بعيدًا عن المعـيقات والمـشتتات يبدو الهدف الأساس للإرتحال إلى شواطئ الجمال التي خلقها الله تعالى، هو الرغبة في التأمل والتدبر والتعقل والتفكر في كتاب الله تعالى المشاهد، حتي يتم التعرف على اسم الله “الحكيم”، ولتتحقق العبودية اختيارًا، كما تحققت في الأنفس وفي الأفاق كلها إجبارًا.
الإعجاز في الكون والجلال في الخلق والكمال في الصنعة يلزمها تأمل وتدبر وتعقل وتفكر، ورغبة في تمتع البصر بآيات الله تعالى، لتمتلئ البصيرة بنور التفكر في ملكوته تعالى، والتدبر في آلائه وإعمار العقل بسنا الاهتداء إليه جل شأنه. أمور لعل من سبل الوصول إليها سبيل الالتفات إلى ما في هذه الرحلات الشاطئية من تأملات، وما في هذه الشواطئ من آيات باهرات، ومن الأهمية بمكان، اختيار رفقة متوافقة صالحة مُخلصة،رفقة تقاربت فتعارفت فتآلفت فتوافقت فتعاونت على تحقيق مبتغاها الذي لا تحيد عنه، فهي في أيام الطبيعة تسعى لجعل جهدها صافيًّا وفكرها خاليًّا، وهمومها وراء ظهرها، فإذا سافر معها الهم فهي مقيمة لم تبرح، وما فائدة الانتقال من بلد إلى بلد، والنفوس لم تنتقل من شعور إلى شعور، ومن حال إلى حال، ومن “التخلية” قبل “التحلية”؟.
الإعجاز في الكون والجلال في الخلق والكمال في الصنعة يلزمها تأمل وتدبر وتعقل وتفكر، ورغبة في تمتع البصر بآيات الله تعالى، لتمتلئ البصيرة بنور التفكر في ملكوته تعالى.
شعور وحال “وتخلية” التفرغ لمشاهدة لمخلوقات الله تعالى، و”شهود” بديع صنعه. في النبت والشجر، والحجر والمدر، والطير والحيوان، والزهر والعشب، والماء والسماء، ونور النهار وظلام الليل، وشروق الشمس وغروبها..إلخ”، يقول جل شأنه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(البقرة:164). وكثيرة هي الشواطيء درة تيجان البحار، وتواصلها المستمر مع اليابسة، تلكم المصائف الهادئة الجميلة، قبلة الراحة والهدوء، مصحة الأبدان والعقول والقلوب. بقع جمّلها الله تعالى، وأبدعها جل شأنه ضمن كونه العريض الجميل البديع. إنها بقع تجمع بين شواطئ هادئه، وآخرى هادرة، صفحات ماء منساب، وهدير موج قاصف، ونسيم عليل، وريح عاصف لألاء ثريا وضوء خاطف.
“اللهم ليس في الجو سحابات مُمطرات مُغيثات لذوي الحاجات، وبُروق شارقات إلى فوائدها التنويرية مُشيرات، ورعدات مُسبحات بقُرب نزول المطر مُبشرات، وأعصار مُصرفات بوظائف كثيرة مُوظفات، وأمطار مُعصرات من السحاب إلى ذوي الحياة مُرسلات..، ألا وهي كلها على وجوب وجودك يا مُصرف يافعال وعلى وحدانتيتك يافياض يا متعالي شاهدات، وعلى حَشمة ربوبيتك وعظمة قدرتك على كل شيء، وعلى وسعة رحمتك وحاكميتك لكل شيء، وعلى إحاطة علمك وحكمتك بكل شيء دآلات… الخ”(النورسي: رسالة المناجاة).
نسعى إلى الشواطئ لأغراض شتي…، والأسباب هي الأسباب، والظروف هي الظروف، لكن النفوس تتبدل، والأزمان تتغير، والنتائج تتعدد. لكن ها هي الطبيعة كما خلقها الله تعالى نقية بكر لم تتبدل، ولم تتغير، هواء طلق نقي يشرح الصدور، ونسيم منعش وسماء صافية وخضرة يانعة، وليل يعسعس وصبح يتنفس، وماء تبغي قضاء العمر بين أمواجه، وشمس تنفع في كل أحوالها لينا وشدة، فتبعث القوة في الهامد بعثًا.
اللهم ليس في البحار قطرات مائيات، وغرائب مخلوقات منتظمات، وسمكات سابحات، وجواهر منظمات، وسائر مصنوعات بحرية مُنتظمات، إلا وهي كلها على وجوب وجودك وحدانيتك ياقدير بالبداهة شاهدات.
وكم فيك أيها البحر من أسرار، كم شاهدت من أحداث، وكم طويت من أعمار، وكم ضممت من بررة وأشرار؟، خلقك الله تعالى فواصل مائية بين أمم وشعوب طريقًا سهلاً ميسورًا مذللاً للفـُلك، ومسبحًا ومستودعًا للمخلوقات البحرية، ومنجمًا للجواهر الدُرية رزقاً وشكراً: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(النحل:14).
ويقول تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ)(الشوري: 32-34).
وقد جعل الله تعالى ماءك مالحًا، لترتفع كثافته على خلاف الماء العذب فيكون من ضمن أسباب حمل السفن، ومصدرًا للملح شافيًّا من علل وأدواء، كما بملوحته (الحافظة) لا تغيره ما يلقى إليه على كثرتها على مر العصور والدهور من جيف ومخلفات، فلا يتأثر بها بل يستوعبها في جوفه لا يبالي بالمزيد، كذلك خلقك الله تعالى ملطفًا لحرارة جو الصيف، ومستودعًا للمطر.. بخارًا وسحابًا وركامًا وماءً عذبًا زلالاً، “اللهم ليس في البحار قطرات مائيات، وغرائب مخلوقات منتظمات، وسمكات سابحات، وجواهر منظمات، وسائر مصنوعات بحرية مُنتظمات، إلا وهي كلها على وجوب وجودك يا جليل. ياعظيم، وعلى وحدانيتك ياقدير ياعليم بالبداهة شاهدات، وعلى حَشمة ربوبيتك وعظمة قدرتك على كل شيء، وعلى وسعة رحمتك، وحاكميتك لكل شيء، وعلى إحاطة علمك وحكمتك بكل شيء دآلات، وإلى حياض رحمتك الأخروية، وإلى بحار حساناتك الأبدية مُشيرات…إلخ”(النورسي: رسالة المناجاة).
والبحر ابتلاء واختبار، وسبب يقين وإيمان، واتعاظ وارتداع: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(لقمان:32).
وأخيرًا، وليس أخرًا، أنت أيها البحر منظر جميل، وصورة رائعة تسحر الجنان، وتدهش الألباب، يقول “مصطفي لطفي المنفلوطي”: “البحر عظيم، وفي صفحته الرجراجة صور الأمم التي طواها، والمدن التي محاها، والدول التي أبادها وهو باق على صورته، لا يتغير ولا يتبدل ولا يبلى على كر العصور والأيام…، أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذه السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنقل ما شئت في جنباته وأكنافه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله، ورؤوس أشجاره وضفاف أنهاره، فأنت لم تخلق للسجن والقيد، بل للهتاف والتغريد”.