يعود اختراع الهاتف إلى “ألكسندر جراهام بيل” في عام 1876 عندما نجح في نقل الصوت عبر الطاقة الكهربية، وذلك بعد ثلاثين عامًا من اختراع التلغراف. لا شك أن الهاتف من أعظم الخدمات التي قُدِّمت للإنسانية؛ إذ سهَّل على الناس التواصل ببعضهم، ووفَّر لهم التحدث فيما بينهم وإنْ كانوا في مناطق مختلفة ونائية.
وفي الأعوام الأخيرة تطور الهاتف وتبوأ مكانته المرموقة في شتى الميادين الاجتماعية والطبية والصناعية والتعليمية.. مما جعل سوق الاتصالات من أكثر الأسواق حركة ونشاطًا بل وربْحًا، إذ تحوَّل إلى ميدان سباق تتنافس فيه الشركات من أجل إدخال التطورات المختلفة إلى الهاتف للفوز بالمساحة الأكبر لها.
لكل مجتمع نظامه وثقافته وتقاليده التي تضبط أخلاقيات التواصل بين أبنائه، وطبقًا لهذه التقاليد يكون لكل ثقافة معايير قِيَمية وضوابط تستطيع من خلالها الحكم على تصرفات أفرادها. ولكن هل استطاعت المجتمعات والثقافات تطوير هذه الضوابط وتفعيلها في استخدام الإنترنت والهاتف؟ مما هو ملحوظ أن تكنولوجيا الإنترنت والهواتف الذكية بدأت في السنوات الأخيرة تجذب حتى الأطفال، الأمر الذي يدفعنا -كمجتمع- إلى وضع آداب سلوكية وضوابط أخلاقية في تعاملنا مع هذه التكنولوجيا، لتتحوَّل إلى وسيلة نافعة تسهم في تربية أطفالنا وتطور مجتمعاتنا.
الدور الاقتصادي
من المعلوم أن شركات الهواتف تسعى للربح، لذا تضع إعلانات جذابة تشدُّ الأفراد إلى شراء منتجاتها. فصناعة الهواتف الذكية عملية مستمرة دائمًا، فكل عام تخرج علينا الشركات المنتجة بهواتف ذات مواصفات جديدة وتقنية عالية، وهذا بطبيعة الحال يدفع الكثير إلى شراء الجديد والأحدث.. ولكن هذا الجديد -على حد تعبير الشركات- ليس إلا أسلوبًا جديدًا من أساليب استقطاب المال.
إن مواكبة التطور واستخدام أحدث وسائل التكنولوجيا شيء مطلوب، والتوفيق بين هذا التطور وبين آداب الاستخدام شيء لا بد منه
أصبحت تطبيقات الإنترنت جزءًا هامًّا من الحياة اليومية للبشر، إلى درجة أنهم لم يعودوا قادرين على التخلّي والاستغناء عنها. لذا يتوجب على مستخدمي الهواتف أن يكونوا واعين، وأن يحتاطوا من الانسياق الأعمى وراء الحملات الإعلانية للشركات الكبرى.
هدر الوقت
إن المكالمات الهاتفية التي تستمر ساعات وساعات، هي في حقيقة الأمر إسراف للوقت وضياع للعمر. وقد ورد أن القدماء كانوا يقولون: “اللهم إنا نسالك صلاح الساعات والبكرة في الأوقات”.. كما درجت أمثلة كثيرة على ألسنة أجدادنا حول أهمية الوقت والزمان، منها “الوقت من ذهب إن لم تدركه ذهب”، “الدقائق التي تَضيع منّا كل يوم يبتلعها الفراغ”.. وفي كل ذلك تحذير من هدر الوقت وتضييعه فيما لا مصلحة فيه. إذن، علينا أن نستخدم الهواتف باعتدال دون إفراط أو تفريط.
آداب الاتصال والمكالمة
هل الوقت مناسب للاتصال الآن؟ هل يُحتمَل أن يكون زميلي في اجتماع هذه اللحظة؟ وغيرها من الأسئلة التي لا بد على المتصل -في غير الحالات الضرورية- أن يسأل نفسه بها.. كما عليه أن يضع فرق التوقيت الزمني بعين الاعتبار إن كان مَن سيتصل به في مملكة أو قارَّة أخرى. يكفي الاتصال مرتين أو ثلاث مرات متتاليات في حالة عدم الإجابة؛ لأن الإصرار أمرٌ غير مرغوب فيه من قِبل الناس. وليس من الخطأ أن نشبِّه ذلك بآداب زيارة المنازل التي تلقَّيناها من تراثنا المجيد؛ حيث يُطرق الباب ويُستأذَن ثلاث مرات، فإن لم يؤذن لطارق الباب، وجب عليه الرجوع وعدم الإلحاح على الطرق.
