أنعم الله علينا كثيرة، وآلاؤه غزيرة، وأياديه جليلة تستدعي العقول للتأمل والانتباه.. ومن أجلّ نعم الله على البشر، نعمة الهواء الذي يحيط بنا، تلك النعمة التي لم يُملكها الله تعالى لأحد، ولم يحجزها ويمنعها أحدًا من الأحياء، بل ساوى بين الجميع في وجوه الانتفاع بها.. فمن الذي يقدر أن يمنع عن الإنسان النَفَس الداخل، أو يقف ويسدّ عليه طريق النَفَس الخارج؟
لقد وفـَّر الخالق جل جلاله الهواء بكمِّيات هائلة تكفي حاجة الكائنات، ويسَّر مكانه على وجه الأرض دون أن تتعب أو تتكلف في جمعه أو نقله أو تخزينه، أو تخشى من فقدانه أو ضياعه.
عندما يتأمل الإنسان في الطير المسخر بين السماء والأرض، يذهل حقًّا من القدرة التي تمسكه في الهواء! أجل، إن تلك القدرة، جعلت الهواء يحمل الطيور، ويسَّّر وحبَّب إليها الطيران والتحليق في السماء، وبدون الهواء ما كان لطائر أن يطير.. فالطيور تدفع كميات الهواء اللازمة لتسبح عليها، ولم يقتصر الهواء على حمل الطيور فقط، بل تراه اليوم يحمل الطائرات بأثقالها، كما تحمل البحار السفن.
ولولا وجود الهواء لما حلَّقت الطيور في الفضاء، ولما تمكَّنت الطائرات من الإقلاع من مدرجات المطارات.. والهواء هو الذي يمكِّننا من سماع بعضنا البعض، لأنه الوسيطُ الذي تنتقل فيه الأصوات.. إنه نعمة عظيمة، وأقل ما يجب علينا أن نحفظه نقيًّا خاليًا من الملوِّثات.
موازنة عجيبة في الهواء
الهواء الجوي ليس عنصرًا واحدًا، بل هو خليط من عدة غازات مختلفة، تحافظ هذه الغازات على خصائصها ولا تتفاعل مع بعضها البعض، ولو كانت تتفاعل مع بعضها البعض لتكونت من غازات الهواء مواد أخرى، ولحرمنا كل النعم التي خُلقتْ من أجلنا في الهواء.
عندما يتأمل الإنسان في الطير المسخر بين السماء والأرض، يذهل حقًّا من القدرة التي تمسكه في الهواء! أجل، إن تلك القدرة، جعلت الهواء يحمل الطيور، ويسَّّر وحبَّب إليها الطيران والتحليق في السماء، وبدون الهواء ما كان لطائر أن يطير..
والهواء كتلة من الغازات تحيط بالكرة الأرضية، ويزن هذا المحيط من الهواء حوالي خمسة آلاف مليون مليون طن، ويسلط منه على رؤوسنا حوالي 15 باون “رطل” لكل بوصة مربعة، لكننا لا نشعر بهذا الضغط؛ لأن الخالق الحكيم الرحيم أوجد ضغطًا لدماء وسوائل الجسم ما يعادل هذا الضغط الخارجي للهواء ويتناسب معه.
يحتوي الهواء على نسبة ثابتة من الأكسجين مقدارها 21%، وبالرغم من استهلاك الأكسجين المتسمر في عمليات التنفس، تبقى هذه النسبة ثابتة لا تزيد ولا تنقص. فقد أوجد الله النبات الذي يعطي الأكسجين باستمرار فَيَفِي حاجات الحياة، ولو نقصت نسبة الأكسجين لقضي على الكائنات الحية، كما أنه لو زادت نسبته لاشتعلت الحرائق في كل مكان، إذ إنه يساعد على الاشتعال.
كثيرًا ما نرى الرياح تنتقل بقوة عارمة، وتنقل معها الهواء من مكان إلى مكان، وأحيانـًا تقلع الأشجار، وتخرب البنيان، ثم تغادر الأرض فلا يبقى لها أثر. فلِمَ لا يغادر الهواء الأرض أيضًا؟ والجواب أن الله تعالى قد جعل للأرض جاذبية تمسك بالغلاف الهوائي فلا يغادرها حتى تستقيم الحياة على الأرض، لأنه لولا وجود الهواء لما كانت هناك حياة على وجه الأرض.
