الملخص
لقد اكتسبت هيئات المجتمع المدني في العالم عمومًا وفي تركيا خصوصًا -ولا سيما في العقود الأخيرة- أهمية كبيرة، لما تتسم به من أنشطة تطوعية، وتكاتف مجتمعي حول قضايا ورؤى إنسانية مشتركة تعود بالنفع على الصالح العام، ويتفق الجميع على جدواها. وقد كان لحركة “الخدمة” -بوصفها أحد الفاعلين المدنيين غير الحكوميين- جهودٌ كبيرةٌ في “القضية الكردية” سواء في مناطق شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية أوإقليم كردستان العراق، حيث لعبت هذه الجهود دورًا هامًا في التنمية وبناء ثقافة التعايش ونشر فكرة تقبل الآخر، من خلال مؤسساتها التعليمية والتربوية التي أنشأتها هناك، مما كان لها صداها في تهدئة الوضع الأمني، وتهيئة البيئة -ولا سيما في شرق تركيا- لإحلال ثقافة السلام الدائم قبل أن تتفاقم الأمور مؤخرًا بسبب مغامرات السياسيين. وسوف تُلقي هذه الدراسة الضوء على هذه المجهودات الهادفة لإبراز دور الفاعل المدني غير الرسمي في التنمية والحيلولة دون تفاقم الأزمات، وتهيئة الأجواء لنشر ثقافة السلام والتعايش.
المقال
اضطلعت منظمات المجتمع المدني في العقود الثلاثة الماضية بدور هام في التنمية وحل النزاعات في عدد من الدول، لما تتمتع به من صفات منها: الطابع غير الربحي، والمبادرة الخاصة والكفاءة والفعالية. وحققت نجاحًا ملموسًا في حل النزاعات في أزمات متعددة في أنحاء العالم.
ينبغي أن تكون اللغة الكردية لغة اختيارية في مدارس جنوب شرق تركيا، وكذلك يجب أن تُنشأ إذاعات وقنوات تلفزيونية كردية، لأن التعليم باللغة الأم حق إنساني لا يصحّ أن يكون موضوعًا لأي مساومة سياسية.
وفي شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية وإقليم كردستان العراق كان لجهود حركة “الخدمة” -باعتبارها أحد الفاعلين المدنيين غير الحكوميين- دورٌ هامٌ في التنمية وبناء ثقافة التعايش ونشر فكرة تقبل الآخر، من خلال مؤسساتها التعليمية والتربوية التي أنشأتها هناك، وتبني الفاعلين المجتمعيين لمشاكل المنطقة والعمل على إيجاد حلول مؤسساتية لها، مما كان لهذه الجهود صداها في تهدئة الوضع الأمني، وتهيئة البيئة -ولا سيما في شرق تركيا- لإحلال ثقافة السلام، وفي هذه الدراسة سوف نتناول هذه القضية من خلال ما يأتي:
أولاً: القضية الكردية
ثانيًا: جهود “الخدمة” في مناطق الصراع
ثالثًا:قراءة تقييمية
رابعًا: انتقادات موجهة
أولاً: القضية الكردية
مرت القضية الكردية بمراحل متعددة، سنحاول في السطور التالية تكوين فكرة عامة عنها، ووضع الأكراد عمومًا، وأكراد تركيا بشكل خاص، ثم سنتناول تطورات الملف الكردي ابتداءً من تُورْجُوت أوزال وانتهاءً بالسلطة الحاكمة حاليًا في تركيا “حزب العدالة والتنمية”.
أ- “الأكراد” نظرة تاريخية
الأكراد هم شعوب استوطنت هضبة الأناضول منذ العصور القديمة، وانتشرت حتى منطقة غرب إيران الحالية، وبعد تفكك الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918م خاضت العشائر الكردية حربًا لإنشاء دولة خاصة بهم وتحقيق حلمهم بإقامة دولة كردية في كردستان الكبرى، التي تضم الأراضي الكردية في غرب إيران وجنوب شرق تركيا وشمال العراق وشمال غرب سوريا(1) ، بيد أن كل مساعي الأكراد في إقامة دولة مستقلة لهم منذ قرن تقريبًا حتى الآن قد فشلت، لرفض القوى العالمية والإقليمية لذلك. وانتهت كل المحاولات الكردية بإقامة منطقة حكم ذاتي في إقليم كردستان العراق منذ عام 1974م وفق اتفاق الجزائر بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية في بغداد.
إن تعيين جنود وضباط من القوات المسلحة يحسنون التواصل مع أهالي المنطقة والاندماج معهم، يعمل على إزالة الصورة النمطية الخاطئة التي تشكلت في أذهان الشعب الكردي عن الجيش التركي عبر عقود.
تعرضت الشعوب الكردية في كلٍّ من جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا وغرب إيران للاضطهاد بأشكاله المختلفة من قبل حكومات تلك الدول، وعانت بسبب ذلك الاضطهاد من مشاكل عديدة، فقد انتشر -في مناطق الأكراد- الفقر والأمية والعنف، خاصة في المحافظات الكردية التركية.
ب- الأكراد في تركيا
يبلغ تعداد الأكراد في تركيا نحو 15 مليون نسمة، أي نحو سُدس سكان تركيا(2). ولقد أدى تهميش مناطق الأكراد بشرق تركيا واستبعادها من خطط التنمية من قبل الحكومات التركية المتعاقبة إلى التحاق أبناء تلك المناطق الكردية بحزب العمال الكردستاني الانفصالي المسلح الذي يتخذ من شمال العراق في منطقة جبال قنديل مركزًا له. ويتزعم هذا الحزب “عبد الله أوجلان” المعتقل حاليًا “بسجن إميرالي” في تركيا منذ 1998م حتى الآن. وقد قام هذا الحزب منذ تأسيسه عام1982م بمحافظة ديار بكر في جنوب تركيا بشنِّ عمليات إرهابية مكثفة ضد الحكومة التركية في جنوب البلاد مما أسفر عن مقتل 40 ألف قتيل وخسارة أكثر من ملياري دولار.
جـ- العدالة والتنمية والملف الكردي
بسبب ميول حزب العمال الكردستاني الانفصالية كانت الدولة التركية دائمًا ما تتبنى الحلول الأمنية للحيلولة دون انفصال هذه المناطق عن الدولة المركزية، وكانت هذه الحلول كثيرًا ما تؤدي إلى خسائر في أرواح المدنيين من الأكراد وتشريد عديد منهم من قراهم ومدنهم، مما كان يفاقم الأزمة ولا يساعد على حلها. ولم تظهر الحلول المدنية إلى الوجود إلا في عهد الرئيس التركي “تورجوت أوزال”، حيث طرح حزمة من المشاريع التنموية التي من شأنها أن تقضي على كثير من مشاكل المنطقة كالفقر والبطالة، وتجفيف منابع الإرهاب التي تتمثل في مد حزب العمال الكردستاني المسلح بالعناصر البشرية.
