لا أحد ينكر أن للعلم والبحث العلمي وتطبيقاتهما منافعُ جمة أفادت البشرية، وعادت عليها بالنفع الكبير، والخير الوفير، تواصلاً بين البشر، وتيسيرًا للمعايش، وتخفيفًا من حدة الأمراض والأوبئة، وتمكينًا من استثمار الموارد الطبيعية.

ولقد أتاحت التقنية الحيوية آمالاً عريضة لمواجهة مشاكل الجوع والفقر، وزيادة إنتاجية المحاصيل، وإنتاج نباتات مقاومة للأمراض، والآفات الحشرية، والتحسين الوراثي للثروة الحيوانية، ومشاكل المرض، مثل إنتاج الهرمونات والمضادات الحيوية، والإنزيمات والنباتات الصيدلانية والعلاج الجيني، لكن الكثير من التساؤلات الأخلاقية تفرض نفسها بقوة حول هذه التقنيات الحيوية، مما دفع المُهتمين لدراسة هذه الأخلاق، وتشريعات الأمان الحيوي وتنظيم نشر الكائنات المحوّرة وراثيًّا.

بيد أن الكثيرين -وبخاصة في العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين- يؤكدون أن لها إخفاقات محلية وعالمية في هذا المجال، حيث تنامت ظواهر سلبية -أو قل إذا شئت لا أخلاقية- شوهت الصورة العامة لها وللمنتسبين إليها. فما زالت الكارثة الإنسانية الأليمة لقنبلتي “هيروشيما وناجازاكي” نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ماثلة للعيان. وما زال مؤلمًا تلك التجارب اللاأخلاقية على البشر دون علمهم، لدراسة أمراض واختبار عقاقير.

كما أنه استجدت مسائل تحتاج لمرجعية أخلاقية لأنها ستؤثر على الإنسانية تأثيرًا كبيرًا، مثل توظيف واستخدامات التقانة (Technology) التي أنتجت القنابل الذرية والهيدروجينية، والحدود الضابطة للهندسة الوراثية، والتقانة الحيوية (Biotechnology) التي انطلقت من عقالها، لتغيير التركيب الوراثي للكائنات الحية والمحاصيل الزراعية، وإنتاج القنابل البيولوجية والاستنساخ البشري، وعواقب استخدامات نتائج الخريطة الوراثية البشرية (الجينوم البشري) والأساس الوارثي للذكاء، ونقل وزراعة الأعضاء البشرية، وضوابط إجراء التجارب على البشر والحيوانات، وقتل الرحمة، وقتل الأجنة المشوهة، واحترار الكرة الأرضية وتلويث البيئة، وخطورة ذلك على كوكبنا المنهك. لذا باتت الحاجة ملحة لمنهج أخلاقي يسترشد به العلم والعلماء، ويُمكِّن من التعامل مع التطورات العلمية والبحثية والتقنية الهائلة، ويمثل سياجًا يحول دون انفلاتها حتى لا يكون العلم “لعنة” على البشرية، بل يظل “نعمة” لا “نقمة”.

تركز الأخاق الحيوية على معرفة العالم الطبيعي، وتبتغي شكلاً جديدًا من الحكمة لضمان بقاء الجنس البشري واستمرار حياته الكريمة وتحسن العالم المتحضر، وسد الفجوة بن العلوم الطبيعية والإنسانيات والعناصر الاجتماعية.

