كان الطائر حبيسًا لأيام عديدة، طُوّق من عنقه وألقي بعيدًا عن الحقائق، إلا أنه تصدّى لذلك فبدأ يناقش وينقّب ويفكر ويعمل ويحفر. مضت السنون وهو على تلكم الحال مهموم منزو، لكن في أعماق داخله صراع حاد بين الخير والشر، بين الأنا والآخر، بين المواصلة والانسحاب، لم يكن يهتدي إلى حل وسط، بل كان غارقًا في أعماق كمٍّ هائل من الأفكار والمفاهيم والتيارات والفلسفات وتناقضات عقله وقلبه. لم يدرك عقله الصغير المتحيّز، وقلبه العاطفي المحدود، أن ثمة حقيقة واحدة وحيدة هي أم الحقائق الأخرى المتعددة والمختلفة في درجة الأهمية.
هذا الطائر الوحيد انتقل من مكان لآخر، وحمل معه الهم الكبير، هُجّر وهُوجم وقُوتل، إلا أنه أعرض عن سفاسف الأمور، وأبى وصمد أمام مطلبه الرباني الحضاري الأبي التليد.
هذا الطائر كان يضعف مرة ويقوى أخرى، تغيب بعض الأفكار والاعتقادات عن منظومة عقله فيطرح أسئلة عديدة لما يحدث له ولا يلقى لها جوابًا مقنعًا. فتجده ولفقدانه لهذا الاعتقاد الصائب، ولعدم توفر عقله على المستقبل الغشائي النوعي له، فإنه بطبيعة الحال لا يصل إلى تحليل عميق ونظرة شمولية كلية للظواهر التي تحصره، بل يُجبل على التفكير الجزيئي الذي يحلل كل ظرف على حدة، مما يعجز في الأخير عن إيجاد حل مثالي للمرض ذاته، بل يجد نفسه عالج الأعراض لا غير.
تعجب حقًّا حين يُراعى الاهتمام للمباني وتُنسى المعاني، ونتاجًا لكل ذلك، أصبحت الناس تناقش الأشخاص والأشياء بدلاً من الفكرة نفسها، فيبنى الحكم على طبيعة الإنسان وليس على طبيعة الفكرة في حد ذاتها.
تغيب أحيانًا عن اعتقاداته فكرة أن سر الحياة صبر ويقين واجتهاد، فاكفهرَّ في كثير من الأحيان من الأقدار التي تحويه، فتجاهل بأن كل ما قضاه الله له هو كل الخير وكل البشر وكل السعادة، وتجاهل في الحين الآخر بأن الفكرة العليا والأولى والأساسية للدين السرمدي (الإسلام) هي التسليم لله وتفويض كل الأمور إليه. ولما اكتشف ذلك الطائر جرْم تصرفه وقبْح نظرته القاصرة، زاد همّه وتضاعف دمعه واشتد أرقه.
وغاب كذلك عن جملة اعتقاداته بأن التعلم صبر واغتراب وكدّ وعمل، فبكى لحاله مرارًا لعدم قدرته على تفسير ما يعايشه، وإسقاط ما يطالعه على دائرة الواقع، وعجزه عن التركيب والتحليل، والوصول إلى حل للإشكاليات المركبة.
ونسي يومًا بأن المقصد الأسمى للخلافة والتعمير والبناء، هو الذوبان والانصهار مع الآخر مع تقليص حجم الأنا والتخفيف من ضخامتها، ونسي بأنه عليه أن ينسى نفسه، أي أن ينسى بأنه فعل وأنشأ وجاهد وخطط وعمل.. أن يحترق بصمت كبير دون أن يعلم الآخرون إلا إذا اقتضت الضرورة. وتناسى بأنه يجب عليه أن يعمل ضمن مجموعة لتكون النتائج أكثر فعالية ودقة، وأن العمل الفردي تشوبه نسبة كبيرة من النقص والسلب والتشوه، ولم يدرك فظاعة الطاقات التي ضاعت لغياب التوجيه والإرشاد.
واشتكى الطائر الحزين وبكى وتقطع واحترق لسؤال همّ عظيم: كيف الناس تأمرني بفعل وهي لا تفعله؟ ما الذي جعل الجسر بين الفكر والفعل وبين الفعل والفكر هشًا منهارًا؟ لماذا تتميز حياة الفعل بالجمود رغم غنى العقل بالمعارف!؟ لماذا الرسالة العصبية بين مرحلة الاعتقاد بفكرة ومرحلة فهمها ومرحلة تطبيقها بطيء جدًّا جدًّا!؟ فهنا حقًّا ابيضت عيناه من الحزن، فعقد العزم على السفر مرة أخرى للغوص في أسرار النفس البشرية، وهنا أيضا أعلن حقًا ضعفه وعجزه وقلة فهمه، ولكن تثبَّث وصمد.