ولكن بوفاة “تورجوت أوزال” المفاجئة عام 1993م، توقفت هذه المشاريع التي كان من أبرزها مشروع جنوب شرق الأناضول والذي كان يشار إليه اختصارًا بـ”GAP” لتعود مرة أخرى الحلول الأمنية أشد ضراوة وعنفًا، وليغرق الشرق التركي في مستنقع العمليات المسلحة من قبل الطرفين، التي تؤدي إلى إزهاق أرواح المدنيين وتشريد الأهالي ونزوح العائلات إلى مناطق أخرى أكثر أمنًا.
وعندما تولى حزب “العدالة والتنمية” مقاليد الحكم بتركيا عام 2002م أعلن عن رغبته في وضع حدٍّ لهذا النزاع الدموي المسلح، فبدأ باتخاذ خطوات جادة في هذا الصدد، حيث بدأ بالفعل عام 2004م تخفيف بعض القيود على استخدام اللغة الكردية، والاعتراف بالهوية الكردية. وقد جاءت هذه الإجراءات ضمن حزمة الإصلاحات التي طالب الاتحاد الأوروبي أنقرة بتنفيذها قبل الانضمام إليه، ورغم هذا فقد كان أثرها إيجابيًا في تهدئة الأزمة. كما أسهمت عديد من الإصلاحات الديمقراطية التي أوصى بها الاتحاد الأوروبي من الحد -بشكل كبير- من تدخل الجيش التركي في الشأن السياسي بالبلاد، مما ألقي بظلاله على القضية الكردية حيث تعاملت معها النخبة السياسية التركية آنذاك بنهج جديد بغية حلها. وقد تمثلت تلك الإجراءات –حينها- في إلغاء محاكم أمن الدولة، وضمان السيطرة المدنية على مجلس الأمن القومي، وإلغاء عقوبة الإعدام، وإلغاء قانون الطوارئ في جنوب شرق تركيا حيث يتركز الأكراد، والسماح بإنشاء قناة تلفزيونية رسمية ناطقة باللغة الكردية، وإنشاء مراكز خاصة لتعليم اللغة الأم أي اللغة الكردية(3).
تعاطف انتشرت فكرة “مجالس الشاي” وتعاطف معها السكان المحلييون ورجال الأعمال الأكراد الأثرياء، فسارعوا إلى تأييدها وقدموا الدعم المادي اللازم لإنشاء المؤسسات التعليمية في المناطق الكردية.
ويمكن أن نطلق على تلك الفترة مرحلة “انفراج الأزمة في هذه المناطق” التي استمرت عقدًا كاملًا تقريبًا منذ 2004م حتى 2013م، حيث كثف الفاعلون المدنيون -بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم- نشاطاتهم في المنطقة، وواصلت حركة “الخدمة” جهودها التي كانت بدأتها منذ التسعينات إبان عهد الرئيس الراحل “تورجوت أوزال”، إذ كثفت من تواجدها في محافظات جنوب شرق تركيا، وضاعفت عدد مؤسساتها التعليمية والتربوية والاقتصادية لمواجهة الجهل والفقر والقضاء على العنف في تلك المناطق.
وقد بدأت خلال تلك المرحلة مفاوضات السلام بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني بعقد محادثات سرية في العاصمة النرويجية “أوسلو” عام 2009م، وعُرفت شعبيًّا باسم “عملية أوسلو”. وشملت الاجتماعات ممثلين عن حزب العمال الكردستاني وبعض أعضاء الشتات الكردي والمسؤولين الأتراك. غير أن هذه المحادثات لم تدم طويلاً، فقد فشلت عام 2011م، ثم أعقبها عودة عمليات العنف المتبادل بين الطرفين حيث سجل عام 2012م العام الأكثر عنفًا بجنوب شرق تركيا منذ عام 1999م.
ثم أُعلنت “هدنة” خاض بعدها الطرفان مفاوضات استمرت عامًا ونصف العام، غير أن تلك الهدنة لم تستمر طويلاً أيضًا، فقد نُقضت منتصف عام 2014م بعد اتهام حزب العمال الكردستاني للحكومة التركية باستهداف تجمع انتخابي كردي بإسطنبول، مما دفع الحزب لاستهداف مقار الشرطة التركية في جنوب البلاد وعادت دائرة العنف المتبادل بين الطرفين مرة أخرى(4).
ثانيًا: جهود “الخدمة” في مناطق الصراع
تتبنى حركة “الخدمة””قيمًا إنسانية سامية متسقة مع المعايير والأعراف الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومنها: احترام حقوق الإنسان، والمساواة بين المواطنيين دون أى تمييز، واحترام المعتقدات وتقبّل الآخر، والانفتاح على الحوار، وتنزيه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، واحترام القانون، وعدم استغلال إمكانيات الدولة استغلالاً سيّئًا، والالتزام بالمسار الديمقراطي في إدارة البلاد، ورفض استخدام السلطة لإكراه الأفراد والمجتمعات على معتقدات معيّنة، والثقة في المجتمع المدني، وتوظيف التعليم لإحلال ثقافة السلام في المجتمعات”(5).
وتعد هذه القيم التي تؤمن بها حركة الخدمة منطلقًا إيجابيًّا تعمل من خلاله على رأب الصدع في كل المناطق التي تنشط فيها، وسوف نوضح هنا رؤية الخدمة الفكرية والتطبيقية التي عملت من خلالها على معالجة الآثار السلبية الناجمة عن النزاع المسلح في مناطق جنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية، وإعادة تأهيل الإنسان والعمران لتجفيف منابع الإرهاب، والوصول بالمنطقة إلى المستوى المنشود من الازدهار الحضاري.
الرؤية الفكرية
تعد الرسالة المطولة التي بعث بها الأستاذ “فتح الله كولن” عام ٢٠٠٨م إلى رئيس الوزراء التركي آنذاك “رجب طيب أردوغان” بمثابة وثيقة حية تعبر عن رؤية الأستاذ ومن ثم الخدمة في كيفية القضاء على الأزمة من جذورها، وإحلال قيم الأمن والسلام والتعايش والتنمية والازدهار، محل الإرهاب والترويع وإزهاق الأرواح وتخريب المدن وتشريد المجتمعات وتبديد الممتلكات.
أن اختلاط الأطباء بالعائلات من خلال الممارسة المهنية من جهة، وعن طريق الأطفال الذين يدرّسونهم من جهة أخرى، سيسهم في غرس أفكار وآمال ورؤى إيجابية في نفوس أهالي تلك المناطق.