مضمار الأخلاق الحيوية

تركز الأخلاق الحيوية على معرفة العالم الطبيعي، وتبتغي شكلاً جديدًا من الحكمة لضمان بقاء الجنس البشري واستمرار حياته الكريمة وتحسين العالم المتحضر، وسد الفجوة بين العلوم الطبيعية والإنسانيات والعناصر الاجتماعية. ويؤكد “بوتر”: “إذا كان لدينا ثقافتان غير مُتحاورتين (العلم وعلوم الإنسان)، فيجب بناء جسر بينهما للمستقبل عبر الأخلاق الحيوية، فهذان الفرعان ينبغي أن يلتقيا أخلاقيًّا. ولم يعد بالإمكان دراسة الخيارات الطبية دون تبني نظرة بيئية ومجتمعية عالمية. فصحة الإنسان ترتبط إرتباطًا مباشرًا ووثيقًا بسلامة بيئته، كما يجب التغلب على الأزمات البيئية لينجح النظام الاقتصادي العالمي. فلعقود تم التعامل مع البيئة، على أساس المنفعة المادية واستغلال الموارد الطبيعية، دون التزام أخلاقي أو حتى الاعتراف بقيمتها وتوازناتها. فما يعانيه العالم من كوارث، ناجم -بالأساس- من سوء تصرف البشر مع الطبيعة، وغياب قيم الرقابة والمحاسبة والتواضع والتراحم؛ إذ لم يصحب التطور العلمي والتقني زيادة في الوعى الأخلاقي الحيوي والبيئي المناسب لتـرويض أطمـاع البشرية التي أدت لزيادة التصحر، ولارتفاع كبير في نسب التلوث البيئي، واختلال الأمن الغذائي.

الأخلاق الحيوية البيئية، أشمل وأعم من الأخلاق الطبية، حيث تهتم بالأمور على المدى البعيد، وما ينبغى عمله، الحفاظ على مجال حيوي يمكن للبشرية العيش فيه. أما الأخلاقيات الطبية فينحصر اهتمامها على المدى القصير على قضايا، مثل زراعة الأعضاء، وعلم الأجنة والهندسة الوراثية، والاستنساخ البشري، وإطالة أمد الحياة، والقتل الرحيم.. وفي تقنيات الجينوم البشري تتولد إشكاليات أخلاقية: ما مدى تحديد ملكية المعلومات المتولدة من دراسات جينات إنسان ما؟ وهل يملكها صاحبها أم المؤسسة العلمية التي قامت بدراستها، أو الجهة التي موَّلتها، أو الدولة التي سمحت قوانينها بإجرائها؟ ومن يحق له إعطاء الموافقة لإجراء بحث/نتائج معلومات اختبار جينومي؟ ولقد خصص المشروع الأمريكي للمادة الوراثية البشرية نحو 3% من ميزانيته، ليأخذ في اعتباره مثل هذه المسائل الأخلاقية.

ولقد حدد تقرير لمنظمة اليونسكو في 2003، أسبابًا جوهرية تؤكد على أهمية الأخلاق الحيوية، حيث انعدمت الثقة بالبحث العلمي والتقني وحُمِّلتا مسؤولية الفوضى التقنية والاجتماعية والاقتصادية، وصار التمييز بين ما هو صوابٌ وما هو خطأ في البحث العلمي، وكذلك التمييز بين العلم والعلماء والمجتمع وعقد العلاقة بينهما، ومن ثم الدور الذي يمكن أن يقوم به تعليم الأخلاقيات في التنمية المستدامة، أمر صعبٌ للغاية.

مشكلة الحتمية التقنية

ساد اعتقاد أن الابتكار في جوهره مفيد ولا بد من دفع التكنولوجيا لأبعد الحدود، حيث قيل: “اختراعاتنا تغيِّر العالمَ، لكن هذا العالم الذي تَغيَّر، يغيِّرنا”. لذا تأثرت التقنيات في معظم مراحلها بالآراء والتقديرات الشخصية البحتة، وصُفق لها إذا حققت ربحًا ماديًّا على المدى القصير، حتى وإنْ سبَّبت مشكلات خطيرة على المدى البعيد؛ مثل مركّبات “الكلوروفلوروكرب​ون” التي تسهم في تآكل طبقة الأوزون، وكانت تُستخدم في أجهزة التبريد. إن هذا الأمر يشمل عدم استشراف الأبعاد الأخلاقية الشاملة للتطورات التقنية، وتم التركيز على التَوَجُّه التكنوقراطي الذي يراعي فقط تحليل التكلفة والفائدة، والعوامل التي يمكن قياسها كميًّا/تسوقيًّا، أمّا الأمور غير الملموسة كصحة المجتمعات والبيئات، فغالبًا ما يتم تجاهلها.

الأخلاق الحيوية البيئية، أشمل وأعم من الأخلاق الطبية، حيث تهتم بالأمور على المدى البعيد، وما ينبغى عمله، الحفاظ على مجال حيوي يمكن للبشرية العيش فيه. 