استاء الطائر لمرات كثيرة عن حالة العلاقات الاجتماعية، وكيف أن الحب انعدم بين الناس حتى انسلخ من مفاهيمه الصحيحة “الجمال والحسن والرحمة والمودة”، وأصبح لفظًا يطلق على معاني “العار والفسق والخبث والفساد”، وأصبح المصطلح لا يعني إلا بما هو مشين.. والأدهى من ذلك هو أن توجهاتنا الفكرية المختلفة منعتنا من التعايش والتواصل، فتحيَّز كل واحد بانتمائه الجغرافي ونسيجه التاريخي، فاهتم الأغلب بتعداد أوجه الاختلاف، وعقدوا جلسات التخطيط لأجل القشور ونسوا اللب والمعنى، فتقطّع حبل التواصل واشتد النزيف، وتأزم المرض في ظل غياب الصفائح الدموية، حتى وصل الحال في بعض الأحيان إلى الفتن والحروب والنزاعات الطائفية الخاوية. فتعجب حقًّا حين يُراعى الاهتمام للمباني وتُنسى المعاني، ونتاجًا لكل ذلك، أصبحت الناس تناقش الأشخاص والأشياء بدلاً من الفكرة نفسها، فيبنى الحكم على طبيعة الإنسان وليس على طبيعة الفكرة في حد ذاتها.
وتعجب أيضًا من نقص اهتدائها وتحليلها السطحي للوقائع، وإسقاطها غير الممنهج للرؤى الكونية، ورؤيتها القاصرة للغير! كما استاء في المرة نفسها من كيف أن الناس لا تجد انسجامًا بينها، وتراحمًا وخدمة وتفانيًا لأجل رفعة بعضها البعض، وكيف أن البغض يحتل الحيز الأكبر من القلوب، ناهيك عن الحقد والحسد والشك؟!
وكان قد سلب نومه هذه المرة حالة أخلاقية هشة أصيبت بها العلاقات الاجتماعية؛ فهي ترى الحق باطلاً والباطل حقًّا، أي أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وكيف أن ذلك مستساغ بين الطباع البشرية؟ وكيف أننا لا نفهم أن مصيرنا متعلق بمدى امتثالنا لهذا الأمر الرباني، ومدى تأديتنا لهذا الواجب الإنساني؛ “واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”؟ ثم ما لبث الطائر أن يصفع نفسه بقوة بعد أن استعرض قائمة للمنكرات التي مر بها وسكت.. ولا زال الصراع قائمًا.
هذا الطائر كان يتلقى عدة رسائل وإشارات سريعة من ربه، بعضها تحذيرات لبعض الأخطاء المرتكبة، وأحيانًا شعاعات للخروج من قضايا مؤرقة، كما تأتي في مرات أخرى للاستذكار والاعتبار.. كان همّ هذا الطائر، أن يفهم مقصد كل ابتلاء وإشارة ورسالة، إلا أنه كان أحيانًا يتفطن لها بعد اجتياز الوقت.
كان هذا الطائر يرى أن الصلاح في تطبيق القرآن حرفيًّا واستحضاره في كل آن، وتوصل إلى أن معظم الأزمات التي يعاني منها إنما هي نتيجة فهمه القاصر له. فعاهد نفسه على حمل رسالته لإنقاذ روح الإيمان، وتبليغ الناس بأن سناه لا يخبو ونوره لا يأفل وطاقته لا تضعف وإعجازه لا ينمحي.
وفي يوم كان قد كُتب لهذه الأمة شروقًا لن يأفل، وصحوة لن تذبل، حينها تحرّر الطائر وقد أتم مهمته النبيلة الحضارية وقد شيد الصرح القويم، فسمع صوتًا خافتًا يغمره لطف نوراني رباني يهمس من الأعماق: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّة * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)(الفجر:27-30). هذا الطائر فرد في جهوده، لكن النتيجة التي توصل إليها هي خلاصة بعض الطيور الخيرة التي عاصرته رغم اختلاف الوسائل والطرق. كانت أجيالاً متتالية، كلما انقضى أحدها همس لأخيه الثاني: “إياك أن توقظ ربيعًا همجيًّا، بل امض في زرع البذور واتركها ستلد الأمة من جديد وستعود إلى ركب الحضارة، لا تستعجل”.
هذه دورة حياة إنسان راشد، حامل لهمّ الأمة، معتقد بضرورة الانصهار والتفاعل والمعاناة، ومؤمن بنظرية “اتركْ أثرًا”، وماض في سبيل الفعل، أنيسه في ذلك قول أحد المفكرين: “عندما لا يحترق القلب شوقًا، والروح عذابًا، والذهن همًّا، فلا تتكلم، وإلا فلن تجد أحدًا يصغي إليك”.
يقضي حياته جريًا وراء الحقيقة، وتنقيبًا من أجل الحصول على اللب وإن كثرت العراقيل وتعددت التناقضات، ثم يبشره الله في آخر المطاف بالنجاح الأخروي الأبدي، وهذا مقصد قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران:200).
(*) كاتبة جزائرية.