أوضح الأستاذ “كولن” في بداية رسالته أن الحل الأمثل لعلاج أي مشكلة والتصدي لحلها لا يكون بإزهاق الأرواح وهدم المنازل على أصحابها وإحراقهم فيها وإثارة الفوضى وإشعال الفتن وتأجيج الصراعات، إنما ينبغي التصدي لها بنور العقل والحكمة، وتغليب جانب الرحمة على جانب الانتقام والتنكيل. وتضمنت مقترحاته لحل هذه المشكلة ما يأتي(6):
أولاً، الإعمار: يجب أن تتركز أولوية الحل على مسألة إعمار المنطقة (المقصود بها محافظات الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا)، بحيث تصبح مركز جذب، من خلال العمل على تنمية المنطقة لإعادة بنائها وإحيائها بصورة متكاملة حتى تعود مركزًا هامًّا للحضارة والازدهار، وترتقي إلى مستوى من العمران يغبطها عليه الجميع، ويشعر سكان هذه المناطق بالرضى عن أوضاعهم والسعادة بتواجدهم فيها كما كان عليه الحال في التاريخ. وينبغي بذل كافة الجهود بجدية تامة وإخلاص كامل لتحقيق التنمية المستدامة وتحويل المدن الشرقية إلى حواضر زاهرة.
ثانيًا، التعليم: ينبغي أن يُنظر إلى مسألة التعليم في المنطقة بشكل جدي؛ لأن حلَّها سيحل تلقائيًّا مشاكل أخرى عديدة. كما يجب التركيز على نوعية المعلمين الذين يُعيَّنون للتدريس في هذه المناطق، إذ عليهم أن يتلقوا تدريبًا خاصًّا يؤهلهم للتضحية حتى بأنفسهم من أجل تعليم إخوانهم هناك، وينبغي أيضا أن يذهبوا إليها دون أن يفكروا بالعودة إلى مدنهم، بل ينبغي أن يفكروا بأنهم ذهبوا ليموتوا هناك ويدفنوا هناك. ينبغي إرسال معلمين أكفاء يمتازون بروح الإيثار والبذل، ويحملون أهدافًا سامية وغايات نبيلة، لينشئوا جيلاً متوازنًا سليمًا إذا توفرت لديهم المؤسسة التربوية المتكاملة. وسوف تكون شهادات طلاب هذه المدارس وخاصة صغار السن منهم عن معلميهم هؤلاء شديدة التأثير في نفوس ذويهم، وسيكون لها وقعها الإيجابي في تليين مشاعر الأهالي وبعث الثقة في نفوس أهل شرق تركيا كافة إزاء أهل غرب تركيا.
ثالثًا، السماح بتدريس اللغة الأم “الكردية” والتحدث بها: لقد اقترح العلامة “بديع الزمان سعيد النورسي” مشروعًا بتأسيس جامعة باسم “مدرسة الزهراء” في مدينة وان شرقي تركيا منذ عهد المشروطية “الدستور” ١٩٠٨م. كما اقترح أن تُدَرَّس اللغات الثلاث “العربية والتركية والكردية” جنبًا إلى جنب في تلك الجامعة، على أساس أن يكون تدريس العربية فرضًا والتركية واجبًا والكردية جائزًا، وهو ما نكرر اقتراحه اليوم كجزء من الحل للقضية الكردية، أن تكون اللغة الكردية لغة اختيارية في مدارس جنوب شرق تركيا، وكذلك يجب أن تُنشأ إذاعات وقنوات تلفزيونية كردية، لأن التعليم باللغة الأم حق إنساني لا يصحّ أن يكون موضوعًا لأي مساومة سياسية. وهذه الأنشطة التربوية ستُسهم في منع الصعود إلى الجبال. (المقصود هنا منع التحاق الشباب بحزب العمال الكردستاني وهذا ما حدث فعلاً وسيتم توضيحه لاحقًا).
رابعًا، الرعاية الصحية: ينبغي الاهتمام بالرعاية الصحية عبر توفير مؤسسات ومراكز صحية في هذه المناطق. ويمكن تخصيص طبيب ممارس عام لكل قرية كردية. ويمكن لهؤلاء الأطباء إلقاء دروسٍ ومحاضرات في المدارس حول الطب الوقائي لرفع مستوى الوعي الصحي، والحيلولة دون حدوث بيئات قابلة لأمراض شتى. ولا شك أن اختلاط الأطباء بالعائلات من خلال الممارسة المهنية من جهة، وعن طريق الأطفال الذين يدرّسونهم من جهة أخرى، سيسهم في غرس أفكار وآمال ورؤى إيجابية في نفوس أهالي تلك المناطق.
وبحلول عام 2009م، بلغ العدد الإجمالي لمؤسسات التعليم في المحافظات الكردية “أديامان، أغري، باتمان، بينغول، بيتليس، ديار بكر، ألازيغ، هكاري، غازي عنتاب، الإسكندرون، ماردين، موس، سانليورفا، سيرت، سيرناك، تونسيلي، وفان” نحو 289 مؤسسة تقدم خدماتها لنحو 84282 طالبًا.
خامسًا، إزالة الانطباع الخاطئ عن الجيش التركي: إن تعيين جنود وضباط من القوات المسلحة يحسنون التواصل مع أهالي المنطقة والاندماج معهم، يعمل على إزالة الصورة النمطية الخاطئة التي تشكلت في أذهان الشعب الكردي عن الجيش التركي عبر عقود؛ فالجيش في الذهنية الشعبية هو مدبِّر الانقلابات على الديمقراطية دائمًا، وهو الذي يمارس أصنافًا من الاضطهاد والقمع.
سادسًا، الاستقرار الأمني بلا عنف: ينبغي العمل على انتقاء ضباط شرطة شرفاء جادين في عملهم يتسمون بشخصية قوية، ويقدسون واجبهم الوظيفي، ويتحلَّون بمشاعر البذل والعطاء، ولديهم الحماسة لبث الأمن والطمأنينة في قلوب الناس، ليذهبوا وليكونوا نماذج حقيقية للأمن الحقيقي، عبر مد جسور التواصل الإنساني مع المواطنين الأكراد، وممارسة الرياضة مع الأطفال إن أمكن، يقدمون لهم هدايا، ويقيمون علاقات وطيدة مع الشباب. فتَلقّيِ أحد هؤلاء الأطفال هدية من أخيه الشرطي ستجعله لا ينظر إلى دولته بعين سيئة من ناحية، وتقيه شر الانخداع بعصابات المافيا والإرهاب المحرّضة على الجيش والشرطة من ناحية أخرى.
