الملخص
يُعَدُّ من أشد فصول المحنة التي يتعرض لها مشروع الخدمة حاليًا استغلالُ المؤسسة الدينية التركية الرسمية في النيل من سمعة الخدمة ومحاولة اغتيال رائدها الأستاذ كولن معنويًّا، عبر اتهامه ومشروعه الدعوي باتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، لا تليق بشرف الإنسان العادي، فضلاً عن قامة علمية ودعوية مجدِّدة من أمثال الأستاذ كولن. ولكن من رحم هذه المحنة قد تولد المنح والعطايا الربانية بلا أي تدبير من العبد. فقد شهد عام 2017م زخمًا علميًا أكاديميًا على أعلى مستوى ولا سيما في أروقة جامعة الأزهر الشريف، حيث نوقشت فيها رسالتان إحداهما للماجستير والأخرى للدكتوراه حول المشروع الدعوي للأستاذ كولن، وأثره في نهضة الأمة والمجتمع. وهذه الدراسة هي قراءة موجزة لرسالة الماجستير التي تمت مناقشتها في أبريل 2017م بكلية أصول الدين بالقاهرة، قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، وفيها يبحث الباحث عن إجابة لسؤال النهضة، ويفتش عن الحلقة المفقودة فيها، والنموذج المنشود من خلال تجربة الخدمة الدعوية.
لا ريب أن السؤال الكبير الذي ينبغي على كل باحث ومفكر وعالِم أن يبحث عن إجابة له –اليوم- هو سؤال النهضة، كيف يمكن لأمتنا أن تخرج من حالة التيه الحضاري؟ كيف لها أن تنبعث من جديد؟ كيف لها أن تعود مركزًا للحضارة وشمسًا للعرفان ونورًا للوحي الإلهي وضياءً يستضاء به في دياجي المادية المسيطرة على العالم؟ وهل الأمة مؤهَّلة وهذا حالها لتتحمل رسالة الإسلام وتنشر نوره في كل مكان؟ ومن أين يبدأ من يرغب في الإصلاح وينشد النهضة؟ من العمل السياسي الذي يستهدف إزالة أنظمة حاكمة واستبدالها بأخرى؟ وهل نجح هذا ذات مرة وأثبت فاعليته وديمومته؟ أم من العمل الدعوي الذي يستهدف إعادة صياغة الإنسان من جديد، ومن ثم صياغة المجتمع وبناء حضارة الأمة؟ وهل هناك نموذج يمكن الاسترشاد به والبناء عليه؟
كانت هذه الأفكار تدور في ذهني، وتعتمل في خاطري، حين وقع في يدي كتاب “عودة الفرسان” للدكتور فريد الأنصاري–رحمه الله- عن الأستاذ “فتح الله كولن”
قرأتُ الكتاب في شوقٍ ولهفة، وجذبتني شخصيةُ الرجل وتجربته الدعوية، وآثاره العملية وزاد من عجبي أن يكون هذا الأمر ليس مجرد تاريخٍ يُسطَّر، ولا رواياتٍ تُحكَى وإنما تجربة حيَّة بين أيدينا.
كيف يمكن لأمتنا أن تخرج من حالة التيه الحضاري؟ كيف لها أن تنبعث من جديد؟ ومن أين يبدأ من يرغب في الإصلاح وينشد النهضة؟ وهل هناك نموذج يمكن الاسترشاد به والبناء عليه؟
دفعني هذا إلى مزيد من البحث والدراسة، ثم بدأتُ في دراسة فكر الرجل وتجربته من خلال ما يأتي:
- قراءة ما تُرجِم من مؤلفاته.
- دراسةُ ما كُتِب عن شخصه أو فكره أو حركته، ما كان منها بالعربية أو ما تمَّت ترجمته.
- زيارةُ المؤسسات التعليمية لـ “الخدمة”، ومقابلة أبناء الخدمة مرةً بعد مرة، ومناقشتهم حول أفكار الأستاذ وشخصيته وما قيل ويُقال عنه وعن حركته وما طبيعة العلاقة التي تجمعهم، إلى غيرها من النقاشات والزيارات التي اتَّضحت معها الرؤية، وتكوَّنت الفكرة.
رأيتُ في تجربة الأستاذ كولن إجابةً عن سؤال النهضة، وتحديدًا لمعالمها، وغوصًا في أعماقها. وجدتُ فيها الحلقة المفقودة، والنموذج المنشود؛ واخترتُ للبحث في هذه التجربة عنوان “تجربة الأستاذ فتح الله كولن الدعوية: دراسة نموذج لنهضة المجتمع والأمة من خلال العمل الدعوي”.
والدراسة في مجملها وعلى تعدد فصولها تدور حول ثلاثة محاور:
- محور الشخصية الفذَّة للأستاذ كولن.
- محور الفكرة والنظرية.
- محور الحركة والتطبيق.
وهي دراسة معنيَّة في الأساس بتقديم هذا النموذج باعتباره نموذجًا نهضويًا ومثالاً حضاريًّا والمقصود بـ” النَّموذج” هنا:
- مجموعة القيم والتصوُّرات والأفكار التي تمَّ تنزيلُها على أرض الواقع، وتصلُح لأن تكون مثالاً يهتدي به السائرون في طريق النهضة
- تقديم هذا النموذج بهذا المعنى لا يعني كونه صورة مثالية، بل هو اجتهادٌ بشريّ، قابلٌ للتصويب والمراجعة والنقد.
- من خصائص النموذج قابليته للتعميم، ومن ثمَّ فهذا النموذج يحمل في طيَّاته الخصائص الصالحة للنمو في بيئات مختلفة على مستوى الأمة ككُلٍّ، تماما كما تحمل البذرة الصغيرة خصائص الشجرة العملاقة، لاسيما وقد اختُبِرت في بيئات متفاوتة وآتت ثمراتٍ نافعةً حيثما حلَّت.
