جاء الإسلام دينًا خاتمًا لكل الديانات هاديًا للبشرية موجهًا لها حيث يكون بقاؤها وازدهارها، وبتعاليمه السمحة انتشر وحكم الأرض في وقت لا يساوي شيئًا في ميزان الأمم، وقد اشتمل ديننا الحنيف على عدد من القيم والمبادئ التي تؤكد لكل ذي عين تُبصر أنه دين السماحة واليسر، “وأن الأخلاق ليست فيه من مواد الترف التي يمكن الاستغناء عنها بل هي من أصول الحياة التي يرتضيها الدين ويحترم ذويها”،.
لكن السؤال: إذا كان الإسلام دين التسامح والعفو وبهما انتشر وذاع، فلمَ كانت الحروب والغزوات التي قلّبت القبائل وفرّقت بين الوالد وولده؟، ألا يعد هذا خرقًا للبنيان الأخلاقي الذي بعث النبي لإرسائه، واستباحة للدماء التي جاء الإسلام لصيانتها؟
بادئ ذي بدئ أقول إن كلمة الإسلام مشتقة من السلم، وأن السلام من أبرز المبادئ الإسلامية، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، بل إنه وكما يقول الشيخ جاد الحق: “من الممكن أن يرقي ليكون مرادفًا لاسم الإسلام نفسه باعتبار المادة اللغوية”، وعليه فالسلم هو الحالة الأصلية للدين، وحالة الحرب طارئة، يقول محمود شلتوت: “السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية”.
إن أخلاق الإسلام السمحة هي عنوان وجوده ودليل حجته الباقية وبرهان بقائه؛ فلقد انتشر الإسلام قديمًا بالأخلاق، وسيظل بها دونما انفكاك حتى في ميادين القتال.. فبالأخلاق نحيا وبالأخلاق نسمو وبالأخلاق نعيش
بل لقد كره الرسول التسمي بـ”حرب”، فعن على رضي الله عنه، قال: لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله فقال: أروني ابني ما سميتوه؟ قال: قلت: سميته حربا، قال:” بل هو حسن…”.
أسباب الحرب في الإسلام ومتى يشرع القتال؟
إن الناظر من بعيد قد يظن لأول وهلة أن الإسلام جاء لينتشر بأي وسيلةكانت، وأن الحروب والغزوات شرعت لاستعباد الناس وانقيادهم.. لكن المتأمل يدرك أن الحرب في الإسلام شرعت متى توفرت أسبابها: فهي لرد العدوان، وتأمين النفس، والعرض، والأهل ممن يستبيحونها ولتأمين الاعتقاد، حماية للدعوة وأيضًا لتأديب ناكثي العهود.. وبنظرة سريعة لهذه الأسباب تجدها مكسوة بالأخلاق نابذة كل ما من شأنه الاعتداء على الآخر لتحقيق مصلحة شخصية، فلا ينكر عاقل أن من حق الإنسان -كإنسان – بغض النظر عن دينه ومعتقده، رد الظلم عن نفسه، لاسيما إن بدئ بالإعتداء عليه.كما لا يخفى -والحالة هذه- وبرغم أخلاقيات أسباب الحرب الظاهرة أن الإسلام لم يبدأ أحدًا بالقتال.
أخلاقيات الحرب في الإسلام:
ولما كانت الحروب والغزوات مشروعة متى توفرت أسبابها السابقة، لزمها ما يلزم تعاليم هذا الدين من ضوابط البناء الأخلاقي الذي يتميز به الإسلام عن غيره؛ فالله تعالى لم يجعل خيرية هذه الأمة مقرونة بإيمانها به سبحانه وتعالى فقط، وهو من أجل وأعظم أسباب أفضليتها، بل ربطها بأداء الدور الأخلاقي المكلفة به: (كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..)(آل عمران:110)، في رسالة للعالمين أن الدين يعني الخلق.
فالإسلام وضع من الضوابط في الحرب ما يتماشى مع سماحته وسموه وأنه دين سِلم جاء لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد باللين والحكمة والقول الحسن: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..((آل عمران: 159)، مع العلم أن الحرب جاءت لغرض ترتفع بإزالته دون تعدٍ ولا مبالغةٍ، في إطار قول الحق سبحانه: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..)(المائدة:8).