سابعًا، تحسين السلك الإداري: إن عملية انتقاء واختيار كوادر السلك الإداري من محافظين وولاة، ومساعدي ولاة وآخرين، لا تقل أهمية عن العناصر سالفة الذكر، ولذلك ينبغي أن يتم انتقاء النخبة الإدارية بعناية خاصة من بين الكفاءات التي تحمل أهدافًا نبيلة، وتسيطر على أنانيّتها، وتقدم حياة الآخرين على حياتها وسعادتهم على سعادتها؛ همُّهم الأول تقديم خدمة المواطنين على مصالحهم الشخصية، ويتسمون بالصبر والتواضع وحسن المعاملة. وعلى الدولة أن تحضُّهم على الاختلاط بالشعب في أسواقهم ومنازلهم ودور عباداتهم ومستشفياتهم ومراكزهم الصحية ومقراتهم الأمنية وثكناتهم العسكرية وهيئاتهم الإدارية.
ثامنًا، انتقاء كوادر دينية محلية مدربة: ينبغي أن يوظَّف رجال دين يتقنون لغة أهل المنطقة، ويعرفون طبيعة الشعب الكردي بكل تفاصيلها، يجيدون تحليل سكان المنطقة وقراءتهم قراءة صحيحة بتفاعل عاطفي جادّ، ويتعاملون معهم عن معرفة ودراية.
تاسعًا، توفير الدعم المعنوي والتثقيفي والأمني للوجهاء الدينيين في المنطقة: في شرقي تركيا للقيادات الدينية من مشايخ وعلماء ووجهاء دينيين مكانة كبيرة، فلو أقيمت دورات تثقيفية لهم تقدم رؤية الحكومة هذه، وتوفر كافة التدابير الأمنية اللازمة لهم، وتحثُّهم على رفع معنويات الأهالي، لأسهَم ذلك في رفع الوعي في هذه المناطق. ولو أضيف إلى ذلك توظيف الدعاة الشباب الذين تَربّوا على أيدي هؤلاء العلماء أئمةً وخطباء في مساجد مختلفة من شرقي تركيا لعمَّت الطمأنينة كافة الأرجاء.
عاشرًا، إفساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني للعمل بتلك المناطق: ينبغي ألا يُعالَج الإشكال من خلال تدابير سياسية وعسكرية وإدارية فحسب، وألا تُترَكَ المهمةُ للمسؤولين الحكوميين فقط، بل ينبغي إفساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني، وأن تَبذُلَ كافةُ شرائح المجتمع أقصى ما في وسعها من أجل تعزيز الوحدة الوطنية، ونبذ كافة أسباب الفُرقة والنزاع والشقاق.
وهذه المقترحات التي وُثِّقت في رسالة الأستاذ “كولن” هي رؤيته لحل القضية الكردية، ونجد أنها تتوافق مع النهج العام للحركة وآليات عملها.وقد لعبت الحركة دورًا إيجابيًّا في الدفع بعملية التحوّل الديمقراطي بتركيا قدمًا، بعد “الانقلاب الناعم” بالبلاد عام 1997م، وسعت للقضاء على التحديات التي تواجه تقدم المجتمع التركي وهي: الجهل والفقر والمرض والانشقاقات داخل المجتمع، ولهذا وجَّه كولن أتباعه إلى العمل في المجتمع المدني على مواجهة تلك التحديات، من خلال الاستثمار في التعليم والإعلام والعمل الإغاثي والخيري، لترسيخ هوية للمجتمع التركي تَقبَل بالاختلافات، وتجمع بين مختلف التوجهات والتناقضات مثل الإسلامي والعلماني، اليميني واليساري، القومي التركي والقومي الكردي وهكذا(7).
2. الجهود الميدانية في الشرق التركي
ركزت حركة “الخدمة” جهودها في محافظات جنوب شرق تركيا، وهي محافظات ذات غالبية كردية، وقد نجحت مؤسسات “الخدمة” في إحداث نقلة نوعية وتنموية وتعليمية في تلك المحافظات مما أدى إلى تقليل معدلات انضمام الشباب للتنظيمات المسلحة عبر تعليمهم وتوفير فرص عمل مناسبة لهم. وقد اعتمدت حركة “الخدمة” على ثلاث آليات للعمل هي:
ينبغي العمل على انتقاء ضباط شرطة شرفاء جادين في عملهم يتسمون بشخصية قوية، ويقدسون واجبهم الوظيفي، ويتحلَّون بمشاعر البذل والعطاء، ولديهم الحماسة لبث الأمن والطمأنينة في قلوب الناس.
تأسيس مؤسسات تعليمية لمحاربة الجهل.
تأسيس جمعيات خيرية لمحاربة الفقر.
نشر الوعي الثقافي لمحاربة العنف والترويج لفكرة قبول الآخر، والمساواة بين الرجل والمرأة في التعليم، وبين الكردي والتركي في الحقوق والواجبات.
وقد نجحت هذه الآليات في إنشاء جسور بين الأكراد والأتراك وإزالة الاحتقان التاريخي بين الطرفين، وظهر ذلك جليًّا في الدوائر الانتخابية التركية والكردية، حيث نجح بعض المرشحين الأتراك في الدوائر الكردية والعكس، كما ظهر ايضًا في التبرعات الخيرية، حيث تبرع عدد كبير من رجال الأعمال الأتراك لإنشاء مؤسسات تعليمية وخدمية خيرية في المحافظات الكردية والعكس.
ويمكن القول إن العمل داخل المحافظات الكردية بجنوب شرق تركيا قد بدأ قبل تبلور نهائي لملامح ذلك المشروع، حيث بدأ تواجد الحركة في المدن التي يسكنها الأكراد بتركيا أواخر الثمانينات من القرن العشرين.
وقد تنوعت جهود الخدمة لمعالجة المسألة الكردية في هذه المناطق إلى عدة مجالات مختلفة تشمل ما يأتي:
أ- الجهود التعليمية
كانت اجتماعات “الشاي” الدورية بمثابة عامل للتوعية بين السكان المحليين الذين اتفقوا على أن الدولة غير قادرة على توفير الخدمات التعليمية الضرورية في كل محافظات جنوب شرق تركيا، وكان بعضهم يعتقد أن الدولة التركية العلمانية حرمت عمدًا المنطقة من المدارس وغيرها من الخدمات الأساسية لمعاقبة سكانها الأكراد، والنتيجة أن عدد الشباب العاطلين وغير المتعلمين في تلك المناطق يزداد باطراد، ويشكلون المصدر الرئيسي للانضمام لحزب العمال الكردستاني المسلح؛ فاتفق السكان المحليون والمتطوعون من “الخدمة” على أن يتحملوا مسؤولية معالجة مشكلة التعليم في تلك المناطق، ثم انتشرت الفكرة على نطاق أوسع في أوساط السكان المحليين حتى وصلت إلى مسامع رجال الأعمال الأكراد الأثرياء في إسطنبول، وغيرها من المدن التركية الكبرى، فسارعوا إلى تأييدها وقدموا الدعم المادي اللازم لإنشاء مؤسسات تعليمية وبالفعل أَسست “الخدمة” مئات المنشآت التعليمية في المحافظات الكردية 8.