المحور الأول: الأستاذ كولن الشخص والتجربة
لا تكاد تنفصل تجربة الأستاذ فتح الله كولن الدعوية عن حياته على اختلاف مراحلها وتعدُّد فصولها، وهذا المحور معنِيٌّ بمحاولة رسم المعالم الرئيسية لشخصية الأستاذ “فتح الله كولن” باعتباره أحد الرموز الدعوية والفكرية الإسلامية العالمية المعاصرة التي تسهم على نحو فعَّال في تجديد الخطاب الإسلامي، ورسم الطريق نحو نهضة إسلامية وإنسانية شاملة تجمع بين الفكر والحركة، والنظرية والتطبيق، والعقل والعاطفة والتربية والسلوك دون ذاك الفصام بين هذه الثنائيات، الذي عانت منه أمتنا الإسلامية ولاتزال، لذا، فقد حاولتُ الاقتراب من عالَم الأستاذ في هذا المحور، من خلال طريقين:
الأول: إلقاء الضوء على حياته وتجربته الشخصية
الثاني: تحديد موقع تجربة الأستاذ كولن في ضوء تجارب الإصلاح والتجديد في تاريخنا القديم والحديث، ليتضح جليًّا كيف أن الأستاذ قد مدَّ خطَّ التجديد والإصلاح الإسلامي على استقامته.
أولاً: حياة الأستاذ وتجربته الشخصية
يمكننا أن نلمح عدة سمات تميَّزت بها حياة الرجل ومنها:
1- النشأة الروحية والمناخ الجاد
نشأ الأستاذ فتح الله كولن في بيئة ذات طابع خاص، فأسهم من حوله جميعًا في بناء شخصيَّته؛ فلنشأته مناخ متميز هيّأته له خصائص أسرته الروحية، وملازمة أهل الذِّكر والقلوب النيّرة لبيتهم بسبب حب العلماء.
“الخدمة” في الأساس إطارٌ نظري، لكنه تحوَّل بفعل ما نُفِث فيه من طاقة روحية وحركية وفكرية وثقافية إلى واقع حركي متميز.
نهل في صباه الباكر من هذا المنهل الصافي، وارتمى بكلِّيته في هذا المحضن الدافئ، أما شيخه الأول الشيخ الألوارلي، فقد بقي الأثر الذي تركه حاضرًا في وجدانه على الرغم من مرور عشرات السنين، يقول الأستاذ: “رغم مرور السنين لا زلتُ أشعر ببرد لمسات الشيخ محمد لطفي الحانية على أذني، وهو يقول لي: “ألِنْ أُذُنيك، وأصغِ جيِّدًا، لكي يتفتح ذكاؤك وتقوى فراستُك”.
2- التكوين العلمي الذاتي
على الرغم من أن الأستاذ كولن هو ابن للمدرسة التقليدية في التعليم الديني، إلا أنه لا يمكن اعتباره أسيرًا لتلك المدرسة على الإطلاق، والسبب المباشر في هذا أن تكوينه العلمي كان ذاتيًا بامتياز، فلم يكتف الأستاذ فتح الله بالعلوم الشرعية وعلوم اللغة والتراث، وإنما أخذ ينهل من كلَّ معين يرى فيه علمًا نافعًا، فـركَّز على تلقين نفسه مبادئ العلوم الطبيعية والفلسفة والأدب والتاريخ، إضافة إلى التراث الفلسفي الغربي والشرقي على حدٍّ سواء.
والقارئ لكتابات الأستاذ لن يجد عناءً يُذكر في اكتشاف هذه العقلية الموسوعية المطَّلعة على الثقافات المختلفة، فمهما كان تخصصك فإنك واجدٌ في كتاباته ما يحفِّز عقلك ويُثري قريحتك.
3- تأثير رسائل النور وشخصية الأستاذ النورسي
على الرغم من أن تجربة الأستاذ كولن –في رأيي– قد استوعبت تجربة النورسي، ثم تجاوزتها إلى آفاق أرحب، إلا أن هناك حالة من الوفاء والتقدير لشخص الأستاذ النورسي وتجربته لا تكاد تفارق الأستاذ كولن، فالنورسي –بحق– هو شيخه الذي لم يره، وأستاذه الذي لم يجلس بين يديه.
تُرى هل كان الأستاذ النورسي ببصيرته الفذَّة يرى أنه يمهد الطريق لآخرين يفتح الله على أيديهم مغاليق البلاد وقلوب العباد، فيقول: “يا ناظر! أظنُّني أحفر بآثاري المشوَّشة عن أمرٍ عظيم بنوع اضطرارٍ منّي. فيا ليت شعري هل كَشَفتُ.. أو سينكشفُ.. أو أنا وسيلة لتسهيل الطريق لكشَّافه الآتي”(1).
هذه الرابطة شديدة الوضوح بين الرجلين العظيمين لا تكاد تخطئها عين، فـ”عندما يتحدث كولن عن الإسلام اليوم يمكننا سماع صوت النورسي ورسالته”(2).</p
4- الحياة في محراب الدعوة
الدعوة إلى الله هي محور حياة الأستاذ فتح الله كولن، والتأثير الكبير لمواعظه ودروسه، هي حجر الزاوية والعنصر الفعال في هذه الحياة الدعوية. إن الصفة الأولى للأستاذ كولن هي أنه داعٍ إلى الله، والدعوة إلى الله عنده مفهوم واسع شامل يتناول الموعظة والخدمة والتربية والتعليم والحوار والإغاثة ومجاهدة النفس واكتشاف الذات. من هنا بدأت فكرة “الخدمة”، من العمل الدعوي، بدأت الدعوة تشق طريقها في سكون وهدوء، وهكذا هي الأشجار الباسقة العملاقة، تبدأ من نبتة صغيرة.
ويمكننا القول إن الخطوة الأولى نحو تأسيس التجربة يكمن وراء تأثير الأستاذ كولن، بشخصيته المؤثرة، وعشقه للدعوة، وبقوة كلماته في رجال الأعمال وطلاب العلم الذين كانوا ينصتون إلى خطبه ودروسه ومواعظه.
ثانيًا: تجربة الأستاذ فتح الله كولن في ضوء تجارب التجديد والإصلاح
دراسة تجربة الخدمة، تجعلنا نوقن أننا قادرون على تجاوز سلبيات الماضي والنظر إلى المستقبل نظرة مغايرة، بأن نحمل القرآن، كرسالة خالدة موضوعها هداية الإنسان كل الإنسان في الأرض مطلق الأرض.
تتبَّعْتُ بعض المدارس التجديدية ودرسْتُ تجربة الأستاذ كولن في ضوئها، وكان من أهم هذه المدارس:
1- مدرسة الإمام أبي حامد الغزالي في إحياء الدين في نفوس الناس.
2- مدرسة الإمام عبد القادر الجيلاني في إخراج جيل جديد من المربين والعلماء.
3- مدرسة مولانا جلال الدين الرومي مدرسة الحب والتسامح واحتضان البشرية.
4- مدرسة الإمام محمد عبده مدرسة إصلاح التعليم.
