من منا لا يريد أن يكون أبناؤه أسوياء بكل ما تعنيه هذه الكلمة؟ فنحن نهدف إلى تربيتهم وتهذيبهم، ليكونوا أعضاء نافعين في المجتمع. فهل حققت تربيتنا ما نريد؟ لنبدأ من البيت؛ فالطفل ينشأ ويشب في بيئة تتعامل في تربيته باتباع أساليب التأنيب دائمًا، فعلى سبيل المثال، إذا ما بدأ الكلام وأراد التعرف على مبادئ الحياة، لا يجد منا نحن الآباء والأمهات من يشرح له كنه الشيء الذي يسأل عنه، ونفترض فيه دائمًا أن يعلم نفسه بنفسه.. وإذا ما أخطأ ضربناه، وإذا ما استوضح نهيناه، وإذا ما ذهب إلى مجلس الكبار نُبِذ كما لو كان شيئًا مقززًا.. لا يُسمح له بالحديث، ولا يُقبل منه تعليق، ويُنتظر منه أن يكون آية في الأدب.. تحت اعتقادنا الخاطئ بأن ذلك هو الطريق الصحيح والأمثل للتربية السليمة.. في حين أن الدراسات التربوية والنفسية، تؤكد على أن اتباع أساليب التأنيب والفضاضة، واستخدام الكلمات النابية والجمل القاسية المحبطة دائمًا مع الطفل، تزرع بذور الخوف والجبن والسلبية في شخصية الطفل، وتجعله يخاف أن يخطو بنفسه حتى لا يقع في الخطأ فينزل عليه العقاب واللوم.. وعندما يكبر ينتظر دائمًا من يقول له افعل كذا، ولا تفعل كذا، ودائمًا يحيل ما يعترض طريقه من مشكلات وأزمات إلى غيره.. وبذلك نقتل في أطفالنا القدرة على التفكير السليم، هذه القدرة التي تمكنهم من الاختيار السليم والصحيح الذي لا يجعلهم يتقوقعون في أماكنهم، أو ينجرفون دون وعي لما يقدم لهم.
فالتأديب الحقيقي للطفل لا يتم بالصراخ، ولا بالضغط على حروف الكلمات قبل إخراجها من الفم، كما أنه لا يحدث نتيجة إسماعهم كلمات صح أو خطأ وحرام وحلال، ولكن التأديب الحقيقي للطفل، يتم ببطء، وينمو على فترات طويلة، ويحتاج إلى جهد وصبر من الآباء والأمهات، حتى تصبح القيمة التي نريد أن نغرسها في نفس الطفل بعد ذلك، جزءًا هامًّا من بنائه الأخلاقي، يعيش بها ويدافع عنها.. ولا يتم ذلك الهدف إلا باتباع فن الإقناع، وإن من أهم أدوات ووسائل هذا الفن، مناقشة الرأي والرأي الآخر، وأيضًا مناقشة السلوك الخاطئ والتصرف السيئ بهدوء وموضوعية، مع الشرح لهم بالتفصيل -وبصبر- الأسباب التي تدعوهم لرفض سلوك أو مظهر ما، مع الاستماع الجيد لهم، وتفهم ما يريدون فعله، وأسباب اقتناعهم به.
فالمتأمل لسلوكنا مع أولادنا، يجدنا دائمًا نراقبهم وفي عقولنا هدف واحد هو الإمساك بالسلوك الخاطئ والمرفوض، وعقابهم أو تقويمهم.. ولكن ماذا عن السلوك المقبول والتصرف الحسن من قبل أبنائنا، هل نراه؟ هل نفعل شيئًا لتعزيزه وتنميته والإبقاء عليه بالتشجيع والحث والثناء عليه؟
فالأدب في مفهمونا الشاسع أو الشائع، هو الخضوع لمنطق الكبير مهما كان ذلك المنطق أعوج وغير مقنع. والنتيجة أن كل واحد فينا عندما يشب عن الطوق، يريد -بقدر ما يستطيع- أن يخضع من الناس بقدر ما تعرض له من إخضاع سابق. فلو أن البيت تحول إلى مدرسة تُعلِّم الطفل التأقلم مع الأشياء بلين ولطف، من القول وحسن تفسير لِما حوله من ظواهر، لكان الطفل -بعد ذلك- مقنعًا أو مقتنعًا طبقًا للحجج التي يتعرض لها.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوة وأعظم نبراس في إرساء دعائم ثقافة التأديب الحقيقي البعيد كل البعد عن أسلوب الزجر والتأنيب؛ هذا التأديب الحقيقي الذي يهدف إلى بناء إنسان تغرس في نفسه وقلبه الفضيلة وحسن الخلق باتباع منهج الإقناع.. يأتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شابٌّ يطلب منه أن يسمح له بالزنا، ونرى هنا الرسول صلى الله عليه وسلم المربي لا ينهره ولا يعاقبه ولا يؤنبه، وإنما يحاوره؛ فقال صلى الله عليه وسلم: “أتحبه لأمك؟” فقال لا، جعلني الله فداك، قال: “كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم”، “أتحبه لابنتك؟” قال لا، جعلني الله فداك، قال: “كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم”، “أتحبه لأختك؟”، وهو يقول في كل واحدة لا، جعلني الله فداك، وهو صلى الله عليه وسلم يقول “كذلك الناس لا يحبونه” (رواه الإمام أحمد). وانصرف الشاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم مقتنعًا بخطورة الزنا وضرره على المجتمع. وأي أخلاق أرقى وأعظم من ضرورة البعد عن القسوة والفظاظة في التعامل مع الطفل وإشعاره بالحب والحنان؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ثم قال: “من لا يرحم لا يُرحم” (رواه البخاري)، فيتغير الأقرع بن حابس إلى نقيض ما كان يفعله، ذلك أن الابن أو الابنة، قد يحتاج إلى قبلة أو حضن من الأب أو الأم باعتبار ذلك حاجة نفسية واجتماعية لا تقل عن حاجة الطفل إلى الغداء. ومن هنا يلفت النبي صلى الله عليه وسلم أنظارنا إلى ذلك عند التعامل مع الطفل، ليشعر بالحب والحنان والرعاية والاهتمام التي تجعل الطفل يطرح كل ما يجيش داخل نفسه من تساؤلات، طالبًا الرأي والمشورة من الوالدين اللذين يحيطانه بكل رعاية واهتمام، ويسيران به خطوة خطوة نحو الرد السليم الذي لا بد أن يكون مقنعًا للطفل.
إذن، إن أهم ما نحتاجه بالفعل، هو بذل الجهد والوقت في تربية أبنائنا بصورة صحيحة قائمة على التأديب الحقيقي، الذي يجب أن يتم بالإقناع ومناقشة الابن. فإن أهم شيء يجب علينا أن نفعله قبل أن نربي ونعلم أنفسنا لنكون آباء وأمهات، وقبل أن نربي ونعلم أولادنا ليكونوا أبناء، يجب علينا أولاً ألا نزرع الخوف والرهبة في قلوبهم بمعاملتهم بصورة مهينة تُفقدهم ثقتهم واحترامهم لأنفسهم تحت دعوى أن ذلك هو الطريق الصحيح لتقويم الاعوجاج في سلوكهم، ولكن علينا أن ندرك يقينًا أن زرع الحب في قلوبهم بالحوار الطيب واللفظ الحسن مع إظهار المشاعر النبيلة التي أودعها الخالق عز وجل في قلبي الأبوين، ينير لهم الطريق إلى فعل الصواب والتحلي بالآداب والأخلاق الفاضلة.