كانت أول المؤسسات التعليمية التي أسستها الخدمة في الشرق التركي هي مراكز التأهيل الجامعي في محافظتي “دياربكر وأورفا” عام 1988م. التي تم تمويلها من قبل رجال الأعمال الأكراد المحليين الذين قاموا بتطوير علاقات الصداقة من خلال “محادثات الشاي الأسبوعية” بينهم، ثم بدأ التوسع في إنشاء المؤسسات التعليمية المختلفة بدءًا من الحضانة ورياض الأطفال وانتهاء بالمؤسسات الجامعية المختلفة، ومن ذلك على سبيل المثال:
– أول مدارس ثانوية خاصة في أوائل التسعينات في ماردين، وأطلق عليها مدرسة “أتاك” الثانوية.
– وفي مدينة نصيبين، أُنشئت مدرسة إعدادية “سور ديرشانيسي” التحق بها 15 طالبًا فقط في البداية فور تأسيسها عام 1996م، ثم زاد عدد الطلاب بشكل كبير عام 2000م، ليصل إلى 280 طالبًا عام 2004م، و 480 طالبًا عام 2005م، و900 طالبًا عام 2006م.
ولم تقتصر المؤسسات التعليمية على المدارس الإعدادية والثانوية، بل ابتكرت حركة الخدمة ما أطلق عليه “قاعات القراءة” أو صالات المطالعة، وهي بمثابة مكتبات عامة مجانية مفتوحة للقراءة والاستذكار طوال العام، وبها عدد من المتطوعين يقدمون الدعم المدرسي والنفسي للطلاب المترددين على هذه المكتبات. وقد أنشأت الخدمة 25 قاعة للقراءة والمطالعة في ديار بكر وحدها، تقدم خدماتها لأكثر من 3000 طالبٍ سنويًّا. ثم توسعت تلك القاعات لتقدم خدماتها لأکثر من 140 ألف طالب وطالبة 9. وبحلول عام 2009م، بلغ العدد الإجمالي لمؤسسات التعليم في المحافظات الكردية “أديامان، أغري، باتمان، بينغول، بيتليس، ديار بكر، ألازيغ، هكاري، غازي عنتاب، الإسكندرون، ماردين، موس، سانليورفا، سيرت، سيرناك، تونسيلي، وفان” نحو 289 مؤسسة تقدم خدماتها لنحو 84282 طالبًا.
أسهمت أنشطة “الخدمة” المتمثلة في إنشاء مراكز ثقافية وجمعيات التنمية القروية وقاعات القراءة للطلاب الفقراء وأندية الأخوة النسائية في تنوير وتثقيف المرأة الكردية والعمل على نشر الوعي الثقافي ونشر فكر التعايش و قبول الآخر.
هذا إلى جانب “داخليات” أو مساكن للطلاب التي أسست في البداية بشكل محدود، وكان يشرف عليها عدد من المتطوعين يسيرونها ببرامج محددة في التربية والتعليم والسلوك، ثم ما لبثت هذه المؤسسات أن انتشرت بعدما لمس أهالي المنطقة التغيرات الإيجابية في سلوك أبنائهم وتفوقهم الدراسي حتى عمَّت هذه المساكن أغلب المدن والمناطق في شرق تركيا، بل فتحت حتى في بعض القرى، وكان القائمون عليها شباب أغلبهم من غرب تركيا ليساعد ذلك على الاندماج المجتمعي بين الشرق والغرب، ويعزز من شعور ضرورة الوحدة ونبذ فكرة الانفصال.
وجدير بالذكر أن هذه المؤسسات التعليمية قد حصل عدد كبير من طلابها على منح دراسية في أفضل الجامعات داخليًّا وخارجيًّا بسبب تفوقهم الدراسي، وصارت المدن والمناطق التي كانت رمزًا للتخلف والبطالة والجريمة المنظمة تصدر أنبغ الطلاب لجامعات مثل بوغازتشي في داخل تركيا ومثل هارفارد وأوكسفورد في خارجها.
ب- الجهود الإغاثية
لم تكتف الخدمة بالمؤسسات التعليمية فقط، بل عملت على محاربة الفقر في تلك المحافظات عبر فتح فروع جديدة لمنظمة “هل من مغيث؟” الخيرية التابعة لها، حيث افتتحت عام 2004م أول فروعها في جنوب شرق البلاد، وكان لها دور مهم عام 2006م، خاصة بعد الفيضانات الشديدة التي تعرضت لها المحافظات الكردية، حيث وزَّعت معونات قُدِّرت بحوالي 2 مليون يورو، وقدَّمت مساعدات لنحو 17 ألف أسرة عام2006 م و60 ألف أسرة عام 2007م.
جـ- الجهود الاجتماعية
دعا الأستاذ كولن في دروسه الأسبوعية ومواعظه الدورية إلى تطوير أواصر العلاقة بين شعوب الشرق والغرب التركي، فبدأت على إثر ذلك فعاليات الأخوة المتمثلة فيما يأتي:
1- توأمة المدن: وتعني أن يتكفل أهالي مدينة من مدن الغرب (من المتطوعين في الخدمة والمحبين لأنشطتها) بكل احتياجات مدينة من مدن الشرق التركي؛ سواء في المشاريع التجارية على مستوى رجال الأعمال، أو المنح الدراسية للطلاب، أو الرعاية الإنسانية والصحية للمحتاجين منهم، وذبح الأضاحي والفعاليات الرمضانية، ودعوة أهالي المدينتين بعضهم البعض للتواصل والتزاور وإنشاء شراكات تجارية وتعليمية واجتماعية مختلفة، ومن ذلك التوأمة بين مدينتي بورصا وماردين، وإسطنبول وديار بكر، وإزمير وبتليس وهكذا.
2- توأمة المدارس: وتعني أن تتآخى إحدى مدارس الخدمة الخاصة المتواجدة في منطقة من المناطق مع مدرستين أو ثلاث مدارس حكومية من مدارس الشرق التركي، ومن ثم تقوم بتوفير كل ما يلزم لهذه المدارس من وسائل تعليمية متطورة، وإقامة دورات تدريبية لرفع كفاءة المعلمين والمعلمات في هذه المدارس، ومنح المتفوقين والمتفوقات من طلاب هذه المدارس منحًا تعليمية متنوعة، وتخصيص مقاعد مجانية في مدارس الخدمة الخاصة ذات المستوى العالي لطلاب وطالبات مدن الشرق ذات الأغلبية الكردية بنسب تصل إلى 15 في المائة، هذا فضلا عن ترتيب رحلات علمية وثقافية مجانية بشكل دوري لزيارة المتاحف والمعالم الأثرية في المدن الكبرى في تركيا مثل إسطنبول وبورصا وإزمير.