موضوع آخر يجب الانتباه إليه في آداب استخدام الهاتف، وهو أن الشخص إذا كان في اجتماع أو مقابلة، عليه أن يضبط هاتفه في وضع الصامت، أو أن يجعله في وضع الاهتزاز، وإذا اضطُرَّ إلى المكالمة، عليه الاستئذان من الجليس ثم إجراء مكالمته.. وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن الحديث في الهاتف وخاصة لفترة طويلة عند مَن نجلس معه، يعدُّ قلة احترام، لذلك يجب أن نعتذر من المتصِل بلطف، ونؤجل المكالمة إلى وقت لاحق إنْ لم تكن الحاجة ملحَّة. ومن آداب الاتصال والمكالمة أيضًا، أنه إذا كنا نتحدث مع شخص ما، علينا ألاّ ننشغل بقراءة رسائل الهاتف أو إجابتها، لأن ذلك يعدُّ عدم تقدير وقلة احترام تجاه جليسنا، وإن كان الأمر ضروريًّا أو عاجلاً، لا بد من الاستئذان ثم القيام بما هو لازم.
يوجد في فضاء الإنترنت معلومات يستفيد منها الأفراد في ترقية حياتهم وصقل معرفتهم. ولكن علينا أن ننتبه ونعي ولا ننسى أن هناك كمائن في فضاء الإنترنت الواسع؛ إذ من خلاله تُعكَّر أفكار أبنائنا وتشوَّه أنفسهم
الهواتف الذكية والإنترنت
لا شك أن الهواتف الذكية ومن ثم شبكة الإنترنت أتاحتْ لكثير من البشر متابعة العالم وأحداثه عن قرب، وبإمكان مستخدم هذه التقنية أن يعرف كل جديد من خلال هاتفه الذي يحمله بين يديه وبكل سهولة؛ بإمكانه -مثلاً- أن يتصل بأيّ بقعة في العالم وهو جالس في مكانه، وبإمكانه أن يشارك في صفقات تجارية مربحة على الإنترنت.. كل ذلك يعني أن الهواتف الذكية مع الإنترنت، سهَّلت على كثير من الناس التحرُّك في ميادين الحياة دون تعب منهم ودون تضييع لوقتهم.
إذن، يوجد في فضاء الإنترنت معلومات يستفيد منها الأفراد في ترقية حياتهم وصقل معرفتهم. ولكن علينا أن ننتبه ونعي ولا ننسى أن هناك كمائن في فضاء الإنترنت الواسع؛ إذ من خلاله -إن لم يكن التوجيه السليم- تُعكَّر أفكار أبنائنا وتشوَّه أنفسهم، مما يُحدِث عندهم انهيارًا في الروح والأخلاق.. وهذا بدوره يجعلهم يعيشون في عالم غير عالمنا، وفضاء غير فضائنا.. فبدءًا من ألعاب الفيديو التي يدمن عليها الأبناء كبيرهم وصغيرهم، إلى الإدمان على شبكة التواصل الاجتماعي، إلى غيرها من الكمائن في فضاء الإنترنت -طبعًا عند عدم استغلاله إيجابًا- التي توقع الكثير منهم في مستنقع الشهوات والنزوات، وتجعلهم أسرى بيدها، يقضون معظم أوقاتهم في عبث، ضررُه أكثر من نفعه.
صحيح أن الإنترنت والهواتف الذكية سهَّلت علينا حياتنا من جوانب عديدة، وعملت على تقريب البعيد وتسهيل الأعمال، ولكن علينا أن نحرص كل الحرص على التمسُّك بآداب استخدام هذا الفضاء الشاسع. والأهم من ذلك، يجب أن نعتني بتعليم أبنائنا آداب استخدام الإنترنت والهواتف الذكية، حتى لا يصرفوا أهم فترة زمنية من حياتهم فيما لا فائدة منه.. ويتوجب علينا دائمًا أن نبحث عن الطرق التي من خلالها نستطيع أن نوازن بين استخدام التكنولوجيا والحفاظ على أوقاتنا وحياتنا الاجتماعية.
إن لم نسعَ إلى وضع ضوابط ومعايير في استخدام الهواتف الذكية والإنترنت، عندئذ لن نتمكن من أن نجعلها وسائل تجلب لنا السعادة وتعيننا على إقامة حياتنا بالشكل الذي نرغب، بل ستتحوَّل إلى عائق يعكِّر صفو حياتنا ويجلب لنا المتاعب والمشقات. وقد بيَّن المختصون أن عدم الاستخدام الرشيد للإنترنت والهواتف الذكية، قد يؤدي إلى ما سمَّوه بـ”الإدمان الإلكتروني”، وهذا شيء غير مرغوب به على الإطلاق.
إن مواكبة التطور واستخدام أحدث وسائل التكنولوجيا شيء مطلوب، والتوفيق بين هذا التطور وبين آداب الاستخدام شيء لا بد منه.. لأن الهواتف الذكية وشبكة الإنترنت وسائل فتحت أمام أبنائنا وشبابنا سبلاً عريضة لاستثمار طاقاتهم، ولكن إدمان الشباب على التكنولوجيا وبقاءهم في فضائه ليل نهار، يدفعنا إلى النظر في النتائج المحتملة سلبًا أو إيجابًا.. والسؤال الذي لا بد منه في الختام هو: هل هذا الإدمان الإلكتروني والاعتماد التام على التكنو لوجيا، يؤدي تدريجيًّا إلى ضياع بعض المبادئ والقيم الأساسية في مجتمعاتنا أم لا؟
(*) كاتب وأكاديمي / الولايات المتحدة الأمريكية. الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.