ولا يزال الكثير من القضايا الأساسية المتعلقة بالصواب والخطأ قيد نزاع شديد، وتتضمن هذه القضايا أسئلة من قبيل متى بدأت الحياة، ومتى تنتهي؟ وما الذي يشكِّل كرامة الإنسان؟ وكيف يمكن تحديد نطاق مسؤولية الإنسان عن البيئة العالمية والأجيال القادمة؟ وفي بعض الأحيان تسفر المناقشات الأخلاقية المكثفة ليس عن اتفاق في الآراء فقط، وإنما عن عكس ذلك أيضًا. فعلى سبيل المثال، عقب سنوات من دراسة ومناقشة الكارثة الصناعية التي وقعت في “بوبال” في الهند عام 1984، عندما تسربت غازات سامة من مصنع لمبيدات حشرية، والتي أسفرت عن مقتل الآلاف، وما زالت النقاشات تقاوم بشدة أي سرد منطقيِّ لأسباب ونتائج هذا الأمر؛ بسبب نزاعات سياسية وقانونية وقضائية معقدة. وفي أحيان أخرى، يمكن أن تسفر المشاورات عن تَوافق وتباين متعدد التوجُّه، مثل اعتماد سياسات مختلفة متعلقة بأبحاث الخلايا الجذعية الجنينية البشرية، من قِبَل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا.

إن التكنولوجيا تحدِّد الإحساس بما هو ممكن، ويمكن أن تعزِّز القدرات الطبيعية أو تُضعِفها، بل ويمكنها تغيير حجم الدماغ ووظيفته. إن الخيارات التكنولوجية تمثل انعكاسًا لما عليه البشر، ونقطة انطلاق لما سنكون عليه، ويمكن أن تعيد تعريفَ ما يعنيه أن تكون “إنسانًا”. وبناءً على العنصر الأكثر قيمة وأهمية المتمثل في سلطة المعرفة، فإن بعض التقنيات ستخدم مصالح البعض جيدًا، وقد تضر البعض الآخر كثيرًا. ولا شك أن الأخلاق ومجالها الحيوي (المجتمعات) عنصر أساس في هذا المضمار. وحتى إذا كان الخطاب الأخلاقي المثالي بعيد المنال، فلا يزال بالإمكان تحقيق نتائج أفضل مما تم التوصل إليه. وتمتد آثار العديد من وسائل التكنولوجيا -في مجالات مثل إنتاج الطاقة أو علم الروبوتات أو إدارة المعرفة- إلى ما هو أبعد من مشغِّلِيها أو المستفيدين منها، ولذا مِن الضروري إيجاد طريقة لطلب آراء المجموعات المتضررة، وأَخْذها بعين الاعتبار.

إذا كان مصطلح “الأخلاق الحيوية” حديث النشأة نسبيًّا، فإنه في المقابل عريق المفهوم والممارسة. إن الأخلاق تُروض التقنية وتصوغها من جديد، ولقد مضى عصر الثنائية المفتعلة بين العلم والدين وأخلاقه، وبات العلم في عودته للإيمان يستلهم منه الأخلاق لحمايته من الجنوح والانفلات فيصبح علمًا بلا تدمير.

إن حضارة الإسلام وتعاليمها تقوم على شقين لا انفصام بينهما: التقوى والتقانة. لذا فضوابطها الأخلاقية والقيمية قادرة على رأب الصدع في أخلاقيات العلم والبحث العلمي، لتكون على بصيرة وحكمة من أمرها. كما أن النهوض الحضاري الإسلامي وريادته آفاق العلم والبحث العلمي، متزامن مع تفعيل قيم الإسلام ونظرته للحياة والكون والإنسان، وما يتوافق معها في الشرائع الأخرى، كفيل بخلق سياج أخلاقي عام يلف الإنسانية ومجتمعاتها، ويشمل العلماء والباحثين واضعًا لهم الطريق الذي يضبط عملهم، ليبقى العلم وتقنياته نعمة للبشرية ومصدرًا للخير والهناء لا للزبد والفناء.

(*) كاتب وأكاديمي / مصر.