3- توأمة العائلات: وتعني أن تقوم بعض الأسر وخاصة أسر رجال الأعمال والميسورين ماديًا، بالتآخي مع بعض العائلات في الشرق التركي، وتنظم هذه العائلات مع بعضها البعض برامج تواصل يتزاورون فيها، ويتكافلون فيما بينهم ماديًا ومعنويًا وفق روح الأخوة والتعاون، وردم الفجوات النفسية والاجتماعية التي تكونت عبر السنوات بفعل العوامل المختلفة.
ولقد كانت تتم هذه البرامج بخطة وضعتها حركة الخدمة، باعتبارها إحدى حركات المجتمع المدني، وعمل أفرادها المتطوعون فيها على تنفيذ آليات هذه البرامج بهمة ونشاط أسفرت عن تغيير انطباع أهالي مناطق الشرق من ذوي الأغلبية الكردية تجاه إخوانهم من المناطق الأخرى، ومهدت الأرض، ولطفت الأجواء لقيام الحكومة بدورها المنوط بها في بسط نفوذها على كامل التراب التركي، وتهيئة بيئة صالحة للسلام العادل، ونزع المبررات التي كان كتائب حزب العمال الكردستاني تسوقها لتبرير عملياتها المسلحة ضد الدولة التركية ومؤسساتها المختلفة.
د- الجهود الاقتصادية
لطالما كانت مناطق الشرق التركي ذات الأغلبية الكردية واعدة باقتصاديات جيدة، بسبب كثرة ووفرة الثروات الطبيعية الموجودة فيها، ووفرة الأيدي العاملة وقلة تكلفتها، ولكن الإرهاب كان يقف حائلاً أمام أي مشروع واعد يستغل هذه الطاقات والإمكانات، ويسهم في القضاء على أبرز مشاكل المنطقة وهي “البطالة” التي كانت تدفع بالشباب إلى الالتحاق بعصابات المافيا، أو العصابات الإرهابية المسلحة مما كان يفاقم من مشكلات المنطقة. ولكن بالجهود التجارية المنظمة التي قامت بها حركة الخدمة تم تحجيم كثير من هذه المشكلات من خلال ما يلي:
إقامة شراكات تجارية بين رجال أعمال من الشرق التركي ونظرائهم من المناطق الأخرى.
تأسيس جمعيات رجال أعمال، وفتح الآفاق أمام منتجات مصانع الشرق للتصدير إلى مختلف دول العالم.
العمل على تكوين أيدي عاملة مدربة للعمل في هذه المشاريع من أبناء وبنات هذه المناطق.
كما عملت الخدمة على تشجيع المستثمرين الكبار من الأكراد الذين كانت لهم مشاريع ضخمة في المدن التركية الكبرى للاستثمار في مناطقهم، وتحمل مسئولياتهم في هذا الاستثمار.
هـ- الجهود الثقافية
ذكر الأستاذ كولن في رسالته إلى رئيس الوزراء التي تحدثنا عنها سابقًا: “أن اللغة الكردية ينبغي أن تكون لغة اختيارية في مدارس جنوب شرق تركيا، وكذلك يجب أن تُنشأ إذاعات وقنوات تلفزيونية كردية، لأن التعليم باللغة الأم حق إنساني لا يصحّ أن يكون موضوعًا لأي مساومة سياسية”، ورغم أن هذه التوصية كانت موجهة في الأساس إلى الحكومة، فإن المتطوعين من أبناء حركة الخدمة قد سارعوا إلى تنفيذ هذه التوصية، وأنشأوا أول قناة تلفزيونية خاصة ناطقة باللغة الكردية لأول مرة في تاريخ تركيا الحديثة عام 2010م، وأطلق عليها “دنيا تي في”، هذا إلى جانب محطة إذاعية.
ينبغي أن يتم انتقاء النخبة الإدارية بعناية خاصة من بين الكفاءات التي تحمل أهدافًا نبيلة، وتسيطر على أنانيّتها، وتقدم حياة الآخرين على حياتها وسعادتهم على سعادتها؛ همُّهم الأول تقديم خدمة المواطنين على مصالحهم الشخصية، ويتسمون بالصبر والتواضع وحسن المعاملة.
كما أسهمت أنشطة “الخدمة” المتمثلة في إنشاء مراكز ثقافية وجمعيات التنمية القروية وقاعات القراءة للطلاب الفقراء وأندية الأخوة النسائية في تنوير وتثقيف المرأة الكردية والعمل على نشر الوعي الثقافي ونشر فكر التعايش و قبول الآخر، وقد أدت هذه الجهود المكثفة لحركة الخدمة في هذه المناطق إلى تحقيق أمرين يُعدَّان خير دليل على نجاح تلك الجهود في جنوب شرق تركيا وهما:
الأول: عزوف الشباب والطلاب عن الالتحاق بحزب العمال الكردستاني المسلح، أو المشاركة بالأعمال القتالية له، لأنهم وجدوا بديلًا إيجابيًّا وفرصًا تعليمية وتدريبية مناسبة وفرتها لهم مؤسسات الخدمة، كما عملوا على المشاركة مع الحركة في تشغيل هذه المؤسسات ونشرها.
الثاني: إتاحة الفرصة لفتح قنوات ديمقراطية وتمهيد بيئة مناسبة لبدء محادثات السلام التي بدأتها الحكومة بعد ذلك في هذه المناطق.
3– جهود الخدمة في كردستان العراق
الوضع السياسي والاقتصادي بكردستان العراق مختلف بعض الشىء عن جنوب شرق تركيا، لأنه يتمتع بحكم ذاتي عن الحكومة المركزية في بغداد، ما عدا ذلك فإن المنطقتين تشتركان في أنهما ذات أغلبية كردية وتعرضتا للتهميش ذاته من قبل الحكومات المركزية، وخاضتا معارك قاسية ضد الجيشين التركي والعراقي. وقد أسهمت حركة “الخدمة” بأنشطتها وفعالياتها التربوية والتعليمية بإقليم كردستان في تأسيس نهضة تعليمية احتذت بها مؤسسات الإقليم الوليد التعليمية لرفع المستوى الثقافي والفكري والتعليمي في البلاد، ومن ثم مواصلة جهود الأمن والتنمية والإعمار على أسس علمية رصينة.
بدأت “الخدمة” في إنشاء مدارس متكاملة حتى أسست حوالي 20 مدرسة منتشرة في محافظات الإقليم متوزعة بمحافظات أربيل، السليمانية، دهوك، حلبجه، كركوك، ويتم التعليم في كردستان العراق، بأربع لغات الكردية والعربية والتركية والإنجليزية وهي سمة مميزة لمدارس “الخدمة” حيث تقدم خدماتها التعليمية لعدد متنوع من الأعراق والإثنيات فيلتحق بها الطلاب من الأكراد والتركمان والعرب 10.