ومن هذه الضوابط الالتزام الكامل بما هو متعارف عليه في الحروب والوفاء بالاتفاقيات والمعاهدات المبرمة مع الأعداء كعدم القتال في الأشهر الحرم، ولقد أنكر صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة حين خالفوا وأغاروا على قافلة في الأشهر الحرم وقال لهم: “ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام”، ولم يقف الأمر عن حد الإنكار بل أوقف التصرف في القافلة والأسيرين إلى أن يأتيه وحي السماء، ما يؤكد إعلاء قيمة الأخلاق وعدم التشفي واستغلال الفرص حتى مع الأعداء.
الإسلام وضع من الضوابط في الحرب ما يتماشى مع سماحته وسموه وأنه دين سِلم جاء لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد باللين والحكمة والقول الحسن
ومن ضوابطه عدم تجاوز المعتدى.. فمتى ثبتت التهمة على أحد أنزل عليه العقوبة وحده دون غيره وإن وافقه هذا الغير على ذلك، فحينما دسّ اليهود له السم بالشاة بعد فتح خيبر .. دعاهم فسألهم فاعترفوا ولم ينكروا وقالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح، وإن كنت نبيا لم يضرك”.
فمع تحقيقه صلى الله عليه وسلم في الواقعة قبل أن يعاجلهم بالعقوبة وهو خلق آخر “التثبت” والتحقق من الواقعة، وبعد الاعتراف بأنهم عهِدوا لامرأة تفعل ذلك، سامحهم رسول الله لأنهم حاولوا القتل دون الوصول إليه، حتى علم بخبر موت صحابي نتيجة تناوله من الشاة، فهنا أنزل العقوبة على المرأة فقط دون من سواها برغم علمهم وتدبيرهم.
وفي القصة دروس كثيرة..أهمها عدم التشفي من الظالمين وتوسيع دائرة الاتهام، إنزال العقوبة (ظنًا) بغير المعتدى، وإرساء مبدأ التحقق والتثبت قبل النيل من الأعداء، والعفو عن غير المعتدي، وعدم مؤاخذة الناس بنواياهم وغير ذلك الكثير، ما يمثل خلقًا رفيعًا وهديًا نبويًّا رائعًا ومسلكًا يؤصل للسلمية، وأن الإسلام دين يجمّع ولا يفرّق، دين يحافظ على الكيان والبنيان ويحفظ كرامة الإنسان متجسدًا في شخص النبي الأمين صلى الله علىه وسلم الذي قال عنه ربه سبحانه:”وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء:107).
ومن ضوابطه:مراعاة حرمة الضعفاء كالنساء والأطفال والشيوخ المنقطعين للعبادة والخدم الذين لا رأي لهم ولم يثبت اشتراكهم في قتال المسلمين.
فقد وصي النبي عبد الرحمن بن عوف يوم دومة الجندل بقوله: “اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا، وليدًا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم”.
- ومن ضوابط القتال أنه شرع لمن يبدأنا بقتال فقط، قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)( الحج: 39).
- ومن ضوابطه عدم الاعتداء، قال سبحانه: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ)(البقرة: 190).
- ومن ضوابطه أن تكون علته واضحة، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(التوبة: ٣٦)،
- ومن ضوابطه عدم التمثيل بالجثث والغدر والإسراف في القتل وغير ذك من مسترذل الأفعال وما تأنفه الطباع.
إن أخلاق الإسلام السمحة هي عنوان وجوده ودليل حجته الباقية وبرهان بقائه؛ فلقد انتشر الإسلام قديمًا بالأخلاق، وسيظل بها دونما انفكاك حتى في ميادين القتال.. فبالأخلاق نحيا وبالأخلاق نسمو وبالأخلاق نعيش، وبنظرة عابرة لحروب غير المسلمين يتضح الفرق بين دين جاء رحمة بالعباد وغيره ممن يستبيح الأعراض ويؤصل للإبادة غير عابئ بالضعفاء والأطفال.. فاللهم أحيينا بالإسلام وأمِتنا عليه، وصدق رسولنا الكريم الذي قال عن نفسه:”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.