اشتملت التربية الإسلامية على عديد من الأغراض تلخصها عبارةالنحويفي “جامع بيان العلم” حين يقول:”اطلب العلم، فإنه عون في الدين، ومذك للقريحة، وصاحب لدى المحنة، ومقيد للمجالس، وجالب للمال”.
فأول هذه الأغراض هوالغرض الديني، فمنذ أن نزل القرآن الكريم، وهو مرجع المسلمين في أمور العبادة والتشريع والحياة الاجتماعية، بشتى مظاهرها، وإليه يعود الفضل في انتشار القراءة والكتابة، وتأسيس المدارس، ونشأة العلوم المختلفة لخدمته وتفسيره وفهمه.
يعد كتاب العالم والمتعلم للإمام أبو حنيفة من أول الكتب التي كتبت عن التربية.
على أن الطابع العام للتربية عند المسلمين لم يكن دينيًّا محضًا كما كان عند الإسرائيليينفي الصدر الأول من تاريخهم، ولم يكن دنيويًّا محضًا كما هو الشأن عند الرومان مثلا، وإنما كان يلائم بين الدين والدنيا، فكانت التربية تهدف إلى إعداد النشء للحياة وللآخرة معًا.
وقد هدفت التربية بجانب الدين والأخلاق إلى معان اجتماعية عبرت عنها مأثوراتهم، قال مصعب بن الزبير لابنه:”تعلم العلم فإن يكن لك مال كان لك جمالاً، وإن لم يكن لك مال كان لك مالاً”، ويقول عبد الملك بن مروان لبنيه:”يا بني تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطًا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم”.
ونجد أنه حينما بدأ العلماء يكثرون ويتميزون في علومهم تبعًا لنمو الحركة العلمية، وازدهارها ظهرت طبقة جديدة في المجتمع هي طبقة العلماء التي نالت مكانة رفيعة عند الخلفاء والأمراء، مما دعا الناس إلى الإقبال على التعلم لينالوا هذه الحظوة الممتازة في المجتمع، الذي كان يرتفع فيه قدر العالم ومكانته بمقدار ثقافته وعلمه، وقد شجع ذلك على التنافس والابتكار، وعلى انتشار الثقافة وازدهارها.
ولكن هذا أيضا لم يقف حائلاً دون أن يهب كثير من العلماء حياتهم للبحث والدراسة دون غرض سوى المعرفة والوصول إلى الحق، يقول الإمام الغزالي في الإحياء:”إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذًا في نفسه فيكون مطلوبا لذاته، ووجدته وسيلة إلى الدار الآخرة وسعادتها، وذريعة إلى القرب من الله تعالى، ولا يتوصل إليه إلا به، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدميالسعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، فهو إذن أفضل الأعمال”.
للقرآن الكريم الفضل في انتشار القراءة والكتابة، وتأسيس المدارس، ونشأة العلوم المختلفة.
أما الغرض الثاني فهو ما يمكن أن يوصف بالمنفعة، فلم يكن مبدأ أخذ أجر موضع نقاش بين علماء المسلمين، فكان من زيادة التدين أن ظهر التحرج من الأجر في العلوم الدينية المباشرة كتحفيظ القرآن، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفدي بعض الأسرى نظير قيامهم بتعليم بعض أطفال المسلمين القراءة والكتابة، مما يوضح ان المبدأ صحيح في ذاته.
هذا وقد كانت وظائف القضاء والتعليم غايات سعى إليها كثير من الناس وأعدوا أنفسهم لها، وكان ابن سينا من أنصار الغرض الكسبي في التربية:” إذا فرغ الصبي من تعليم القرآن وحفظ أصول اللغة، أنظر عند ذلك إلى ما يُراد أن تكون صناعته، فوجهه لطريقه، بعد أن يعلم مدبر الصبي أن ليس كل صناعة يروحها الصبي ممكنة له مواتية، لكن ما شاكل طبعه وناسبه”.