وقد واجه معلمو الخدمة في كردستان العراق عددًا كبيرًا من الصعوبات، فمنذ بدأ عملهم هناك عام 1994م أسسوا أول مدرسة في أربيل باسم “هولر”، في وقت كان فيه العراق في حالة اضطراب سياسي بعد حرب الخليج الثانية عام 1991م، ويخضع لعقوبات أمريكية وحصار دولي، هذا فضلاً عن الشك العام حولهم من قبل الأجهزة الأمنية العراقية والكردية والتركية فكل جهة منهم تعتبر معلمي الخدمة يعملون لصالح الجهة الأخرى<.</p
ومع ذلك استطاعوا بفضل عملهم الدؤوب، وتفانيهم في أدائه، وتحقيقهم مستوى عالٍ من النجاح في ملف التربية والتعليم، وتنشئتهم مواطنين صالحين يحبون أوطانهم ويعملون على رفعتها أن يكسبوا ثقة المجتمع الكردي، ومن ثم قام هذا المجتمع باحتضان تلك المؤسسات التربوية التي أسسوها حتى في ظل تأزم العلاقات في بعض الأحيان بين دولة تركيا وإقليم كردستان.
4- حزب “العمال الكردستاني” و”الخدمة”
استطاعت حركة “الخدمة” بجهودها السابقة أن تسهم في معالجة المسألة الكردية عبر تجسير الهوة النفسية والمعنوية بين شعوب الوطن الواحد، وعززت فيهم روح الانتماء إلى الوطن الأم الكبير الذي يحتوي الجميع تحت مظلة واحدة مع مراعاة الخصوصيات الثقافية لكل فئة، كما أسهمت في تقليص فكر الانفصال الذي يتبناه حزب العمال الكردستاني، مما كان سببًا رئيسيًّا في إزعاج هذا الأخير حتى علت أصوات قيادييهم باتهام حركة الخدمة بأنها “تعمل بشكل منظم لتقليص حزب العمال الكردستاني”.
كما حذر الحزب مرارًا من أنه سيعاقب كل من يتعامل مع الخدمة ومؤسساتها، “من يؤجرون منازلهم ومبانيهم لها، ومن يرسلون أطفالهم إلى مدارسها”، وقد نفَّذ ذلك التهديد بالفعل حيث هاجم بعض المسلحين علنًا مؤسسات للخدمة، وفجّر قنبلتين في مدرستين بقريتين بمحافظة “ديار بكر”، ومركزين للإعداد الجامعي في قرية “ينينهر” بديار بكر، ومدرسة ثانوية خاصة في “هكاري” أزهق عددًا من أرواح المدنيين الأبرياء.
بدأت “الخدمة” في إنشاء مدارس متكاملة حتى أسست حوالي 20 مدرسة منتشرة في محافظات الإقليم متوزعة بمحافظات أربيل، السليمانية، دهوك، حلبجه، كركوك، ويتم التعليم في كردستان العراق، بأربع لغات الكردية والعربية والتركية والإنجليزية.
وفي مقابل هذه العمليات الإرهابية التي راح ضحيتها أبرياء كثيرون، منهم معلمون ومعلمات وناشطون متطوعون في مدارس الخدمة ومؤسساتها التعليمية في هذه المناطق، لم يصدر عن الخدمة أي ردّ فعل سلبي من أي نوع ضد أي أحد، وواصلت الخدمة رغم كل ذلك مساندتها لأي عملية صلح تخدم استتباب الأمن والاستقرار في هذه المناطق.ويرجع السبب الرئيسي لاستياء الأكراد الانفصاليين المسلحين وغضبهم من نشاط “الخدمة” التعليمي في المناطق الكردية إلى نجاح تلك الأنشطة في منع الشباب من الانخراط في عصاباتهم المسلحة التي تتواجد في الجبال.
ثالثًا:قراءة تقييمية
مما سبق يتضح جليًّا أن جهود حركة “الخدمة” التعليمية والتربوية والخدمية في المناطق الكردية قد أسهمت في الأمور الآتية:
* تعزيز فكرة التعايش وتقبل الآخر.
* رفع الوعي الثقافي والتعليمي في هذه المناطق.
* بث روح الأمل في مستقبل واعد بالسلام والاستقرار في ظل دولة عادلة تؤمن بالحقوق والحريات.
* وضع نموذج بنَّاء لعمل منظمات المجتمع المدني إلى جانب القيادة السياسية لتحقيق أهداف الوطن الكبرى، وهي إحلال السلام في كافة أراضي الوطن.
* تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في تنفيذ جزء من الدبلوماسية العامة للدولة من خلال تهيئة البيئة المناسبة لحل المسألة الكردية خلال الفترة 2004م-2013م باعتبارها أحد منظمات المجتمع المدني الفاعلة والمؤثرة في المجتمع. فعملية “بناء السلام” هي نهج تكاملي يحتوي على جميع برامج التنمية والإغاثة، وهي العملية التي تقر بأن السلام يتلازم مع العدالة، كما تتضمن عمليات “بناء السلام” تسهيل الحوار والتواصل بين الأفراد والجماعات الذين لهم تاريخ من الصراع، وتسهيل التبادلات والزيارات وغرس ثقافة السلام المتبادل، ولتفعيل هذه العمليات يبرز دور المنظمات الإنسانية في تقديم المساعدات وتقليل عمليات العنف مما يؤدي إلى تزايد احتمالات السلام” 11، وهذا ما قامت به “الخدمة” في المحافظات الكردية بجنوب شرق تركيا.
رابعًا: انتقادات موجهة
لاقى انتشار مدارس حركة “الخدمة” في المدن الكردية التركية بعض الانتقادات، ومنها:
أن طلاب هذه المدارس يتعرضون لخطر الاندماج في الهوية الإثنية التركية، بناء على نوعية المناهج التي تُدرَّس لهم في هذه المداراس، لكن هذا الانتقاد ينبغي أن يوجَّه لوزارة التعليم التركية عمومًا، إذ لا تتبنى مدارس الخدمة سوى المناهج المقررة في تركيا. وقد حرصت الخدمة في مدارسها على أن تجعل اللغة الكردية لغة اختيارية إلى جانب اللغة التركية، كما استعانت بمدرسين أكراد ليقوموا بتدريس اللغة والتاريخ الكردي جنبًا إلى جنب اللغة والتاريخ التركي، ومن ثم فقد حافظت على الهوية الكردية كما حافظت على الهوية التركية مع التركيز على المشترك القيمي والثقافي والإنساني.