5- مدرسة الأستاذ بديع الزمان النورسي مدرسة إنقاذ الإيمان وخدمة الإنسان.
إن هذه المدارس الإحيائية قدَّمت نماذج لنهضة المجتمع والأمة من خلال العمل الدعوي والفكري والروحي، وهو ذاته المجال الذي نبحث فيه وعنه، وقد خرجتُ من هذه الدراسة لتجربة الأستاذ كولن في ضوء هذه التجارب بما يلي:
أ- أن تجربة الأستاذ كولن امتداد لهذه المدارس الرائدة، فهي تجربةٌ حديثةٌ بالمعنى الزمني، لكنها متجذَّرةٌ في أعماق الأمة على الحقيقة، مع مراعاتها لطبيعة الزمان والمكان.
ب- تشترك هذه المدارس في أنها تبنَّت منهج الإصلاح التدريجي الذي يبدأ من المجتمع ويعتمد على تغيير النفوس.
جـ- تشترك هذه المدارس في كونها تجارب بدأت فردية بشخصٍ ذي همَّةٍ عالية، ثم تحولت إلى مدارس إحيائية.
ء- أن هذه المدارس اتَّفقتْ أو كادتْ تتَّفقُ على أن محور نشاطها الأساسي هو التربية والتعليم.
ه- الأثر الكبير للتصوف في صياغة حياتهم الشخصية، ومن ثّمَّ في آثارهم الفكرية وفي مناهجهم في الإصلاح والتجديد.
إن تجربة الأستاذ كولن –إذًا– تجربةٌ لا نستطيع فهمها –حقًّا– إلا في سياقها التاريخي والحضاري، في ضوء حركات الإحياء والتجديد الإسلامي.
المحور الثاني: الأفكار المُلهِمة
فيما يأتي نموذج لتلك الأفكار الراشدة التي كانت ملهمة لتلاميذ الأستاذ الذين حملوا هذه الأفكار وطاروا بها في كل مكان، ينشرون ضياءها ويطبقون معانيها
1- الانطلاق من العمق الداخلي للإنسان إلى نهضة المجتمع والأمة: لم ينشغل الأستاذ كولن بأمرٍ من الأمور بقدر انشغاله بـ”الإنسان” من حيث كونه إنسانًا: وفي التجربة الدعوية للأستاذ فتح الله كولن، يحتلُّ بناء الإنسان قمة الأولويات، فهو يشير إلى أن: “المخاطَب في الإسلام هو قلب الإنسان الذي يسع ويستوعب السماوات والأرض بسعته المعنوية، وهدف الإسلام هو سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية.”(3).
تجربة الأستاذ كولن تجربةٌ لا نستطيع فهمها حقًّا إلا في سياقها التاريخي والحضاري، في ضوء حركات الإحياء والتجديد الإسلامي.
إنه لا يمكن قياس حضارة أي مجتمع بما يمتلك من أعراض الحياة وثرواتها، وإنما بمستوى ما تحتويه من إنسانية وأخلاق، وهذا –عند الأستاذ– هو مفهوم “وراثة الأرض” وهو المفهوم المستوحى من قول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ((الأنبياء:105) وهو المفهوم الأقرب لإعادة صياغة الإنسان من جديد لبناء حضارة راشدة تقوم بهذا الإنسان ومن أجله.
وهو إذ يسعى جاهدًا لإعداد هذه الجيل، يرسم ملامحه بريشة فنان مبدع، وينحتها نحت خبير مدقِّق، فهذا الإنسان هو صاحب الإيمان الكامل الذي يستطيع تحدِّي كل القوى الدنيوية، وهو صاحب العشق والرغبة التي لا تقاوَم في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وهو ما يعتبره الأستاذ كولن أهم إكسير للحياة في الانبعاث من جديد، وهو إنسانٌ حر في تفكيره ومُوقِّرٌ لحرية التفكير حيث إن التحرُّرَ وتذوُّق حس الحرية عمقٌ مهم لإرادة الإنسان وباب سحري ينفتح على أسرار الذات”.
2- الفكر والحركية في آنٍ واحد: يُلخِّص الأستاذ فتح الله كولن خط كفاح “ورثـة الأرض” بكلمتي (الحركية والفكر)، حركيةٌ وفكرٌ قادران على تغيير الذات والآخرين. بل إنه لا يكتفي بمجرد أن يتزاوج الفكر مع الحركة فينصهرا في بوتقةٍ واحدة، بل أن يكون الفكر والحركة في حالةِ استمرارٍ دائمين، فيدعو إلى الحركية المستمرة والفكر المستمر، ومن ثَمَّ يُعرِّف الفكر لا باعتباره مصطلحًا مجردًّا، ولكن باعتباره حركة نابضة بالحياه، فيقول: “إن الفكر عملٌ حركيٌّ داخلي، فالفكر المنظم والهادف هو التساؤل من الكائنات بذاتها عن المجاهيل التي تجابهُنا في وتيرة الوجود، والاسـتماع إلى جوابها عنها، أو بتعبير آخر، فعالية الشعور الباحث عن الحقيقة في لسان كل شيء وفي كل مكان، بتأسيس قرابة بين ذاته والوجود كله.”(4).
إن الأستاذ فتح الله كولن هنا يجعل الفكر والحركة كجناحي طائرٍ، لا يمكنه التحليق إلى الآفاق بدونهما معا، ومهما كانت قوة أحدهما فإنه وحده لا يستطيع مهما حاول أن يطير.
3- الهدف الأسمى إحياء الأمة “الانبعاث من جديد”: إن الغرض من هذا البحث في الأساس هو محاولة عرض نموذج نهضوي ينطلق من منظور دعوي إسلامي. من السهل أن يكتب المفكرون والعلماء عن الإسلام كبديل، وأن يطرحوا رؤية شاملة لهذا، لكن التحدِّي سيكون حتمًا عند “التطبيق”، ومحاولة تقديم النموذج، ومن خلال قراءة ما سطَّره الأستاذ فتح الله كولن نجده يرسم معالم هذا النموذج المنشود:
- النموذج له هدفٌ محوري شديد الوضوح وهو عنده إنشاء أمة عظيمة.
- النموذج لا يَعيبُه أن يكون في “دائرة صغيرة” ما دام يسير نحو الهدف.
- النموذج يقدم حالة نجاح ولو بقدر معين، وتوضيحًا للفكرة ذاتها يذكر الأستاذ أن هناك ثلاثة مراحل تقطعها الأممُ الناهضة في مسيرتها الحضارية، وهي:
- تعيين هدف سام يوقره الوجدان، وهو هنا هدف إحياء الأمة.