جعل الله تعالى الهواء غازًا قابلاً للانتشار يملأ أيّ حيز من الفراغ فيسهل تنفس الكائنات، وجعله في طبقات مختلفة ذا تركيب شفاف يسمح بنفاذ الضوء، فيسعى الإنسان في النور، وتتزين السماء باللون الأزرق الجميل.
يقوم الهواء بتلقيح الأزهار، ولولا ذلك لتعذر الحصول على الطعام والحب والثمار. وقد اقتضت حكمته تعالى أن يملأ الهواء الجوي بغاز النيتروجين الذي يساعد النباتات البقولية في صنع غذائها عن طريق الامتصاص، كما أن عواصف البرق تؤدي إلى اتحاد الأكسجين والنيتروجين، لتكوين أكسيد النتروز الذي ينزل مع المطر فيكون سمادًا للتربة. كما تقوم طبقة الأوزون بترشيح أشعة الشمس لمنع وصول الأشعة فوق البنفسجية الضارة إلى طبقات الجو السفلى.
الهواء الجوي درع
تغزو ملايين الشهب والنيازك الأرض بكمية تكفي لإبادة البشر، وتقضي على الأخضر واليابس، فاقتضت حكمة الخبير العليم أن يجعل سمك الغلاف الجوي ثمانية عشر ألف ميل، وصممه بإحكام شديد وميزان دقيق؛ ليتم إحراق الشهب والنيازك والأشعة القاتلة قبل أن تصل إلى الأرض، فكان الهواء كالدرع الواقي لسكان الأرض من الخطر. إنه أشبه بالمشيمة التي تحيط بالجنين، فحين تعبر منها الدماء إلى الجنين، فإنها تمنع المواد الضارة من العبور وتسمح فقط بالمواد النافعة، مثلما يقوم غلاف الأوزون بمنع الأشعة الضارة بالكائنات الحية من العبور.
توزيع الهواء بين الكائنات
أعطى الله تعالى كل كائن حاجته من الأكسجين، فالحشرات الصغيرة الحجم تحتاج إلى كميات قليلة، لذا فجهازها التنفسي بسيط للغاية، وهو عبارة عن ثقوب في جوانبها.
أعطى الله تعالى كل كائن حاجته من الأكسجين، فالحشرات الصغيرة الحجم تحتاج إلى كميات قليلة، لذا فجهازها التنفسي بسيط للغاية، وهو عبارة عن ثقوب في جوانبها.
والأسماك والحيتان في البحر تحتاج إلى تنفس الأكسجين، فجُعِل الأكسجين يذوب في الماء، وأُوجِد في الأسماك الخياشيم التي تستخلص بها الأكسجين من الماء ليصل إلى كل خلية في أجسامها.
كما أن الإنسان الكبير الحجم يحتاج إلى كميات كبيرة من الأكسجين، فأوجد له خالقه الرئتين، وجعل له جهازًا خاصًا بالتنفس ينقل الأكسجين عبر الدماء، فيصل إلى كل خلية في جسمه.. وليس ذلك فحسب، بل يأخذ غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يضره، فيطرده خارج الجسم.
جعل الله تعالى جهاز التنفس يدخل الهواء بقدر، وجعل حركة ذلك إليه لا بإرادة الإنسان حتى لا يسرف ويتجاوز الحد، وكذلك لا يقتر ويبخل على نفسه؛ جعله الله يعمل بلا كلل ولا ملل أو توقف، يعمل في كل مكان وفي كل حال، يعمل والإنسان مشغول في عمله، كما يعمل والإنسان غافل غارق في نومه، فالإنسان نَفَس داخل، ونَفَس خارج، فإذا انقطع النَفَس، انقضى الأجل.
إن في كل ما تم ذكره، دعوة إلى العقل البشري أن يتجول في هذا المعرض الإلهي (الكون) المفعم بالآيات والعجائب. فالله تعالى هو خالق الحياة، وهو الذي أمد الأحياء بما تحتاج إليه من الهواء، وهو الذي أنعم على الأحياء بالهواء للتنفس، وهو الذي يحميها به من أخطار الشهب والنيازك، ويلقح به الكثير من النباتات، ويحمل به الأمطار، ويوازن بضغط الهواء ضغط السوائل في أجسام الكائنات.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.