ومن تلك الانتقادات ما وجهته المنظمات الكردية ذات التوجه القومي المتطرف للحركة بأنها تسهم في إنهاء المطالب الكردية، التي تنادي بضرورة اعتراف الدولة التركية بحقوق الأكراد العرقية، من خلال العمل على تعليم الشباب الأكراد وتوفير قنوات مدنية للتنمية الاقتصادية، مما يعزز في نفوسهم فكرة الاندماج في المجتمع التركي ومحو الهوية الكردية 12. لكن الملاحِظ لأدبيات الخدمة وفعالياتها المدنية يسهل عليه أن يدرك أنها أولى منظمات المجتمع المدني التي اعترفت بحقوق الأكراد كَمُكِّون ثقافي متساوٍ مع المكونات الأخرى في المجتمع التركي “كالمكون التركي والعربي والتركماني”، كما تدعو الحركة دائمًا في كل مناسبة إلى ضرورة المساواة الكاملة بين كافة المواطنيين دون أى تمييز عرقي أو إثني أو ديني أو طائفي.
خاتمة
في الختام نودّ التأكيد على أن تجربة حركة “الخدمة” في معالجة القضية الكردية في تركيا هي تجربة رائدة وناجحة بكل المقاييس، رغم الانتقادات التي وجهت لها من قبل المؤسسات الكردية القومية المتطرفة، ورغم الحرب المعلنة ضدها وضد مؤسساتها من قبل الحكومة التركية بعد اتهام الأستاذ “كولن” بالضلوع في “الانقلاب العسكري المزعوم” في يونيو 2016م وهي اتهامات غير صحيحة جملةً وتفصيلاً.
استطاعت حركة “الخدمة” بجهودها السابقة أن تسهم في معالجة المسألة الكردية عبر تجسير الهوة النفسية والمعنوية بين شعوب الوطن الواحد، وعززت فيهم روح الانتماء إلى الوطن الأم الكبير الذي يحتوي الجميع تحت مظلة واحدة مع مراعاة الخصوصيات الثقافية لكل فئة.
وقد اكتسبت تلك التجربة تميزها في أنها ابتكرت آليات جديدة لمعالجة النزاع المسلح، حيث بدأت بمعالجة جوهر الأزمة وهو “الإنسان” عبر الاستثمار في تعليم الشباب الكردي وإيجاد فرص عمل مناسبة لهم، ثم رفع مستوى الوعي الثقافي لديهم ليصبح أمامهم فرص أخرى غير البديل المسلح الساعي لتحقيق حلم الانفصال بعيد المنال، الذي إذا تحقق سيبدأ معه سلسلة جديدة من المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية وربما الاقتتال على الهوية أو العرقية أو الطائفية. ولذا فإن ما فعلته “الخدمة” أنها قدمت للأكراد بديلًا جديدًا في الحياة غير الموت الذي يقدمه لهم استمرار النزاع المسلح.
وجدير بالذكر أن السلطة الحاكمة الحالية بقيادة أردوغان منذ أحداث قضية الفساد في 17 و25 ديسمبر 2013م، وبعد اتهام هذه الحكومة -بلا أي سند أو دليل- حركة الخدمة بتدبير انقلاب مدني قضائي ضدها، قامت بإغلاق مئات المدارس، وصالات المطالعة، وجمعيات رجال الأعمال الناشطة في هذه المناطق وفي كل تركيا، وفصلت المعلمين والمعلمات من وظائفهم، وصعدت إجراءاتها بعد الانقلاب المزعوم في يونيو 2016م، فاعتقلت كل من له أدنى صلة بالخدمة كرديًّا كان أو تركيًا، وتوقفت تماما كل جهود وأنشطة الخدمة في هذه المناطق، وعادت الحلول الأمنية تطرح نفسها من جديد، ولاسيما بعد اعتقال السياسيين الأكراد، وإسقاط عضوية نوابهم المنخبين ديمقراطيًّا من البرلمان، وصارت المنطقة بؤرة للصراع من جديد بعدما كانت على وشك الحل النهائي نتيجة الجهود السالف ذكرها سياسيًا واجتماعيًّا. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، كيف ستنعكس هذه الإجراءات على شرقي تركيا في المدى القريب والمتوسط والبعيد في ظل غياب أقوى فاعل مدني حقق إنجازات ملموسة على أرض الواقع؟ وهل ستستطيع الحكومة الحالية سدَّ هذا الفراغ الكبير الذي أحدثه غياب حركة الخدمة كفاعل مدني رئيسي في هذه المناطق؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام لاحقًا.
المصدر: مجلة نسمات
الهوامش
(1) باسيلي تيكين، “الكرد دراسة سسيولوجية وتاريخية”، “نوري طالباني”، السليمانية ، العراق، 2007م، ص 291-293.
(2) عثمان علي، “الحركة الكردية المعاصرة”، أربيل، العراق، 2011م. ص 289-293.
(3) رضا محمد هلال، “الأكراد بين الفيدرالية والانفصال”، السياسة الدولية، العدد 205، يوليو 2016م المجلد 51، ص 124-125.
(4) أحمد دياب. الأبعاد السياسية لاتفاق السلام التركي – الكردي. السياسة الدولية، العدد 192. يوليو 2013م. المجلد 48. ص 130-131.
(5) فتح الله كولن “كلمات شاهدة” حوارات مع الأستاذ كولن حول الدين والمجتمع والدولة بأفق إنساني، دار النيل، القاهرة 2015م.
(6) فتح الله كولن، “مقترحات لحل المسألة-الكردية”، خطاب الأستاذ كولن عام ٢٠٠٨م إلى رئيس الوزراء التركي آنذاك “رجب طيب أردوغان”.منشور في موقع نسمات: www.nesemat.com
(7) جورج فهمي، “متى يقرر الفاعلون الدينيون دعم عملية التحوّل الديمقراطي، ومتى يقررون معارضتها أو البقاء على الحياد؟” متاح على http://carnegie-mec.org/2016/06/13/ar-pub-63788
(8) Dogan Koc. Hizmet Movement’s Effects on PKK Recruitment and Attacks. Turkish Journal of Politics Vol. 4 No. 1 Summer 2013 .PP(65-66).(79-80).
(9) نوزاد صواش، مراكز الدعم المدرسي.. من ينفق عليها وكيف؟، 28 مارس 2017. متاح على موقع نسمات: www.nesemat.com
(10) نوزاد صواش، “الخدمة تفجر ينابيع الخير الكامنة في الإنسان”، مجلة نسمات، العدد الثاني، أبريل 2017م. متاح على موقع نسمات.
(11) Geun Lee and Kadir Ayhan, Why Do We Need Non-state Actors in Public Diplomacy? JOURNAL OF INTERNATIONAL AND AREA STUDIES Volume 22, Number 1, 2015, p.57 -58.
(12) MUSTAFA GURBUZ. TURKEY’S KURDISH QUESTION AND THE HIZMET MOVEMENT. March 2015 -p. 22 – www.rethinkinstitute.org.