تستوقفــه لتستوضــح أمــره، بعكــس السيـر على الأقـدام فلا يحدث صوتًا.
– التمويه في الخروج للغار: يقع غار “ثور” جنوبي مكة، بينما الطريق المؤدي ليثرب يقع شمال مكة، وهنا تبدو دقة التخطيط، والاحتياط الأمني: “ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا ستجدّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيس المتجه شمالاً، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الواقع جنوبي مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلاً يعرف بجبل ثور”.
أثناء الإقامة بالغار
رغم جهود التمويه والاختفاء والسرية.. وصلت قريش لمكان الغار، سواء أكان ذلك عن طريق تتبع الأثر، أو المسح الشامل لجبال مكة بحثًا عن الرسول وصاحبه. وكانت قريش قاب قوسين أو أدنى من بغيتها، حتى قال “أبو بكر”: “يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا”، وهنا تدخلت العناية الإلهية، فرأت قريش على باب الغار نسج عنكبوت، فقالوا: “لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فرجعت قريش عن الغار”. فحين يبلغ الجهد البشري مداه المطلوب، وحين تستنفد الطاقة البشرية، فإن الله تعالى يرحم عبده المؤمن، ويحفظه من كيد الأعداء.
وتحتاج الإقامة في الغار ثلاثة أيام، لزاد معد وجاهز من بيت الصديق، فأي محاولة لإشعال نار لإعداد الطعام تعتبر قرينة ستقود قريش للغار: “وكانت أسماء تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما”.. كما أن عامر بن فُهَيْرَة كان يحلب لهما اللبن من غنم أبي بكر.. وقال ابن الأثير: “فأقاما في الغار ثلاثًا”، وهذا تصرف أمني اقتضته ظروف الزمان. فهذه المدة الزمنية ربما كانت مرتبطة بمعلومات من “عبد الله بن أبي بكر” تشير لخفة الطلب عليهما بعدها. كما أن الاستمرار أكثر من ذلك سيلفت النظر من قِبَل قيادة قريش، حين يتكرر المرور عليهما والذهاب إليهما، من قِبَل أسماء وعبد الله وعامر بن فهيرة. وهذه المدة كافية لتدرك قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أفلت منهم، وأبتعد مسافة تمكنه من الوصول لمأمن، أو التحق بقبيلة أخرى، فيدب اليأس في نفوسهم، ويتراخون عن مطاردته، فتسنح الفرصة للإفلات منهم.
من الغار إلي المدينة المنورة
بعد خمود نار الطلب، وتوقف دوريات التفتيش..، تهيأ صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج للمدينة المنورة، وصاحب التحرك جوانب حذر منها: التمويه في التحرك من الغار حيث إن أول ما سلك بهم “عبد الله بن أريقط”، بعد الخروج من الغار، أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالاً على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحـــد إلا نـادرًا، ومــا ذلك إلا إمعانًا في التمويه ومزيدًا من الحيطة. وكذلك السرعة في السير عقب الخروج من الغار، فعيون قريش منتشرة، والمطاردة لم تنته بعد، لذا أسرع صلى الله عليه وسلم عقب خروجه من الغار، واستحث رواحلهم لقطع أكبر مسافة في أقل زمن ممكن.
كان النبي صلى الله عليه وسلم دقيقًا في خطواته، ويقظًا في تعاملاته، ويُعد لكل شيء عدته، ويتحسب لكل حدث وحديث، ويتحري لمن يدعوه ويستعمله ويٌرسله، ويحرص علي نبتته الدعوية وإتمام رسالته الخاتمة.
وبعد التخطيط الدقيق.. تمكنت قريش من تلقي معلومة تفيد أن ركب الهجرة يجد في السير تجاه المدينة بطريق الساحل المهجور. وهنا تبرز عدة جوانب منها: الحس الأمني لسراقة بن مالك، وقدرته البارعة في اقتفاء الأثر وشخص بهذه المواصفات، كان يمكن أن يشكل خطورة كبيرة على ركب الهجرة المبارك، ولكن تدخلت العناية الإلهية، فحالت بينه وبين النيل من الركب المأمون. كما تظهر حكمته صلى الله عليه وسلم في استغلال عدوه كي يصبح عونًا له في صد الطلب عنهما، فقال لسراقة: “أَخْفِ عَنَّا”، فرجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما هاهنا.. وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما.
وكان “أبو بكر الصديق” معروفًا لدى معظم سكان الطريق، لاختلافه للشام بالتجارة، فركب خلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يمر بالقوم فيقولون: من هذا الذي بين يديك يا أبا بكر؟ فيقول: هذا الرجل يهديني الطريق… وذلك “تورية” منه، فطالما أن الرسول هو هدف قريش وبغيتها، ورصدت للعثور عليه مائة ناقة تجعل من يسمع بهذه الجائزة يجتهد في الرصد، لذا لم يكشف الصديق عن شخص الرسول، بل اكتفى بالتورية، دون أن يكذب.
اختيار طريق الهجـرة ودخول المدينـة
ركزت قريش على طلب أي ركب يتألف من شخصين، لكن حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، جعلت من أفراد الركب أربعة أشخاص، فانضم إليهما الدليل “عبد الله بن أُريقط”، و”عامر بن فُهيرة”. وهذا العدد “الرباعي” يبعد الشبهة عن الركب. وحين دخل صلى الله عليه وسلم المدينة، مر ببطون قبيلتي الأوس والخزرج وكان يرد عليهم حين يطلبون نزوله بقوله: “دعوها فإنها مأمورة”. فمروره صلى الله عليه وسلم بتلك البطون يكشف عن بُعد أمني هام في الحفاظ على تماسك وحدة الجبهة الداخلية للمدينة المنورة. فأشهر سكان المدينة كانوا من الأوس والخزرج، وكانت الحروب بينهما لأسباب واهية، وكان لليهود الـدور الأكبـر في إيقادها، فلو مـر صلى الله عليه وسلم أو نزل علي قبيلة دون أخرى، ربما استغل ذلك اليهود، وأشاعوا بأنه صلى الله عليه وسلم يفضل قبيلة على أخري، ما يؤدي لنشوب حرب أهلية بين القبيلتين، كما جعل أمر النزول إلهيًّا، وليس اختيارًا فيرضى الجميع به ويوقنون أنه أمر إلهي يجب التسليم به.
هذه بعض الملامح الأمنية الوقائية لحماية الهجرة النبوية الشريفة. وفيها ـ وفي غيرها الكثيرـ نراه، صلي الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة، دقيقًا في خطواته، ويقظًا في تعاملاته، ويُعد لكل شيء عدته، ويتحسب لكل حدث وحديث، ويتحري لمن يدعوه ويستعمله ويٌرسله، ويحرص علي نبتته الدعوية وإتمام رسالته الخاتمة، وينجز المهام، ويقوم النتائج، ويعدل الخطط، ويأخذ بالأسباب ثم يتوكل علي رب الأسباب.