عذرًا سيدة العاشقين فقد استعرت لسانك وتلبست أحوالك، بدقات قلبي على بابكم أدق أوابي الطرق وألج لعلي في ساعة ما ألج، أنحلني السهد ومصّني السهر وعلى عتباتكم أسكب مدامع روحي وأفرش لوعات قلبي، ومن وراء الباب أرسل النظر! وأتصيد لمحة من محياكم تضيء كياني وتحي فؤادي وفي السحر أتنسم ريح الصبا، علها تحمل إليَّ نفسًا من عطر أنفاسكم، ونفحة من نفحات ودكم، ليتعطر بها روحي وتشغف بها نفسي.
نيران صدوركم أحرقت كبدي، ونسيانكم إياي أنساني دنياي، وآخرتي، أرجوكم… إلي التفتوا، وتجاهي انظروا، وعني لا تصدفوا!
عنكم ما سهوت، وإلى غيركم ما نظرت: فعلي تلطفوا، وبي ارفقوا، وإياي عن بابكم لا تطردوا، داووا أسقامي، وعالجوا في حبكم أوجاعي، فأنا الوجعة المحرورة، والعاشقة المكروبة، والواجدة المسلوبة، فيكم تاه عقلي، وضل فكري، وأشكل أمري، ولم أعد أعرف يومي من أمسي، ولا مهدي من رمسي، أناديكم فأصداء ندائي إلي يعود، وأناجيكم فرجع نجواي إلي يؤوب.
نيران صدوركم أحرقت كبدي، ونسيانكم إياي أنساني دنياي، وآخرتي، أرجوكم… إلي التفتوا، وتجاهي انظروا، وعني لا تصدفوا! فإن صدفتم عني فعنكم لا أصدف، وإن عن بابكم طردتموني، زدت عليه طرقًا، ودافعته مدافعة، وجئت بأشواقي تدفع معي، وأتيت بعاصف من آهاتي تفتح الأبواب وبلهب من زفراتي تحرق المغاليق والأقفال.
في كل ليلة، وفي الهزيع الأخير منها، أكنس روحي، وأقمها، وبماء الورد أرشها، وبما بخر القلب أبخرها، لعلكم تقدمون، وهذه المدنفة الوجيعة تقودون، ولكنكم لا تأتون، وإليَّ لا تلتفتون، فأظل سارية في ذلك التيه من مسارب العشق الأبدي، لعلي التقيكم في منحى من مناحيه أو في ثنية من ثناياته.
يا سيدة العاشقين!:
قلب آهات قلبك، وروح زفرات روحك، تتنفسين آلام الجوى، وتتقبليني على نيران الهوى، أضنيت كل صاحب قلب، وأشعلت نيران الأفئدة الخافضات، وصورتك الشبحية الناحلة، ارتسمت على مرايا التقوى الصقيلات الصافيات، فغدوت للسالكين المتعبين بستان مقيل، بتفيأون أشجاره، ويستظلون ظلاله، قبل أن يواصلوا سيرهم، ويسلكوا طرائقهم.
وأتيت بعاصف من آهاتي تفتح الأبواب وبلهب من زفراتي تحرق المغاليق والأقفال.
على لسانك يتكلم العشق، وينطق الهوى، وتقول المحبة كلمتها، إنك استحدثت للعشق لغة، وكلمة وحرفًا، علمتها قلوب المحبين، وأسكرت بها نفوس الهائمين.
يا شعلة هيام، وسحائب أحزان، لو همت على جلمود صخر لفتتته! يا كوكبًا دريًا بزيت أحزانه يضيء ويشتعل، يا حمامة خفاقة في سماء الأولياء تحلقين والنجوم الوسنى بآهاتك توقظين. يا لواعج روحك كم أحزنت من أرواح، وأحرقت من أكباد، وكم أذابت من أفئدة، فسالت تجري على الخدود دمعًا كاويًّا يبل المحاريب العطشى والليالي الظمأى.
أنت يا رابعة، مذاب شوق في كؤوس الشاربين، ومعتصر هوى في أقداح السكارى الهاربين من أنفسهم، والمتزاحمين بالمناكب على باب الله.
كم من هوى على عتبات الجوى، مات وهوى، وفي التراب انطوى، إلا هواك، زاده الجوى، وأشعل ناره الضنى، فزاد اتقادًا وفظل استعارًا، فطاشت به الكاسات، وتكسرت الأقداح، وانسفح الشراب، وأغلقت الحانات أبوابها، وتفرق ندماؤها في الطرقات يتطوحون ف حيرتهم، ويسألون الرائحين والغادين، عن سر ذلك الذي جرى، ولماذا جرى وكيف جرى…؟!
يا رابعة… يا صاحبة القلب الأواه… والشدو النواح، والشجو الصداح، المتكلم بجميع لغات العالم… إذا ذكر الله ارتجف لذكره السامعون، وارتج له الموج الصامت، والليل الساكن، والنجم الساهر، ومن ضجر قلبه من غاب، ومن ذهب لبه ومن آب، غنه الأنوار تنشق، والظلمات تنهد، والدمع ينهل، والطينة البشرية تتسامى وتتعالى، وترق وتشف، والدمع في مصفاة الروح يغدو رحيقًا زلالاً، والجسم هيكلاً نورانيًا يعود، مأوى لأسرار الروح، ومهبطًا لإلهامات الملأ الأعلى.
إذا راح قلبك في سجود، طوى الأمكنة والأزمان، ومضى يسرح في فضاء الكشف العيان، فإذا بأطياف السماوات تختفي وتماثيل الكائنات تنمحي، وطائر همتك يظل في صعود حتى يحط على معين الآزال والآباد، ليرتشف من ينابيع الخلود، ويغتسل بماء الحياة التي لا تموت، وهناك غيره تعالى لا ترين، ولسواه لا تنظرين. الكون عنك في غياب، والسماوات طيوف شاحبات، وكل شيء هالك إلا وجهه، وكل شيء زائل إلا صاحب الوجود الذي لا يحول ولا يزول.
* كتب أديب إبراهيم الدباغ رحمه الله هذا المقال في إسطنبول بتاريخ 11.11.2011