- تفعيل منظومة سليمة حسب معطيات الظروف والبيئة العامة المؤسسية.
- توجيه مختلف دورات الطاقات إلى نقطة واحدة معينة، ويعني تسخير التراكم العلمي والتجريـبي والطاقة الكامنة لهذا الهدف السامي وتلك الغاية المنشودة.
وحين يتضح عند الداعية أو رجل الخدمة الإيمانية هذا الهدف السَّامي، ومراحله وطبيعته، فإن نار الشوق تمُور في وجدانه، منطلقًا إلى غايته لا يلوِي على شيء، “تجده وقد شرع أجنحته وحلَّق مثل الطائر حينًا، وحطَّ على الأرض وسار ماشيًا حينًا آخر؛ فهو ميمِّمُ وجهه نحوه يهرول إليه دون توقف، وقد احتضن كل شيء بمحبة غامرة، في كل منزل يحطُّ رحاله فيه، يشعر بظلالٍ جديدةٍ للوصال تظلله فيعيش بهجة “ليلة عُرْس (5) سعيدة، وفي كل منحنى يطفئ نار شوق، ويلتهب في الوقت نفسه بنار شوقٍ أخرى، فيبدأ بالاحتراق من جديد، ومن يدري كم من مرة في اليوم يجد نفسه مغمورًا بنسمات الأنس”(6).
إن الخطوة الأولى نحو تأسيس التجربة يكمن وراء تأثير الأستاذ كولن، بشخصيته المؤثرة، وعشقه للدعوة، وبقوة كلماته في رجال الأعمال وطلاب العلم الذين كانوا ينصتون إلى خطبه ودروسه ومواعظه.
4- التبليغ وظيفة الأمة: التبليغ عند الأستاذ كولن هو الوظيفة المقدَّسة التي لا حياة للأمة ولا نهضة بدونها، فـ “هذا الواجب المقدَّس السَّامي إن لم ينفَّذ في حياة الفرد، فإن انتظار نشوء مجتمع فاضل لا يعني غير الخيال، وذلك للعلاقة الوطيدة بين الفرد واﻟﻤﺠتمع، وبخلافه سيبدأ التقهقر تدريجيًا حتى ينتهي بانتهاء ذلك اﻟﻤﺠتمع، وللحيلولة دون بلوغ هذه النتيجة لابد من إذكاء القوة المعنوية وجعلها في حيوية مستمرة، وهذا يحصل أيضًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى أن هذه الوظيفة المقدسة حياٌة للفرد وللمجتمع على السواء”(7).
5– عمق التمثيل لقيم الوحي الإلهي: إن أي مشروع نهضوي يحاول أن ينهض بالأمة متجاوزًا القرآن الكريم هو مشروع مكتوب عليه الإخفاق سلفًا، والأستاذ فتح الله كولن عندما يستحضر القرآن باعتباره مُلهِمًا لنهضة أمتنا، فإنما يستحضره باعتباره وحيًا نابضًا بالحياة كأنما يتنزَّل باستمرار إلى أن تقوم الساعة، وهذا هو ما يقصده الأستاذ فتح الله بأن: “الكتاب المعبَّر عنه بالكلمة المقدسة: “القرآن”، هو المجلِّي للبصيرة والمعمِّق للشعور والموسِّع للفكر. وهو المصدر الثرُّ بشكل يأخذ بالألباب، والكافي بمرونته لكل عصر بما فيه من مختلف أنواع البيان؛ من محكمه ومتشابهه ونصه وظاهره ومجمله ومفصله، وأيضًا بإيمائه وإشارته وتشبيهه وتمثيله واستعارته ومجازه وكنايته وغيرِ ذلك… لكن الاستفادة من عظيم خيره منوطة بمقدار ما تتسع له العقول المنصفة.”(8).
وهناك رؤية مركزية في مشروع فتح الله كولن الإصلاحي، هي طرد اليأس واستحضار الأمل في المستقبل، وشرط ذلك أن تتمثل الأجيال الحالية القرآن كما تمثله المسلمون الأوائل.
إن دراسة تجربة الأستاذ كولن، تجعلنا نوقن أن لدينا نحن –المسلمين– قدرة هائلة على تجاوز سلبيات الماضي والنظر إلى المستقبل نظرة مغايرة، بأن نحمل القرآن، ليس ككتابِ محليٍّ لعقيدة محلية وإنما كرسالة خالدة موضوعها هداية الإنسان كل الإنسان في الأرض مطلق الأرض.
فـ: “الخدمة نهجٌ يفسِّر القرآن ميدانيًّا من خلال إحلال الدلالة محلاًّ إنجازيًّا، فالأستاذ يحدوهم إلى أن يكونوا قرآنيين قولاً وفعلاً، فإذا تحدثوا عن التقوى كانوا تُقاة بالقوة والفعل، وإذا تحدَّّثوا عن الفَلَاح كانوا مفلحين بالقلب والقالب، وإذا تحدثوا عن الموت كانوا أمواتًا بالاحتساب والامَّحاء والرقابة ونكران الذات وهم أحياء.”(9).
5- احتضان البشرية والحب غير المشروط: العشق وفق “الرومي” و”كولن” هو احتضان الإنسانية، وحب الناس كل الناس من زاوية أنهم “خلق الله”. إن هذا الحنوَّ على البشر والنظر إليهم بعين الإشفاق وتفهم ألوان ضعفهم هو عِرفانٌ من نوع خاص، لا يصل إليه إلا أصحاب القابليات العالية والنفوس الكبيرة، وهذا التلاحم بين حبِّ الله U وحب خلقه يثمر الحركة نحو خدمة الخلق ابتغاء مرضاة الله U. ويمكن أن نعتبر أن الأستاذ كولن هو صدى صوت الرومي في هذا الزمان، لكن الأستاذ كولن تشرَّّب العشق من بحر الرومي ثم نزل به إلى ساحة الحركة.
6- خدمة الخلق: الجهاد على طريقة كولن: الأستاذ فتح الله كولن اختار “الطريقة” التي يمارس بها “الجهاد”، وليس هذا ابتداعًا من عنده، وإنما هو فهمٌ وإدراكٌ لحاجات العصر ومتطلَّباته وآليات العمل فيه وَفْق الظروف التي يعيشها والدور الدعوي والنهضوي الذي اختاره لنفسه.