وإذا كانت بعض الدول الحديثة تتخذ من المدرسة وسيلة للدعاية لمذهب من المذاهب أو لفلسفة من الفلسفات، فقد نشأت في بعض العصور مدارس كان الغرض من إنشائها تأييد مذهب بعينه، فقد أنشأ الفاطميون الأزهر للدعاية للمذهب الشيعي، ثم قامت حركة مناهضة لذلك كان من نتائجها أن أنشأ صلاح الدين الأيوبي مدرسة للشافعية وأخري للمالكية لتأييد المذهب السني، وقد فعل مثل ذلك نظام الملك الذي هدف من فتح المدارس الكثيرة إلى تأييد المذهب السني أيضا.
ظهور المؤلفات التربوية
يظهر أن أقدم مؤلف تربوي للإمام أبي حنيفة النعمان (80 ـ150هـ) في كتابه “العالم والمتعلم”، وقد اتخذ هذا الكتاب أسلوب الحوار والمناقشة بين المعلم وبين الطالب في قضايا الدين عقيدة وفقها.
وكان لشخصية الجاحظ أبي عثمان(163هـ/255م) تلك الشخصية الموسوعية جانب تربوي يتندر فيه على فئة من المعلمين الذين ليسوا أهلاً للقيام بأعباء تلك المسؤولية، والمعوقات الأدبية والاجتماعية والفنية التي تقف حائلاً بين المعلم ونجاحاته التربوية، وقد جمع ذلك في كتابه”المعلمين”.
وبعد الجاحظ بقليل يبرز فقيه محدث هو “أبو بكر بن عمر البلخي”(280هـ) وينحو في مؤلفه “العالم والمتعلم” منحى الموضوعات في العقيدة والفقه والأدب، من غير أن يعرض إلى آداب ومواضعات العالم والمتعلم.
أما الخطيب البغدادي (392ـ 462هـ) الحافظ والمؤرخ صاحب الفكر المنظم والإنتاج المتنوع، له في المجال التربوي كتابان “الفقيه والمتفقه” في اثني عشر مجلدا جمعها وعلق عليها.
الشيخ”إسماعيل الأنصاري”، وكتاب”تقييد العلم” حققه الدكتور يوسف العشر ونشره في عام 1395هـ.
وكان “لابن عبد البر” (368ـ463هـ) وهو الفقيه الباحث والأديب الأريب مؤلفا هامًا احتفل به العلماء من بعد وهو “جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله”.
أما حجة الإسلام الإمام الغزالي (450ـ 505هـ) الفيلسوف والمتكلم والصوفي، فمن أهم مؤلفاته التربوية كتابه”أيها الولد” وكثير من الرسائل التربوية الأخرى، فضلاً عن جوانب تعليمية وتربوية في مؤلفاته الصوفية والكلامية الكثيرة، مثل ميزان العمل، ومعيار العلم، وبقية رسائله الصوفية الكبيرة والصغيرة.
ثم تعاقب أعلام في التربية كان لهم دورهم في تركيز المفاهيم التربوية وتفصيلها ، فقد أخذ “السمعاني” (506ـ 562هـ)، وهو المؤرخ والحافظ وصاحب كتاب “الأنساب” المشهور جانبًا تربويًّا في بيان أهمية الكتابة، وتصنيف العلوم وآداب المملي والمستملي، وكتابه “أدب الاملاء والاستملاء”، كما اهتم الإمام والمحدث “النووي” بآداب العلم والعالم والمتعلم، وعلى الرغم من غلبة الفقه والحديث وعلم الرجال على تأليفه، فقد شغل أكثر من أربعين صفحة مقدمة للكتابة، اعتمد عليها كثير من العلماء الذين اشتغلوا بالعلم والتربية فيما بعد، ثم توالت تأليفات العلماء بعد ذلك في هذا المجال إلى وقتنا الحالي.