الجهاد بمعناه الواسع الشامل يُعَدُّ ركيزةً أساسية تنطلق من خلالها تجربةُ الأستاذ كولن نحو بناء مجتمعٍ سديدٍ وأمةٍ راشدةٍ، فمن خلاله يوجِّه الطاقات إلى الإبداع الحضاري، وإقامة المشاريع التربوية، وسدِّ الثغرات في كل مجال، فهو يؤكد أن “الجهاد” واجب كل مؤمن، وأنه لا عذر لأحدٍ في تركه.
وهو يعتبر العمل الدعوي في خدمة الخلق جهادًا حقيقيًّا بل إنه ليعتبر أن التخلِّي عن ميدان العمل الدعوي في خدمة الناس، وترك الساحات الثقافية والتعليمية والتربوية من معاني “التولِّي يوم الزحف”، يقول: “إن استعمال تعبير “التولي يوم الزحف” يعني أن الكفاح إن كان مستمرًا مع عالم الكفر، فلا يجوز النكوص، حتى وإن لم يكن كفاحًا وصراعًا حارًّا، أي حتى لو كان حربًا باردة ساحتها الثقافة والتربية والتعليم والسياسة والفن… الخ من الساحات المختلفة والمهمة التي يجري الصراع فيها في أيامنا الحالية مثلاً، فإن المؤمن المنسحب والمتقوقع على نفسه -حتى ولو كان بنية زيادة كماله الروحي- سينطبق عليه هذا المعنى، ويكون آثمًا.”(10).
التجربة الدعوية للأستاذ كولن بنائية شمولية حضارية متكاملة، قابلة للتعميم والاستفادة منها في المجتمعات العربية والإسلامية، فهي تجربة إسلامية في منطلقاتها، إنسانية وعالمية في أهدافها ومراميها.
المحور الثالث: الحركة الراشدة
تجربة فتح الله كولن بين النظرية والتطبيق
حركة الخدمة، ما هي؟
من الجدير بالذكر أن “الخدمة” في الأساس إطارٌ نظري، لكنه تحوَّل بفعل ما نُفِث فيه من طاقة روحية وحركية وفكرية وثقافية إلى واقع حركي متميز؛ فـ”الخدمة” فكرة تحولت إلى مشروع انبعاث حضاري هدفه أن يحرك الأمة وينهض بها.
وقد اختصر كولن هذه القيم الإنسانية السامية المشتركة فيما يأتي:
- الحريات، وحقوق الإنسان، واحترام المعتقدات، والانفتاح على الحوار.
- تنزيه الدين عن الأغراض السياسية الحزبية الضيقة، واحترام القانون، ورفض استغلال إمكانيات الدولة استغلالاً سيئًا، وضرورة المحافظة على المسار الديمقراطي.
- الثقة بالمجتمع المدني، وتوظيف التعليم لإحلال ثقافة السلام في المجتمعات.
- ابتغاء مرضاة الله في كل قول وفعل، ومحبة الخلق من أجل الخالق.
- الوحدة الروحية والوعي الجماعي، بحيث لا يمكن لأي جهة خارجية التلاعب بهم بهدف خرق القيم الآنفة الذكر.(11).
- من السمات العملية لحركة الخدمة
1- التشارُك والمؤسَّسِيَّة: ونعني بها ترجمة الأفكار إلى مشاريع، وتجسيد الإيمان بها في مؤسسات. ولا شك أن هذه سمة من أبرز سمات “الخدمة”، لكنها سِمَةٌ مبنية على أسس فكرية وروحية في الأساس، أصَّل لها هذا العبقريّ الفذُّ متخذًا من القرآن الكريم حاديَه وهاديَه، ومن الرسول الأعظمe قائدَه ومرشدَه.
وفي مقال “التشاركية في الأعمال الأخروية”، يذكر الأستاذ أن لهذه التشارُكيَّة البنَّاءة شروطًا لابد منها كي تُثمِر الثمرة المرجوَّة، وتُعطي النتائج المأمولة:
- التشاركيّة المبنية على سرّ الإخلاص
- التساند المبنيّ على سرّ الأخوّة
- توزيعُ المساعي المبنيُّ على سرّ الاتحاد
وهذه العناصر الثلاث هي من السمات المرئية في حركة الخدمة على الرغم من كونها أمورًا معنوية في الأساس، لكنك تشعر بها حين تخالطهم، أو تزور مؤسساتهم أو تشاركهم أعمالهم.
والأعمال المؤسسية تحتاج إلى “الشورى”، والشورى مبدأ إسلامي سواء في الأعمال المؤسسية أو في الشئون الفردية، ولذا فإن الشورى كآلية لاعتماد العمل المؤسسي في تجربة كولن تُعَدُّ وصفًا حيويًّا وقاعدةً أساسيةً لا يمكن الاستغناء عنها.
2- الهجرة من أجل الخدمة: يأخذ مفهوم “الهجرة” شكلاً عمليًّا ذا بُعدٍ عقائدي عند “مشروع الخدمة”، بل يمكن القول إن هذه السمة العملية والتي تعني التغرُّب لخدمة الناس في بلدانٍ أخرى هي السمة الأبرز من الناحية المرئية في حركة الخدمة.
ويحتل مفهوم “الهجرة” مكانًا بارزًا في خطاب كولن لأبناء الخدمة ومحبِّيها فيتناوله من زاوية أن الهجرة من أجل الخدمة “رحلةٌ مقدَّسة”، يقول موضحًا مدى أهمية الهجرة لرجل الدعوة: “الهجرة أساسٌ مهم في كل دعوة كبيرة، ولا بد من تثبيت النقطة الآتية: لا يوجد رجل دعوة كبرى، ولا رجل فكر كبير ولا رجل تحمل عبء وظيفة عظيمة لم يهاجر، لقد ترك كلُّ رجلِ دعوةٍ البلدَ الذي وُلد فيه وذهب من أجل دعوته إلى بلدٍ آخر.”(12).</p
صحيحٌ أن الهجرة إلى المدينة المنورة بمعنى الفرار بالدين انتهت لكنه يدعوهم لأن تصير كلُّ مدينةٍ يهاجرون إليها “منورةً” بتعاليم الإسلام، يقول: “صحيح أنه لاتوجد الآن “مدينة منورة”، يهاجَر إليها، ولكن ستكون هناك مدنٌ تحاول تقليد مثال “المدينة”، وبتعبيرٍ آخر لكي نستطيع المثول بين يدي صاحب المدينة e علينا أن نُنشِئ مُدُنًا عدة”(13).
تجربة الأستاذ فتح الله كولن تجربة دعوية خالصة سواء في المنطلقات والغايات، أو في الوسائل والأساليب، فهي ليست تنظيمًا مغلقًا، أو حزبًا سياسيًّا، ولا حتى حركة ذات إطار محدد، أو شروط عضوية مثلاً.
ألقِ نظرة على خريطة العالم، ضع إصبعك على أي مكان في هذه الخريطة، وتساءل: هل للخدمة هنا أثر؟ سيكون الجواب قطعًا: نعم، قد مرُّوا من هنا. إذا كان لي أن أختار سمة تميّز الخدمة عن غيرها من مشاريع الصحوة والنهوض فهي الهجرة، وإذا كان من حقي أن أقيِّم فكر الأستاذ ومشروعه الحضاري بالمقارنة بغيره من المشاريع الحضارية والأفكار التجديدية –وما أظنني أصلح لهذا-، فلن أجد أعظم أثرًا وأبقى نفعًا من إحيائه مفهوم الهجرة على هذا النحو. الهجرة عند الخدمة ليست رحلة عابرة أو سياحة ترفيهية، إنها هجرة بمعنى اللاعودة، هجرة نفسية وبدنية وروحية.
رأيتُهم في نيجيريا قد حطُّوا رحالهم من زمن، تسأل أحدهم أما تحنُّ إلى بلدك، فيقول: هذه بلدي وهؤلاء هم أهلي! أطباء ومدرسون وإداريون، رجال ونساء، وهبوا أنفسهم للخدمة، ونذروها لله U، يقيمون صروح العلم، يشيِّدون المدارس، ويبنون صروح الحوار بين مختلف الثقافات، يواجهون بِصَمْت محاولات الإفساد المستمرة في إفريقيا السوداء وغيرها من الدول الفقيرة، ليس بالخُطب الرنانة، ولا بالهجوم اللاذع، بل بالعمل الدؤوب دون كلل أو ملل.
3- التفاني في الخدمة ونكران الذات: هذا العنوان “الخدمة” بقدر ما فيه من معاني التواضع، فإنَّه يدلُّ على الجدِّية الكاملة، فالسنبلة الممتلئة لا تشمخ بأنفها إلى السماء وإنما تنحني تواضعًا بعكس السنبلة الفارغة، والإناء الفارغ أعلى صوتًا من الإناء الممتلئ. والأستاذ فتح الله كولن يُرشد ويوجه إلى الجمع الدائم بين روح التفاني مع عدم رؤية العمل، فـ:” حديث النفس مثل: أنا فعلتُ كذا، وقمتُ بكذا، ليُقَوِّض ركنًا من القواعد التي نرفعها من أجل غايةٍ عظمى في المستقبل وقد يحملنا على الأنانية والغرور، أجل، لأن نكون أفرادًا عاديين في هذا الأمر لهو أثمنُ شيء عندنا، فخيرٌ لك وأقوم أن تكون جنديًا بسيطًا بباب الله دائمًا.”(14).
ومع هذه الدعوة إلى “الفناء” في الخدمة، فهو لا يفتأ يدعو إلى التفاني في العمل والأداء، والاستمرار في العمل للدخول من عملٍ دعويّ إلى عملٍ دعويّ آخر، فلا مجال للركون إلى الراحة، وفي درسٍ له يقول: “لا تأتوني بشخصٍ فعل هذا الأمر العظيم، وأسَّس هذا الصرح العظيم، بل ائتوني بهذا البطل الذي رغم أنه أسَّس “مائة” مدرسة، لكنه لا يتذكَّر ما فعل، ومتى فعل. ائتوني بذلك الأسد الذي رغم أنه أخذ بيد الكثيرين ممن ضلُّوا طريقهم، فساقهم إلى طريق الإنسانية الحقَّة، وارتقى بهم إلى القيم الإنسانية الكبرى، لكنك إن سألته عن هذا قال: لا أعرف، لا أتذكَّر! ائتوني بمن إذا فتح “إسطنبول” قال: لا أدري كيف حدث هذا؟ ليس لي من الأمر شيء، لا تأتوني بالمُعجَب بعمله الذي إذا عمل عملاً وَزْنُه مثقال ذرة، يصوِّره كالجبل.”(15).
تلك سمةٌ لستَ في حاجة إلى بذل المزيد من الجهد لتشعر بها، بل تراها رأي العين وأنت تتعامل مع أبناء الخدمة، لذا، فإن أحد أهم السمات العملية لحركة الخدمة، والتي تعتبر أهم أسباب نجاح مؤسسات هذه الحركة هو الالتزام الناشئ عن التفاني في العمل ونكران الذات. “إن سببًا رئيسيًّا لنجاح مؤسسات الخدمة هو التزام وتفاني الأفراد الذين يديرونها، سواء كانوا أطباء أو إداريين للمستشفيات أو مديري مدارس أو معلمين أو موظفي وكالة الإغاثة. فقد علَّقوا جميعًا بأنهم لا يعملون من أجل المال فحسب، بل لأنهم يؤمنون بما يفعلون، ونتيجة لذلك تمتدُّ ساعات العمل، مع ندرة الشكوى والتذمر من الوظيفة في كل المؤسسات، بل يشعر الأفراد بأنهم جزءٌ من أنشطة تستحق الجهد، وممتنُّون لأنهم يخدمون إخوانهم”(16).
4- عدم التحزُّب السياسي: في قراءتي لفكر الأستاذ كولن، لم ألاحظ أن هناك عداءً ما بينه وبين السياسة كمنهج، أو بين السياسيين كأفراد أو حكَّام؛ فهو لم يلعن السياسة كالإمام محمد عبده، ولم يستعذ بالله منها كالإمام النورسي، ولكنه تعامل معها من منطق أن: “السياسة هي فن الإدارة التي تجلب رضا الله U ورضا الناس، وبنسبة قيام الحكومات -بما تملك من قوة وقدرة- بالمحافظة على شعبها من الشرور والمفاسد، وصيانته من الظلم تكون نسبة نجاحها وتوفيقها.”(17).
حركة “الخدمة” حركة تجديدية، والأستاذ كولن من المجددين الكبار في أمتنا، وهذا لا يخفى على القارئ للأستاذ والمتابع للحركة، ويمكننا أن نرى ملامح هذا التجديد في الفكر والحركة على السواء.
والأستاذ كولن باعتباره صاحب مشروع حضاري لنهضة المجتمع والأمة، لا يرى لزامًا عليه أن يدعو لتكوين “دولة إسلامية” تتبنى هذا المشروع النهضوي، فالرجل معنيّ بالمجتمع لا بالدولة، وبالأمة لا بالسياسة، وهو يحدِّد رسالته بأنها: تجديدٌ مستمَدٌّ من جذورنا التاريخية، وتربيةٌ لأبطالٍ جدُدٍ يستلهمون جذور المعاني ويرتبطون بها، وليست هناك حاجة إلى حكم إسلاميّ أو حزبٍ لتحقيق ذلك.
صحيحٌ أن حركة “الخدمة” ليست لها أهداف سياسية، كما أنه مما لا شك فيه أن هدفهم السامي هو إحياء الأمة ونهضتها، إلا أن هذه الأهداف لابد وأن تتلامس مع السياسة من قريبٍ أو بعيد، سواء في ذلك سياسة الدول المحلية، أو السياسة العالمية.
إنَّ خُطَب الأستاذ كولن وكتاباته حربٌ فكرية ضد أي ألاعيب سياسية للاستيلاء على المال العام وتزييف الوعي العام واستعباد الجماهير تحت أي لافته. يقول كولن: “الخدمة ليس لديها هدف سياسي بمعنى تأسيس حزب، بيد أن القيم والمبادئ التي تعمل الخدمة من أجلها والتي تشكل الديناميكية الأساسية لـ”الخدمة”، لا بد أنها تتلامس مع السياسة”(18).
الختام
لقد حاولتُ في السطور الماضية أن أُجمِل ما فصَّلتُه في الدراسة التي تحمل عنوان هذا المقال، محاولاً الإيجاز قدر الاستطاعة، وأود أن أختم الحديث بأهم ما خرجتُ به من خلال هذه الدراسة، ويتمثل ذلك فيما يأتي:
1- الأستاذ فتح الله كولن داعيةٌ ذو تجربةٍ فريدة، وصاحب مدرسة فكرية حضارية جديرة بالبحث والتأمُّل وإمعان النظر في معطياتها وكيفية الاستفادة منها، فشخصيته متعدِّدة المعارف والمواهب، اجتمعت فيه صفات الداعية المربى القدوة، والمفكر الذى يعي مشكلات عصره وقضاياه، فضلاً عما يمتاز به من عاطفة جياشة، وزهد وتعفُّف عما في أيدى الناس، بالإضافة إلى مقدرته الخطابية، وروحه الشاعرة، وأسلوبه الأدبي الراقي، وشخصيته الفذَّة التي تجمع ولا تفرِّق، وتبنى ولا تهدم، هذا إلى جانب فكره المتدفِّق، وقلمه السيِّال، وحركته الدؤوبة، فهو بهذا يُعَّدُّ شخصية دعوية جديرة بالبحث والدراسة، ليستفيد منها عموم الدعاة إلى الله، سواء في تكوينهم الفكري والروحي، أم في حركتهم بين الناس.
2- تعتبر التجربة الدعوية للأستاذ كولن تجربة بنائية شمولية حضارية متكاملة، قابلة للتعميم والاستفادة منها في المجتمعات العربية والإسلامية، فهي تجربة إسلامية في منطلقاتها، إنسانية وعالمية في أهدافها ومراميها، فهي تتبنى فقه الائتلاف حول المقاصد العليا للإسلام، دون الدخول في خلافاتٍ فقهية أو اختلافات فكرية، ومن ثَمَّ استطاعت عرض الإسلام على شعوب الغرب في صورته الحضارية بعيدًا عن الصورة التقليدية التي يُروَّج لها عن الإسلام من خلال بعض وسائل الإعلام العالمية، التي دائما ما تربط بين الإسلام والإرهاب، وتجمع بينهما في بوتقة واحدة.
3- تجربة الأستاذ فتح الله كولن تجربة دعوية خالصة سواء في المنطلقات والغايات، أو في الوسائل والأساليب، فهي ليست تنظيمًا مغلقًا، أو حزبًا سياسيًّا، ولا حتى حركة ذات إطار محدد، أو شروط عضوية مثلاً، وإنما هي طريقُ عمومي ليس ملكًا لأحد أو حكرًا على فئة أو طائفة، وطريقةٌ في العمل الدعوى أبوابها مُشرَعة للناظرين مفتوحةُ للدارسين، فكانت من هنا تجربة جديرة بالدراسة والعرض، لتكون بين يدى الدعاة نموذجًا عمليًّا يأخذ كلٌّ منه ما يناسبه ويطرح ما لا حاجة له إليه، ذلك أنها –بحق- استطاعت الجمع بين الفكر والحركة، والنظرية والتطبيق، والعقل والعاطفة، والتربية والسلوك، في توازنٍ فكرى وحركية مبدعة، دون تقييد لحرية العاملين أو حجرٍ على إبداعهم. وأمتنا –اليوم– في أمسِّ الحاجة إلى الجمع بين الفكر والحركة، وتحويل النظريات إلى نماذج حيِّة واقعية، والسير على دربٍ يزاوج بين العقل والعاطفة، والتربية والسلوك.
4- من خلال الدراسة النظرية والمعايشة الميدانية وإن كانت محدودة فإنني أستطيع القول –كباحث– أن حركة “الخدمة” حركة تجديدية، وأن الأستاذ كولن من المجددين الكبار في أمتنا، وهذا لا يخفى –في الحقيقة– على القارئ للأستاذ والمتابع للحركة، ويمكننا أن نرى ملامح هذا التجديد في الفكر والحركة على السواء، فمن ملامح هذا التجديد:
منح الأستاذ كولن لمفهوم الهجرة بعدًا رائعًا عبقريًّا بكل المقاييس، فالهجرة عنده منوطةٌ بمهمة النبوة لا بشخص النبي e، فما دامت أسباب الهجرة باقية فإن الحكم باقٍ إلى يوم الدين.
أ- أن الرسالة التي تقدمها الحركة تلبِّى الاحتياج الذى تنشده الأمة بل الإنسانية في مجموعها، ومن معانى التجديد أن يتوافق الفكر وتتلاءم الحركة مع حاجة الأمة أو “واجب الوقت”، والأمة اليوم أشد ما تكون احتياجًا إلى “إنسانٍ جديد” و”جيل ذهبي” و”رجال فكر وحركة” و”وارثين حقيقين للأرض”، وهذا عينه ما تقدمه لنا الحركة في نموذجها العملي وما يطرحه الأستاذ كولن في نموذجه الفكري. فتجربة الأستاذ ليست معنيَّة بشيء من الأساس غير هذا، هذه رسالتها الأولى، فهي تقدم صورة نموذجٍ إنسان راقٍ في تمثله للقيم الإنسانية والإيمانية على حدٍّ سواء، نموذجٍ رغم أنه يدور في فلك الإسلام فهو لا يتصادم مع عالمه المحيط، نموذجٍ يجيد قراءة عصره ويتوافق مع القواعد التشريعية والأوامر التكوينية. وتقدم التجربة فى الوقت ذاته نموذجًا للحركة التي أُسِّستْ على الإرشاد والتبليغ، هدفها مرضاة الله U ووسيلتها في ذلك خدمة الإنسانية، ونموذجها الأعلى عصر الصحابة الكرام .
ب- بعث الحياة من جديد في مفاهيمَ أصابها الجمودُ والتقليدُ ووقفت عند فهم واحدٍ لا تفارقه، فجاء الأستاذ ونفض عنها الغبار، وأحياها من جديد في ثوب قشيب، فجمع بذلك بين فضيلتين: أنه لم يأتِ الناس بشيء لم يعرفوه من قبل بل هو عندهم محبوب ومرغوب، وفى الوقت ذاته أضاف لهذا المفهوم معنى جديدًا نحن في أمس الحاجة إليه، وإنْ شئت قل: أعاد إليه رونقه الأول وبهاءه القديم، وهذا –في الأصل– هو معنى التجديد.
فمن ذلك مفهوم “الهجرة”؛ لقد منح الأستاذ لمفهوم الهجرة بعدًا رائعًا عبقريًّا بكل المقاييس، فالهجرة عنده منوطةٌ بمهمة النبوة لا بشخص النبيe ، فما دامت أسباب الهجرة باقية فإن الحكم باقٍ إلى يوم الدين، فحرَّر مفهوم الهجرة من إطاره التاريخي ومنحه بعدًا عقائديًّا عمليًّا يرتبط بالواقع أيَّما ارتباط، ولستَ في حاجة أن أذكر لك كيف كان لإحياء هذا المفهوم أثره الكبير في انتشار الخدمة وقوة تأثيرها.
ومن ذلك أيضًا مفهوم “الوقف”؛ فقد أحيا الأستاذ مفهوم الوقف الإسلامي ابتداءً، وذلك بعد اندثاره تقريبًا، ولعله استفاد من الواقع التركي في هذا المجال استفادة كبيرة. والوقف في الإسلام يعظِّم دور “الأمة” في مواجهة “الدولة” التي أصبحت تتحكم في دورة المال فتتحكم بالتالي في حرية الإنسان ومن ثَمَّ في إنسانيته، ثم إنه مَنَحَ مفهوم “الوقف” بُعدًا عالميًّا وإنسانيًّا –من ناحية الغاية– ومَنَحَه بعدًا ديناميكيًّا واقعيًّا –من الناحية العملية– ولك أن تتخيل كيف نمت هذه الفكرة لتصبح مؤسسات ومشاريع عملاقة وهيئات إغاثية ومنابر فكرية وكيانات اقتصادية.
كذلك هو الأمر في مفاهيم مثل “الإنفاق والبذل” الذي تحول من كونه أداة لتفريغ الطاقة الإيمانية لدى المحسِن أو المتبرِّع بإعطاء ماله للفقير والمحتاج إبراءً للذمة إلى وسيلة لإعلاء صرح الإيمان وإنشاء أجيال ترفع رايته، وتضمن استمرارية العمل الخيري الذي يمنع الفقر من منبعه. وكذلك مفهوم الحوار الذي أضاف له الأستاذ بعدًا عالميًّا وكونيًا ينطلق من جوهر رسالة الإسلام الذي هو “رحمةٌ للعالمين”.
هذا بعض ما وصلتُ إليه مما اطَّلعتُ عليه، وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين، وأحمد الله U أن وفقني إلى التعرف على هذه التجربة والاقتراب من نموذجها العملي، سائلا المولى U أن يرزقني على هذا العلم عملاً يؤازره وأن يجعلني أهلاً للخدمة وأن يسير بي في طريق السالكين.
الهوامش
(1) سعيد النورسي، مقدمة ذيل الحبة ” المثنوي النوري العربي”، ص241، دار سوزلر للنشر، ط6، 2011م.
(2) م. حاقان يافوز، “نحو تنوير إسلامي، حركة فتح الله كولن” ص 42، منتدى العلاقات الدولية والعربية، ط1، 2015م.
(3)فتح الله كولن، “ونحن نبني حضارتنا”، ص 51، دار النيل للنشر، ط2، 2011م.
(4) فتح الله كولن، “ونحن نقيم صرح الروح” ص 58، دار النيل للنشر، ط4، 2008م.
(5) من تعبيرات جلال الدين الرومي يعبر بها عن فرحة الوصال بالموت ولقاء الله U، مستفاد من قراءتي لسيرته الذاتية.
(6) فتح الله كولن، مقال “سمات المؤمن الحق” حراء العدد 44، المقال الافتتاحي.
(7) فتح الله كولن، “طرق الإرشاد في الفكر والحياة” ص 56، دار النيل للنشر، ط4، 2008م.
(8) فتح الله كولن، “ونحن نبني حضارتنا”، ص 83، دار النيل للنشر، ط2، 2011م.
(9) سليمان عشراتي “العبادة التنفيذية وقرآنية الخدمة” حراء، العدد 42، ص 98.
(10) فتح الله كولن، “أضواء قرآنية في سماء الوجدان”، ص 116، دار النيل للنشر، ط5، 2010م.
(11) فتح الله كولن، “كلمات شاهدة” حوار مع جريدة الشرق الأوسط 24/3/ 2014م، ص 29، دار النيل للنشر، 2015م.
(12) فتح الله كولن، “أسئلة العصر المحيِّرة” ص 288، دار النيل للنشر ط4.
(13) فتح الله كولن، “الاستقامة في العمل والدعوة” ص 271، دار النيل للنشر، ط1.
(14) فتح الله كولن، الموشور، ص32، دار النيل للنشر، 2015م.
(15) موقع مجلة حراء www.hiramagazine.com.
(16) هيلين روز ايبو، “تحليل سوسيولوجى لحركة مدنية متجذرة في الإسلام المعتدل”، ص177، تنوير للنشر، ط1، 2015م.
(17) فتح الله كولن، “الموازين أو أضواء على الطريق” ص 126، دار النيل للنشر، ط3، 2006م.
(18) فتح الله كولن، “كلمات شاهدة” حوار مع جريدة الشرق الأوسط 24/3/ 2014م، ص 29، دار النيل للنشر، 2015م.